كان يوماً دراسياً طويلاً، أذكر حتى الآن قطرات العرق التي راحت تتصبّب من على جبيني وعلى طول وجهي، فكانت معلمة التربية الإسلامية في أشدّ أوجها المعطاء، حيث وضعت أمامنا جسدين لدمى من لعبة باربي، كل منهما في هيئة خاصة، إحداهما جميلة الهيئة، وفي كفن مرتب وأبيض ناصع البياض في قبر مليء باللون الأخضر، وإلى جانبها دمية أخرى بمظهر شنيع، ثم أمسكت المعلمة كلاً من الدمى، وخلعت عنها الكفن لنجد أن الدمية التي تبدو في هيئة جميلة ومرتبة ترتدي عباءة سوداء تغطي جسدها حتى أصابع أقدامها، ويغطي رأسها حجاب، أما الدمية الأخرى، فكانت ترتدي فستاناً قصيراً، كاشفة رأسها وشعرها ومفاتن جسدها، ثم تتجوّل المعلمة بين المقاعد وتقول: "عورة ... عورة"، بصوت جهوري مرعب، فمصير كل امرأة أثارت رجلاً بمفاتنها جهنم وبئس المصير، ومصير كل امرأة سترت جسدها جنات الخلد، هانئة في قبر يحضنها كما تحضن الأم وليدها، أما العاريات، والعياذ بالله، فمصيرهن قبر ملتهب تتقلبن فيه فوق حجارة جهنم.
حيرتي ابتدأت من هناك: لمَ يعاقبنا الرب الذي يحمل صفات الرحمن والغفور والرحيم؟ ولمَ يعرّفوننا على الرب بجهنم والعذاب واللهيب؟ ولم الخطاب الديني دوماً موجه للمرأة لا الرجل؟ ثم تبدّدت حيرتي حين اكتشفت أخيراً أن الإله الذي ورثته عن أبي وأمي وعائلتيهما سيعاقبني على أسئلتي أشد العقاب.
عندما وصلت الى سن الإدراك تيقنت بأن الإله الذي ورثته عن أبي وأمي وعائلتيهما، أصبح لا يطيقني ولا يطيق تصرفاتي التي تدعو للحرية والتعدّد
هل انتقلت لي ديانتي من أهلي بالجينات؟
طرحت مرات، عبر مواقع التواصل الاجتماعي، آرائي الخاصة حول موضوعات قد يكون من المحرّم إدلاء امرأة رأياً فيها، فكان البعض، ممن يمارس مهمة "الجهاد الإلكتروني" عبر منصات التواصل الاجتماعي، يصفني بحفيدة نوال السعداوي، "شو بدكن تخربن عقول النسوان"، فالحقيقة أن المجتمع العربي بأغلبه لا يتصدى للأفكار المغايرة سوى إن كانت علنية بينما يمارس بالخفاء كل شيء يصرّح برفضه في العلن، كما أن ظهور شيء جديد يزعزع حقيقة ما وجدوا عليه آباءهم، أي ما يجعلهم يشعرون بالخوف والرهبة، فتمسّكهم بمثل هذه المراجع قد يشعرهم بالقوة والأمان، وأي شخص يعارض فكرة صغيرة حتى، وإن امتلك الحج البراهين على بطلانها، فإنه يزعزع الشعور بالاستقرار الذي يوجد داخلهم.
تساؤلات كثيرة دارت في رأسي بفضلها، أفكار كنت أخشى مصارحة من حولي بها: من حدّد هويتي؟ من قرّر لي الحياة؟ من اختار لي اسمي؟ أأنا موجودة لأرث عن أهلي ديانتهم؟ هل تنتقل الديانة من الأهل لأبنائهم بالجينات؟
قد تنتقل الصفات البشرية جينياً للأبناء مثل لون البشرة ولون العيون والطول والبنية الجسدية ولون الشعر وغيرها، فهل تنتقل الديانة بالوراثة؟ ككل طفل، خرجت من رحم أمي صحفة ناصعة البياض، ثم قرّر والداي، كما قرّر لهما أجدادي من قبل، الصورة التي اختيرت تلقائياً لنا جميعاً بلمساتهم الخاصة، وبخطوط وألوان معينة، فكتبوا على الصفحة الأولى من دفتر حياتي اسمي، ديانتي، جنسي... حتى أمشي على خط الطريق الذي أرادوه لي لأرافقهم به.
كابوس ما وجدنا عليه آباءنا
أتذكر الليلة التي اغتال به كابوس مرعب نومي الهانئ، ليفزع على صراخي كل من أبي وأمي، إذ رأيت نفسي في قبر ضيق، يستلقي جسدي على حجارة من نار، وترميني الشياطين ذات الهيئة المرعبة بالاشواك. ناولتني أمي كأس الماء وقالت: "بسم الله عليكِ شو صار؟". طرحت على كل منهما سؤال: "أنت مسلم/ة؟"، فنظر كل منهما للآخر وأجابا: "نعم". قلت: "طيب وأنا شو؟ مسلمة؟". تشاركا ذات النظرة السابقة لبعضهما وأجابا: "نعم وأنتِ كمان مسلمة"، قلت: "طيب مين أختار أكون مسلمة؟". أجابت أمي حينها أن ديانة الأباء تنتقل تلقائياً للأبناء وعلينا أن نؤمن بما وجد عليه أباءنا، قلت حينها: "بس مين قال بدي أكون مسلمة؟".
