شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!
يوميات فيتغنشتاين... جندي خال من الأيديولوجيا

يوميات فيتغنشتاين... جندي خال من الأيديولوجيا

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الثلاثاء 16 أغسطس 202210:00 ص

يمتلك النوع السردي من حكايات الجنود ومذكراتهم، سحراً من الصعب مقاومته، كل ما يصل من الجبهة ذو قيمة ترتبط بكاتبه لا بجمالياته فقط، فالجندي، قريب من الموت، وكلماته التي تحمل مشاعره وخوفه...الخ، شهادةٌ على أقسى التجارب الإنسانيّة، التي تتمثل بأن تقاتل وتموت (أو تحيا) في سبيل فكرة، سواء كنا نتحدث عن جندي مؤمن بما يقوم به أو ساخر من كل مهمته، فنهايةً هو من يدفع الثمن.

نتورط في اللغة العاطفيّة والشعرية حين الكتابة عن هكذا موضوع، لكن البلاغة الرسمية والعسكريّة تسعفنا، بوصفها  أكثر وضوحاً، وأقل إنسانيّةً، كونها ترى في الجندي غرضاً عليه أن يحقق مهمة تدرّب أحياناً لسنوات لأجلها. من هذا المنطلق يمكن القول إن هناك أنواع للجنود وكيفية أدلجتهم، أي تحويلهم لا فقط إلى "أسلحة" في المعركة بل ماكينات تتبنى أفكاراً وتبثها وتطبقها، إذ نقرأ مثلاً في بحث بعنوان "المشي عبر الجدران" المنشور عام 2007، من إنجاز إيال وايزمان، عن الجندي المفاهيمي، أو بصورة أدق "آلة القتل المفاهيمية"، المقاربة التي طورها شيمون نافاه أو "فوكو ذو العضلات" القائد العسكري السابق والباحث في الشؤون العسكريّة، الذي أعاد النظر في تقنيات عمل جيش الدفاع الإسرائيلي، وذلك لإنتاج جيش قادر على التأقلم مع ساحة المعركة، أو بصورة أدق، زحزحة ترابها ليحقق انتصاره على من فيها. نافاه كان واحد من مدرّسي  أفيف كوشافي القائد العام لقوات الدفاع الإسرائيلية منذ 2019، وكان هدفه، إنتاج جندي قادر على تحويل إي مكان إلى حصن يقتل منه "أعداءه".

الجندي محط الجهود الأيدولوجية بشكلها الفج (لباس رسمي، شعارات، شكل موحد، نظام داخلي، هرمية قاسية...الخ)، هو جزء من جهاز الدولة المسؤول عن قتال الأعداء وحماية المواطنين، فإن كان الجندي المفاهيمي يسعى لضرب الحياة في المدينة التي يحاصرها، كما حصل في نابلس عام 2002، هناك الجندي المُحرِّر، المشبع بالأيديولوجيا، كفيودور شوخوف، السوفيتي، الغازي الأحمر، مُحطم نير الاستبداد، الذي نتعرف عليه في فيلم "شمس الصحراء البيضاء" المُنتج عام 1969 للمخرج Vladimir Motyl، والذي يحرر فيه شوخوف الحريم من أَسرِهم، وينشر الأفكار الشيوعية، محولاً كل من هم على طريقه إلى رفاق في النضال.

في الحرب، وكي تنجو من جروح الدماغ عليك بالتالي: اقرأ ليو تولستوي، فكر بالقضايا المنطقية، واستمن

هناك أيضاً الجندي العقائدي التابع للجيش السوري، الذي يمكن فهم دوره من الفاتحة العسكريّة التي يحفظها البعض، جنوداً ومدنيين، عن ظهر قلب : "بما أن قوة الجيش في نظامه فيقتضي على الرئيس أن يحوز على طاعة مرؤوسيه التامة وخضوعهم في كل الأوقات، وأن تنفذ الأوامر بحذافيرها دون تردد أو تذمر، والسلطة التي تصدرها هي المسؤولة عنها، ولا يحق لمرؤوس أن يعترض حتى ينفذ ما أمر به "، هناك أيضاً الجندي الأشد عقائديّة، التابع للجماعات الإسلاميّة، إذ يلخص أبو شعيب طلحة المسير في كتاب صادر مؤخراً هدف "الجهاد الشامي" وربما أيديولوجيا المقاتلين/ الجنود بقوله إن ما يسعون إليه هو تحرير أرض الشام من النظام البعثي الكافر وفضح تقنية السامري في الحكم!

الجندي المفرط في منطقيته

هل من داع للتعريف بلودفيج فيتغنشتاين  (1889-1951)؟ ربما نعم، لكن لن نقوم بذلك، فالكتاب الصادر مؤخراً لأول مرة بالإنجليزية لا يشمل أوراق الفيلسوف المشهورة، بل ملاحظاته الخاصة، أو يومياته التي دونها حين كان على خط الجبهة في الحرب العالميّة الأولى بين عامي 1914- 1916، تلك التي التحق بهما بعمر الـ25، وقبل أن يظهر كتابه الأشهر "تراكتوس-لوجيكو- فيلوسوفيكس" عام 1921، (يترجم البعض عنوان الكتاب بـرسالة منطقية فلسفيّة).

تطوع فيتغنشتاين بالجيش ليشارك في "السفر برلك" حسب التسمية العربيّة، لكن هذه ليست المفاجأة الأولى، (أي أنه تطوّع) فحياته مليئة بالتناقضات التي لم تستطع القراءات الهوياتية المعاصرة أن تهدد عبرها منجزه الفكري، فهو من أصول يهودية لكنه كاثوليكي. مثلي يخفي ميوله. يكتب دون أي اعتبار للشكل الأكاديمي أو اللغة الواضحة أو العلامات المرجعيّة. تخلى عن ثروته كلها لأجل "المنطق". درس الهندسة الميكانيكية قبل أن يتفرغ للدراسة والتدريس في كامبريدج. والأهم، يفضل غوته على شكسبير، فشخصيات الأول أشد خلوداً وتعقيداً! عاش صاحب "في اليقين" رافعاً شعار: "حدود لغتي هي حدود عالمي".

تسجل المذكرات والدفاتر الثلاثة الصادرة مؤخراً بعنوان: "Private Notebooks 1914-1916" حياة فيتغنشتاين على الجبهة، بوصفه جندياً عادياً في الجيش النمساوي، بصورة أدق المملكة النمساوية-الهنغارية، إذ رفض أن يكون ضابطاً، والتحق بالخدمة على الجبهة الشرقيّة ضد الروس، وهنا الغريب، لا نجد في المذكرات ولا خارجها أي دوافع وطنية أو ميلاً سياسياً نحو معسكر أو آخر، خصوصاً أنه قبلها كانت يدرس المنطق مع بيرنارد راسل، في بريطانيا، عدوة المملكة التي تطوع ليخدم في جيشها.

الجندي حامل للأيديولوجيا، بل ممثل لها، هو مفاهيمي، عقائدي، تنويري... لكن هل من جندي بلا أيديولوجيا ؟

لكن لماذا نكتب عن هذا "الجندي-مشروع الفيلسوف" الذي حينها، لم يكن اسمه يدب الرعب في أوساط الفلاسفة والشعراء والفنانين؟ ذاك الذي كان مسؤولاً عن الضوء الكشاف على سطح سفينة تقطع نهر فيستولا في بولندا جيئة وذهاباً؟

يمكن القول تدليلاً للفضول، أو إن أردنا التحذلق، لنعرف كيف نجا "عقل" فيتغنشتاين من تلك التجربة، خصوصاً أن شذرات اليوميات، لا تكشف عن سطوة الحرب أو الخوف من الموت! بل يمكن أن نستخلص منها دليلاً للحفاظ على "العقل"  في ظل حرب سميت أعراض ما بعد الصدمة التي سببتها بـجروح الدماغ (هنا لا يمكن تفويت المفارقة)، فالفيلسوف الشاب، على الرغم من كل ما حوله، كان مصمماً على العمل (يشير في المذكرات إلى القضايا التي يناقشها ويكتبها بكلمة العمل)، وكأن كل ما يمر به، وما يختبره من مدافع وموت وثرثرات الضباط الوشاة، ليست إلا سوء فهم لغوي، وهو الوحيد القادر على إيضاحه، والوصول إلى خلاصة ونحو قادر على تفسير كل اللغط، أما المجندون حوله، أولئك المساكين، الذين لا يكن احتراماً لهم، فربما، ليسوا إلا ضحايا الألاعيب اللغوية، فهل من  المعقول أن يخاطر أحدهم بحياته، لأجل مجموعة من الكلمات التي تجمعها قواعد نحوية لا يمكن التيقن من صحتها؟

فقدان القدرة على تمييز الذات والآخرين من أشد نتائج الحرب قسوة، حين يفقد الجندي (أناه) يموت دون يفنى...

لا يهدد استخدام فيتغشنان لمجازات الحرب أفكاره، فكلمات كـ"حصن الأفكار" و"سيل الدماء" في سبيل "العمل" ليست أكثر من مجازات، ذات الأمر حين يكتب "ليكن الله معي" في نهاية بعض الملاحظات، فأي إله هذا الذي يتكلم عنه؟ هو "يعمل"، لا يقاتل لأجل قضية أو مبدأ، الملفت أيضاً، أن فيتغنشتاين، يقدم لنفسه عزاء، عبارة يمكن أن تكتب على قبره، فإن كان بعض الجنود يموتون للشهادة، وآخرين لأجل الحزب أو لأجل الوطن، كتب فيتغنشتاين حين لم ينم لمدة 30 ساعة في 13/09/1914، التالي :"إن كانت هذه نهايتي، لأموتن موتاً جيداً،  يليق بأفضل نسخةٍ مني، علّي لا أفقد نفسي أبداً"، يتكرر موضوع الموت لاحقاً، فلا يفكر فيه، إن مات الآن أو بعد شهر، أو  بعد عام، لا جدوى من التفكير، يكفي فقط، أن يعيش ويترك الحياة تنتهي وفق إيقاعها.

كيف تنجو من حرب ستجرح عقلك

يصلي بعض الجنود، بعضهم ينتظر رسالة من الحبيبة، البعض الآخر يريد أن يقتل بهدف القتل، أو لإنقاذ مواطنيه، كل واحدة من هذه المواقف/ المعتقدات تعكس موقفاً إيديولوجياً، قد لا يتفق مع نتيجة الحرب (بعض الجنود يفقدون عقولهم، أو لا يستشهدون، أو تتركهم المحبوبة، بل ويمكن بكل بساطة أن يموتوا)، لكن في حالة فيتغنشتاين الشأن مختلف تماماً، إذ نتلمس في الدفاتر الثلاثة، مجموعة من التمرينات التي يمكن اتباعها في حال وجد المرء نفسه على الجبهة، أو في مساحة تُهدد فيها حياته، ضمن حرب عبثية قذائفها تقترب منه وتبتعد دون أن يعرف لماذا، فبينما يدلل الشائعات وينفي الاتهامات بالجبن، وينتظر رسالة أو خبر من أم أو عشيق، يقدم لنا فيتغنشتاين تعليمات مختزلة للنجاة بالعقل يمكن تلخيصها بالتالي:

1-    اقرأ ليو تولستوي: كان فيتغنشتاين حينها يقرأ كتاب "مختصر الكتاب المقدس" لليو تولستوي، لم يقتنع به، لكنه كان سلوانه، كما يبدو أنه كان يسخر منه حين ينهي بعض ملاحظاتها بـ "أعانني الله"، (بعد أن نقل فيتغنشتاين من مركزه بين 1914-1915، بدأ يقرأ "ضد المسيح" لنيتشه، موافقاً على آرائه شديدة النقديّة).

2-    استمن: يتكرر الاستمناء لدى فيتغنشتاين، لكن هناك مشكلة، عدم الاستمناء يثير القلق، قلة الاستمناء تثير القلق، كثرة الاستمناء تثير القلق، ما هو أكيد هو أنه يجب أن تستمني.

3-    اكتب في المنطق: فكّر في قضايا لغوية، بسّطها، أكتب عنها، فكّر بها، حين تعجز، اتركها ثم عد إليها لاحقاً، فما يحصل ليس إلا نتاج سوء فهم فادح، مثلاً : ما الذي يجعل عبارة "كلنا فداء للوطن" صحيحة وخاطئة في ذات الوقت!

ملاحظة1: لا يمتلك صوت المدفعية أي تأثير فتجاهله، أو ستعتاد عليه من تلقاء نفسك.

ملاحظة2: لا تقرأ الجرائد، فلا خير يأتي منها.

متى مات فيتغنشتاين؟

في الثامن عشر من شهر آب، عام 1914، استيقظ فيتغنشتاين فزعاً، صرخ به الضابط وطلب منه أن يذهب لإنارة الضوء الكشاف في مقدمة المركب. لم يسمح له بأن يرتدي ثيابه، خرج عارياً. الطقس شديد البرودة. كان متأكداً من موته لحظتها، لكنه لم يَجبُن، أشعل الضوء، ثم عاد وارتدى ثيابه.

ربما الموت في حالة الحرب، يكمن بالعمه، بالعجز عن تمييز التشابه مع الآخر، ما يعني، العجز عن إدراك الأنا، لذلك ربما، كتب فيتغنشتاين سابقاً فيما يشبه تأبيناً لذاته إن رحل: "علّي لا أفقد نفسي أبداً"

كان إنذاراً وهمياً. ليلتها قال إنه تجاوز أهوال الحرب، لكن الملفت، أنه بعد ثلاثة أيام، أي في الـ21 من ذات الشهر، كتب عبارة مثيرة للجدل والتفكير :"أحياناً، لا أستطيع أن أميز الإنسان داخل الإنسان"، يتابع بعدها خائفاً من عدم قدرته على متابعة "العمل" ثم يختم: "أشعر الآن بأني غير مألوف؟ لا أرى أي شيء!".

تكرر هذا الشأن لاحقاً، الأنا التي كان يلجأ إليها ويأمن داخلها، أصبحت بعيدة كجزيرة مهجورة، لن نناقش المجاز هنا، "جزيرة-نهر-قارب"، لكن الواضح أن هناك وعياً بالخسارة، أساسه عدم تمييز المكونات التي تشكل الأنا. هل دمرتها الحرب؟ الأهم ما هي المكونات التي تشكل الآخر، الإنسان؟ هل تسحقها الحرب؟ ربما الموت في حالة الحرب، يكمن بالعمه، بالعجز عن تمييز التشابه مع الآخر، ما يعني، العجز عن إدراك الأنا، لذلك ربما، كتب سابقاً فيما يشبه تأبيناً لذاته إن رحل: "علّي لا أفقد نفسي أبداً".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel
Website by WhiteBeard