شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
سوريات في مهبّ الريح... الطريق الأسهل لكسب المال

سوريات في مهبّ الريح... الطريق الأسهل لكسب المال

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والنساء

الاثنين 24 يوليو 202311:23 ص

_ أنا المهندسة سعاد، أبحث عن عمل.

_ اتركي لنا اسمك ورقمك وسنتصل بك حال توفر الشاغر.

هذا الردّ أفضل ما قد يتلقاه حامل شهادة يبحث عن فرصة عمل في بلد يرزخ تحت وطأة الحرب منذ عقد، ولعنة الفساد منذ عقود.

قلّة فرص العمل والرواتب الزهيدة التي تدفعها الحكومة لموظفيها دفع معظم الناس إلى البحث عن فرص عمل عن بعد، فمع تطور التكنولوجيا وتوفر الإنترنت، أصبح بإمكان أي شخص في العالم إنجاز عمل لأي شخص آخر في بقعة أخرى من العالم، ومع تدهور قيمة الليرة السورية أمام الدولار، راح الشباب السوري يتجه للبحث عن عمل لدى الجهات الخارجية، العربية منها والأجنبية، فما يدفعونه لقاء إنجاز مشروع واحد قد يساوي، في أسوأ الأحوال، عشرة أضعاف راتب الموظف السوري، من جهة أخرى باتت هذه الجهات الأجنبية تبحث وتستقطب منفذي مشاريع عرب، لا بل سوريين بشكل خاص، لسبب لم يعد يخفى على أحد... نحن نرضى بالأجور الزهيدة.

الأجور الزهيدة بالنسبة لهم هي أجور ممتازة جداً بالنسبة لنا، فهم يدفعون لموظفيهم بالعملة الصعبة، العملة الصعبة كما يسمّيها الناس الذين حُرّم عليهم في هذه البلاد لفظ اسمها أو تداولها أو حتى حيازتها، حسب ما جاء في أحد المراسيم التشريعية التي تبرع الحكومة في استصدارها، والمتضمّن "تشديد عقوبة كل من يتعامل بغير الليرة السورية كوسيلة للمدفوعات، أو لأي نوع من أنواع التداول التجاري أو التسديدات النقدية، سواء كان ذلك بالقطع الأجنبي أم المعادن الثمينة".

ورفع المرسوم العقوبة بالأشغال الشاقة المؤقتة لمدة لا تقل عن سبع سنوات بعدما كانت تنصّ على الحبس من ستة أشهر إلى ثلاث سنوات، مع دفع غرامة مالية.

كان كل شيء يسير على ما يرام في الأسابيع الثلاثة الأولى إلى أن صدمتني تلك الرسالة من أحد الداعمين أرسلها على الخاص يطلب فيها محادثة جنسية، كتب بالحرف الواحد: "ابسطيني وخدي شو ما بدك"

إلا أنه وعلى الرغم من الأجر الجيد الذي يوفره العمل الحر، ثمة مساوئ عديدة له، أبرزها أنه لا ضمانات فيه للحصول على حقك سوى الضمير الحي والرادع الأخلاقي. حدث معي مرة أنني أرسلت عشرة مقالات لإحدى المجلات الإلكترونية، وعندما حان وقت الدفع اختفى العميل بكل بساطة، أجلس اليوم أقرأها مذيلة باسم غيري، وأضحك على نفسي، لكن ما من سبيل هنا سوى المغامرة.

انخراط الشباب في سوق العمل هذا دفعهم إلى إنشاء مجموعات لا حصر لها على وسائل التواصل الاجتماعي تختص بنشر فرص (الفريلانس) أي العمل الحر، إذا ما قمت بجولة داخل هذه المجموعات ستجد العديد من العروض والطلبات في مختلف المجالات، كالتصميم، وكتابة المحتوى، والترجمة، وغيرها.

لكن أكثر ما ستصادفه من كل ذلك، هو إعلانات تبدو في ظاهرها جذّابة لعمل مريح، سيدرّ عليك ثروات تجعل منك مليونيراً في عدة أشهر.

 منها على سبيل المثال هذا الإعلان الذي صادف سعاد: "صبايا... شغل على برنامج إنترنت فكرته بسيطة. فيكي تجيبي بالشهر 200 ألف وفيكي تجيبي مليون، انتي وشطارتك، الشغل مضمون وهوي للصبايا فقط من عمر 18 لعمر 50 ما بدي شباب... يلي بدها تشتغل تعلق وأنا بحاكيها... في دفعة مقدمة عالحساب".

وعلى الرغم من الأسئلة التي دارت في رأسها: لماذا يريدون إناثاً فقط؟ وما هو هذا العمل البسيط الذي سيدرّ عليك هذه المبالغ؟ إلا أنها قامت بالتعليق على المنشور بكلمة "مهتمة" لتصلها التفاصيل من صاحبة الإعلان سريعاً: "برنامج للدردشة والبثّ المباشر... كل ما عليك فعله الظهور أمام الكاميرا لطرح مواضيع مختلفة والردّ على رسائل المتابعين... نشاطك هذا سيجمع لك الألماس الذي سنحوّله نحن لك إلى دولارات، ومن ثم تصلك عبر احدى شركات التحويل بالليرة السورية".

فكرت سعاد ملياً: ما الذي يمكنها تقديمه عبر بثّ مباشر... حسن لا بأس، أدخل ونرى هناك كيف تسير الأمور طالما لا عمل غيره متاح.

الغرب يسخّر التكنولوجيا لغرض ما والعرب يشدّونها من أذنها لأغراض أخرى                                      

وجدت غرف الدردشة النصية منذ عام 1988 على يد عالم كمبيوتر فنلندي، في الوقت الذي لم نكن نحن قد سمعنا بالإنترنت، وتطوّرت عبر الزمن حتى تمّ إنشاء تطبيقات البثّ المباشر عام 1995، وهكذا حتى وصلت إلينا.

في السنوات الأخيرة، ومع انتشار فيروس كورونا الذي أجبر الناس على التباعد الاجتماعي، تم تطوير هذه التطبيقات من قبل شركات من مختلف أنحاء العالم، تسمح هذه التطبيقات لمستخدميها عرض مواهبهم أو مشاركة أنشطتهم اليومية أو بثّ مقاطع الفيديو الخاصة بهم إلى جمهور كبير، أو ببساطة التفاعل المباشر مع المشاهدين من خلال الدردشة المباشرة.

Bigo live  و sugo  وMeyo وغيرها الكثير من الأسماء التي انتشرت مؤخراً لمثل هذه البرامج، تتيح للمشاهدين إرسال هدايا افتراضية إلى المذيعين، كشكل من أشكال التقدير أو الدعم، يمكن تحويل هذه الهدايا إلى أموال حقيقية، ما يوفّر فرصة للمذيعين لكسب الدخل من خلال التطبيق.

كما تحتوي هذه التطبيقات على ألعاب ذات ميزات متكاملة تسمح للمستخدمين اللعب داخل النظام الأساسي، أو مشاهدة الآخرين وهم يلعبون الألعاب مباشرة.

تجدر الإشارة إلى أنه بينما توفّر هذه التطبيقات منصّة للتعبير الإبداعي والتفاعل الاجتماعي، فقد واجهت بعض الخلافات المتعلقة بالمحتوى غير المناسب ومخاوف الخصوصية، ما جعل الشركات المنتجة لها تتخذ تدابير لمعالجة هذه المشكلات، من خلال تنفيذ سياسات أكثر صرامة للإشراف على المحتوى وتعزيز ميزات أمان المستخدم.

لكن على بابا يا ماما؟

تقول سعاد : كان كل شيء جيداً في البداية، قدّمت فقرات للأبراج كنت أقرأها من الصحف والمجلات. لم أكن أجيد الغناء ولا العزف وإنما كنت أجيد الرسم بحكم دراستي، لكن المشاهدين كانوا يعتبرون الرسم أمراً مملاً لا يستحق المتابعة ولا الدعم، فكانت الأبراج خياراً جيداً، بحسب ما نصحني به الوكيل.

والوكيل هو الشخص الذي تعمل تحت يده مجموعة من المذيعات أو المضيفات، كما تتم تسميتنا، وهو الذي يستلم الأموال من التطبيق ويحولها لنا.

كان كل شيء يسير على ما يرام في الأسابيع الثلاثة الأولى إلى أن صدمتني تلك الرسالة من أحد الداعمين أرسلها على الخاص يطلب فيها محادثة جنسية، كتب بالحرف الواحد: "ابسطيني وخدي شو ما بدك".

ارتجفت من الخوف وتوجّهت بالشكوى إلى الوكيل الذي أبدى دعمه ومساندته لي، وطلب مني حظر المستخدم المسيء. عندما تكرّر هذا الأمر قمت بالحظر مرة ثانية وثالثة ورابعة، إلى أن وجدت أن رصيدي من الألماس والهدايا يتدهور بسرعة، فلجأت مرّة أخرى بالشكوى إلى الوكيل.

قال لي: "يا سعاد، إذا كنت تريدين الحصول على المال عليك بمجاراتهم... خدي واعطي ضمن المقبول ولا تخافي طالما أنا معك". فقر حالنا في ازدياد. والدي مريض غير قادر على سد حاجياتنا بعمله وحده. إخوتي جميعهم صغار. أبواب الوظائف مغلقة في وجهي. لم يكن ثمة حل آخر.

الراتب الأول الذي حصلت عليه كان يضاهي رواتب عشرة موظفين حكوميين، أمام أهلي والجيران كنت أعمل على الإنترنت لصالح شركة أجنبية في مجال الهندسة، أمام نفسي كنت أحيانا ألعن هذا البلد المنحوس الذي أوصلنا إلى هنا، وأحياناً أخرى أنسى البلد بمن فيها، حين أستلم راتبي وأذهب للتسوّق، حالي حال آلاف الفتيات اللواتي يعملن في هذا المجال.

مها، أميرة، علياء، ندى، جميها أسماء مستعارة لنساء وفتيات قابلتهن في حياتي، قصصن علي تجاربهن مع هذه التطبيقات والبرامج التي تحوّلت في بلداننا العربية، من مشاريع تواصل وتسلية إلى مشاريع دعارة مبطنة

أما عني أنا، فطوال مدة إعدادي لهذه المادة كان دائماً يحضرني المثل القائل: "تجوع الحرة ولا تأكل بثدييها"، فما الذي دفع بأعداد هائلة من الفتيات إلى المتاجرة بأجسادهن في يومنا هذا؟

بدنا نعيش

مها، أميرة، علياء، ندى، جميها أسماء مستعارة لنساء وفتيات قابلتهن في حياتي على مرّ سنوات عديدة منذ انتشار هذه التطبيقات وحتى اليوم، قصصن علي تجاربهن مع هذه التطبيقات والبرامج التي تحوّلت في بلداننا العربية، من مشاريع تواصل وتسلية إلى مشاريع دعارة مبطنة.

قالت لي ندى: "مات زوجي وترك لي أكواماً من الديون، وأنا أم غير عاملة لأربعة أطفال، فماذا أفعل؟". ثم استدركت: "عندما تقع بين براثن الفقر عليك أن تتخلى عن القليل من مبادئك والكثير الكثير من كرامتك".

أما مها فكانت لها وجهة نظر أخرى تقول: "الشباب هبلان، ما بيعرفو وين بدهن يكبو مصرياتهن وأنا ذكية بعرف كيف إرضي الشب وآخد اللي بدي ياه وضل محافظة على حالي، البنت الغبية بس هيي اللي بتوقع".

جميع هؤلاء الفتيات اجتمعن على جملة واحدة لتبرير ما يسمونه عملاً، كانت هذه الجملة "بدنا نعيش".

تقف سعاد اليوم في أعلى درج بنايتي، متكئةً على عصا مكنسة بجانبها دلو ماء، تكمل قصتها ساهمة في البلاط المتسخ: "خرجت منذ مدة قصيرة من السجن، بعد أن ألقي القبض عليّ داخل شقة للدعارة، كان الوكيل ذاته هو من دفعنا إلى ذلك العمل بعد أن هدّدنا بصور ومقاطع فيديو. كنا خائفات ولا سند لنا، فاضطررنا أن نكمل الطريق كما يريد، طبعاً هو اختفى حال القبض علينا ولم يعرف له طريق.

سمعت أن والدي توفي بسكتة دماغية بعد يومين من فضيحتي، عندما خرجت من السجن غادرت المدينة التي كنت أسكنها مباشرة وأتيت إلى هنا باسم مستعار، أعيش عند امرأة مسنة لا معيل لها، أرعاها وأعمل في شطف الأدراج وتعزيل المنازل، تختتم حكايتها بقولها: "عندما أفكر من الملام في قصتي هذه؟ لا أجد جواباً سوى الظروف وهذا البلد العاهر".

أتركها وأجلس لأكمل الكتابة وأسئلة كثيرة تعصف في رأسي: من المسؤول عن الترويج لمثل هذا النوع من الدعارة، ولم لا تحظر هذه التطبيقات كما تحظر الكثير من الأشياء الأقل خطورة؟ ألا تخضع للرقابة كما تخضع كل وسيلة اتصال في هذا البلد؟ من المستفيد الأول والأخير من هدم جيل كامل من الشباب الذي نجا من الحرب بأضرار نفسية هائلة؟

أسئلة يفضل أن تبقى بلا إجابة، لأن الإجابة عليها قد تكون مخيفة جداً.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image