بم بشّرتك القابلة يا أمي عندما أنجبت ابنتك الكبرى، وقالت لك "مبروك، بنت حلوة مثل القمر، كاملة الخلق والخلقة"؟
هل ضممت ابنتك إلى صدرك وأنت تحلمين بها عروساً تزفينها على باب بيتك، كما تأملين لها أن تكبر رافعةً رأسك ورأس أبيها، أن تربيها أحسن تربية، على الأخلاق والدين والعادات التي تربيت عليها، حتى اكتشفت مع مرور الأيام أن ابنتك الحلوة والجميلة غير طبيعية عن كل ما هو طبيعي حولك، مختلفة كل الاختلاف عمّا يحيط بك؟
ألم تخبرك القابلة يا أمي أني لن أغدو كما تمنيت لي، أني سأكون مختلفة عنكم أيضاً، غريبة لا أشبهكم بشيء، لن أرث عنكم عقولكم المتحجّرة المقتنعة أن المرأة ونس وأن الرجال قوّامون على النساء، فما كانت في نظركم هذه الابنة إلا طيراً ضالاً مغرداً خارج السرب؟
هل أخبرتك أن ابنتك بعيدة كل البعد عنكم، تنشأ غريبة بينكم، لا تعرفونها ولا تعرفكم، تدافع عن حقوق النساء ولا تخشى الملامة بينكم. نسوية، متحرّرة من أفكاركم المقيدة بنظرة المجتمع وأحكامه المتخلفة؟
فهي على الرغم من أنها تشبه أباها وأمها في كثير من الملامح والصور، إلا أنها، لأسف من حولها، تشكل فضيحة يتوجّب عليهم لمّها والحرص على إخفائها عن العيون، كونها على غير ما يناسب العادات والتقاليد من سائر عائلتها المحافظة؛ مثقفة، منفتحة، ذات شخصية ورأي، والأسوأ من هذا وذاك: لا تخشى أن تصارح الرجال برأيها في أي مجلس.
كيف تلقيت الخبر يا أمي، حين عرفت أن ابنتك الجميلة ستغدو مطلّقة بعمر الثلاثين، لأنها لا تطيق رجلاً لا يحترم كيانها؟
كيف تلقيت الخبر حين عرفت أن ابنتك الجميلة ستغدو مطلّقة بعمر الثلاثين، لأنها لا تطيق رجلاً لا يحترم كيانها؟ بمَ برّرت قرارات ابنتك التي لا تتوافق مع أهواء المجتمع الذي تحرصين حرصاً شديداً على موافقته؟ بما أخبرت أمك وأخواتك وجاراتك اللواتي ينتظرن هفوةً منك ليشمتن بك على ابنتك المتحرّرة، ويقلن لك بنظرة يملؤها التعالي والكبر: "شفتي، حكينالك معطية بنتك حرية زيادة، البنات ما بينعطو عين"؟
ألم تخبرك أيضاً أن لابنتك كياناً كإنسان قبل أن تتجسّد فيها وظيفة زوجة أو أم أو أخت أو شرف أو عرض، حيث فُرض عليها أن صوتها عورة، وينبغي ألا تظهر في مجلس رجال لتحافظ على سمعة عائلتها الفاضلة من الأقاويل، أن عليها الحفاظ على قيمٍ هي لم توافق على أن تكون جزءاً منها أو تعبّر عنها؟
منذ أن فتحت عينيها على هذه الدنيا تبدأ التعاليم من "قومي جيبي لأخوكي كاسة مي"، وتظل هذه المطالب تكبر وتلتف حول عنقها حتى تتعدّى حد الاساءة إلى "معلش ظل راجل ولا ظل حيطة"، أو "أنت وصلتيه يمد إيده عليكي"، أو "بدك تفضحينا وتتطلقي؟ اصبري هاد نصيبك"، دون أن يكون هناك مجال أو فرصة تسمح لقول كلمة لا.
"معلش ظل راجل ولا ظل حيطة"... الحيطة لا تميل عليّ، ولا أكترث للعيب الذي هو أصلاً عيب فيكم أن تقبلوا به، والفضيحة لمن ينام قرير العين وابنته في بيت قاتلها
الحيطة لا تميل عليّ، ولا أكترث للعيب الذي هو أصلاً عيب فيكم أن تقبلوا به، والفضيحة لمن ينام قرير العين وابنته في بيت قاتلها.
لم على المرأة أو الفتاة أن تنشأ منذ نعومة أظفارها في قوالب وأدوار جندرية تحدّد دورها في المجتمع كامرأة بغض النظر عن كيانها كإنسان؟ لم عليها أن تبرّر قراراتها المصيرية عندما تفكر بالانفصال عن رجل مسيء لها، لم قرار امرأة بالانفصال يحدّد مصير أخواتها بالزواج أو حتى مصيرها هي من زواج مستقبلي، لم اختيار فتاة لحياة العزوبية قرار لا يحترم بل يواجه بعين الشفقة تحت مسمّى "العنوسة" ويوصف له دعوات النصيب العاجل، ناهيك عن زواج أرملة مقارنة بزواج أرمل، فتختار الأرملة مجبرةً أن تقضي الدهر وحيدةً تقاسي الحياة كفاً لألسنة الناس عنها، بدلاً من أن تقول لا، جواباً لكلمتين: هذا عيب. أي عيب ذلك الذي يحكم على أي كيان إنساني بتعاسة أبدية؟
إن كانت أبسط حقوق الإنسان ما تزال حقاً منتزعاً في مفهوم العيب، فتباً للعيب! أما آن لنا أن نقول لا، العيب علينا، نحن نغيّر مفاهيمه ونشكلها كما نريد، متى نريد. العيب أن نخاف؟
ألم تخبرك يا أمي، أن ابنتك الكبرى من النساء اللواتي يتحدّثن بصوت عالٍ ويطالبن بحقوقهن، متحرّرة من العقليات المحافظة وتدافع عن حقوق النساء، خارجة عن قوانين كل ما هو عيب، لا تخاف، تصرخ بأعلى صوتها بين الرجال: تباً للعيب! العيب عليكم إن لم تصونوا النساء.
حتى وإن عاشت غريبة بينكم ومختلفة عنكم طيلة حياتها، فالغربة الحقيقية عندما تسلب حقوق الإنسان لا عند المطالبة بها. إن لم تطالب النساء بحقوق النساء، فمن سيفعل؟
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...