أندهش مني أبي وأمي وقالا: "ليش ما بدك تكوني مسلمة؟"، قلت: "أولاً أنا ما اخترت، علمتموني أن أختار بنفسي بعد أن أخترتم لي ديانتي، ثانياً، الله يعاقب كل من لا يتبع الدين الصحيح بجهنم"، وسردت لهم حينها ما حدث في غرفة الصف في درس التربية الإسلامية، والذي عاد إلي بهيئة كابوس مفزع.
عندما وصلت الى سن الإدراك تيقنت بأن الإله الذي ورثته عن أبي وأمي وعائلتيهما أصبح لا يطيقني ولا يطيق تصرفاتي التي تدعو للحرية والتعدد. كبرت وأنا أحمل الأفكار التي أختارها لي أجدادي الأولون، لكن بعد أن وجدت نفسي أتقبّل بتسامح ومحبة اختلاف الآخرين عني وجدت البعض يؤنبني على أفكاري المغايرة التي احترم بها كل من يختلف عني بالمعتقد والديانة والثقافة.
نوال السعداوي وكثيرون وكثيرات مثلها ومثلي، استمرّوا على ديانة الأهل بالصدفة، لأن "هذا ما وجدنا عليه آباءنا"، لكن ما كبرنا عليه هو الترهيب وليس الترغيب، وفكرة جهنم والعقاب وجمر النار ومصير الكفار، الكوابيس التي رافقت طفولتي البريئة التي دنستها معلمات المدراس بالخوف والبشاعة جعلتني أكثر هشاشة، هذا كله فتح لي أبواب زعزعة صحتي النفسية كطفلة، وكان العتبة لدخول عالم العقد النفسية.
لا أعتقد بأنني سأكون يوماً أمّاً مورّثة لأي شيء سوى الحرية، سأترك لبنتي حق الاختيار والتعلّم والتجربة والتفكير ودراسة الحالات، وسأطمح دوماً لدعم شخصيتها التي اختارتها بنفسها، وكل ما سأعلّمها إياه هو دروس احترام الآخر مهما كان يختلف عنا.
لا أعتقد بأنني سأكون يوماً أمّاً مورّثة لأي شيء سوى الحرية، سأترك لبنتي حق الاختيار والتعلّم والتجربة والتفكير ودراسة الحالات، وكل ما سأعلّمها إياه هو دروس احترام الآخر مهما كان يختلف عنا
اسمي رنيم، ابنة العظيمة فايزة
نواجه صراعاً حقيقياً مع النظام الأبوي والإرث الديني والثقافات القبلية المكتسبة وبعض الآراء في السياسة والحريات والمطالبة بالعدالة الاجتماعيةـ، وقد نقع في حفرة "ازدراء الأديان" تارة وحفرة "دعم الانحلال الأخلاقي" تارة أخرى، لكن والدتي هي من عانت من الاضطراب الهرموني الذي ترك آثاراً نفسية وجسدية، منذ اللحظة الأولى للحمل وحتى المخاض والأمومة والرضاعة والسهر والنفاس والتربية والتعليم، حتى اللحظة التي توقف بها قلبها خلال العملية القيصرية، وقبلها بتسعة أشهر، أي بعد ستة أشهر فقط من ولادتها القيصرية الأولى لأختي، إضافة للكيلوغرامات التي تكدّست في جسدها بعد كل ولادة، فلماذا لا تستحق أمهاتنا أن نحمل أسماءهن للخلود؟ ولم من يحمل اسم امه فقط الطفل مجهول نسب الأب، وتعتبر المطالبة بمثل هذا الموضوع خطاً أحمر ومن الممنوعات التي تضع أمهاتنا تحت خانة الشك؟
ولماذا يعتبر الخروج عن المألوف الذي نشأنا عليه كالدوس على قنبلة قد تتفجر بك ولا تقتل إلا صاحبها؟ المألوف اليوم هو نوع من "العلف" الاجتماعي الذي يأكله الجميع، فأي إنسان يقتات من ذات القيم المجتمعية والمعتقدات والثقافات والديانات، وإذا صرّح بمخالفتها يرتكب جريمة.
عزيزي الرجل، عزيزتي المرأة، قدرتك الجنسية على التكاثر والإنجاب لا تؤهلك لأن تنقل صبغتك إلى الأبناء، اليوم وبعد الثورات الصناعية والتكنولوجية والعلمية والتطور والاكتشافات العلمية التي وضعت الموروثات الخاطئة تحت التجارب، وحلّلت ووضحت بالحجج والبراهين الأخطاء العظيمة التي نشأنا عليها، لماذا تنقل معتقداتك الموروثة بالأصل تحت مسمى الفطرة لأبنائك؟ ولمَ لا تترك مثل هذه المواضيع الحساسة ليقرّرها بعد وصوله لسن يؤهله لاختيار دينه وما يريد أن يحمل من عقيدة وقيم ومبادئ وأفكار، كلها نتيجة لرحلته الخاصة، لا يوجد إرث ديني ينتقل عبر المشيمة، فلم تريدني أن أحمل مورّثات لا تعجبني؟
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ 3 ساعات??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 23 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون