منذ توليه منصب الوزارة في عهد الخليفة الفاطمي العاضد لدين الله، وخلال السنوات الأولى لإقامة الدولة الأيوبية، تعرّض صلاح الدين الأيوبي لمؤامرات ومحاولات انقلابية، هدفت في الأساس إلى التخلص منه، ووأد الدولة الوليدة وإعادة الخلافة الفاطمية من جديد.
وكان الخليفة الفاطمي العاضد بالله، قد أرسل يستنجد بنور الدين محمود زنكي، أمير الدولة الزنكية، لمواجهة الصليبيين ومنعهم من دخول القاهرة، فأرسل نور الدين جيشاً بقيادة أسد الدين شيركوه، ومعه ابن أخيه صلاح الدين الأيوبي، ودخل الجيش القاهرةَ دون مقاومة. عند ذلك ارتد عموري ملك بيت المقدس إلى مدينة بلبيس شرق مصر، ثم أسرع في العودة إلى الشام في أوائل سنة 564 هـ/ 1169 م، بعد أن يئس من الاستيلاء على مصر يأساً تاماً.
وبحسب الدكتورة ليلى عبد الجواد إسماعيل، في كتابها "تاريخ الأيوبيين والمماليك في مصر والشام"، ارتفع نجم شيركوه وابن أخيه صلاح الدين بعد انسحاب الصليبيين، لذا حقد شاور بن مجير السعدي وزير الخليفة الفاطمي عليهما، وحاول التخلص منهما، غير أن العاضد وصلاح الدين أدركا خطورة شاور، وتسببه في فساد البلاد والعباد، لذا انتهز صلاح الدين وجماعة من أصحابه فرصة قدوم شاور لزيارة شيركوه، فانقضوا عليه وقتلوه هو وابنه الكامل، وأباحوا للعامة نهب قصره.
صلاح الدين الأيوبي وزيراً
بعد التخلص من شاور، عيّن الخليفة العاضد شيركوه وزيراً، وقلّده جميع أمور البلاد، ولقّبه بـ"الملك المنصور أمير الجيوش"، وبذلك أصبح شيركوه صاحب السلطة الفعلية في البلاد، وهو ما يعني أن مصر أصبحت جزءاً من الدولة الزنكية، وفي الوقت نفسه يظهر مدى ضعف الدولة الفاطمية، فشيركوه قائد حربي سنّي المذهب، شامي وليس مصرياً، فضلاً عن كونه رجل نور الدين، بحسب إسماعيل.
بعد سقوط الدولة الفاطمية وقيام الدولة الأيوبية، قامت في مصر مؤامرة خطيرة بقيادة الشاعر عمارة اليمني، إذ تجمعت القوى المعارضة لصلاح الدين كلها ودبّرت مؤامرةً للقضاء عليه وإعادة خلافة الفاطميين
غير أن أسد الدين لم يعمّر في الوزارة غير شهرين، إذ مات، فاختار العاضد صلاح الدين الأيوبي وزيراً له، وكان في الحادية والثلاثين من عمره، وخلع عليه لقب "الملك الناصر".
خلال فترة توليه الوزارة، حاول صلاح الدين التقرب إلى المصريين، من خلال توزيع الأموال التي جمعها عمه أسد الدين شيركوه عليهم، وإلغاء سلسلة كبيرة من الضرائب الفاطمية التي أرهقتهم، كما نجح في استمالة الخليفة الفاطمي نفسه، فتقرب إليه بما يرضيه، فأحبّه الخليفة وأمسى لا يعمل إلا بمشورته.
وبحسب إسماعيل، أثار ذلك حسد الأمراء الفاطميين عليه، وأخذوا يخططون للإطاحة بصلاح الدين، خاصةً أن منهم من كان يسعى إلى تولّي الوزارة بدلاً منه، كما أنه أنقص إقطاعاتهم ووزّعها على رجاله وأصحابه وأقاربه، فضلاً عن محاولاته المستمرة لإضعاف الدولة الفاطمية.
مؤامرة مؤتمن الخلافة
في تلك الأثناء، كان نور الدين محمود زنكي، يحثّ صلاح الدين، باعتباره وزيراً للعاضد وقائداً عاماً على الجيش النوري ونائباً عن نور الدين في مصر، على المبادرة إلى إسقاط الدولة الفاطمية وإعادة المذهب السنّي في البلاد، حسب ما ذكر السيد عبد العزيز سالم وسحر السيد عبد العزيز في كتابهما "دراسات في تاريخ الأيوبيين".
لكن صلاح الدين، برغم صغر سنّه، اصطنع الحذر والروية لأنه كان وزيراً للخليفة الفاطمي، ومحاطاً بأنظار العاضد والموالين للحكم الفاطمي، وربما لأنه كان حريصاً على انتهاز الفرصة المواتية لإعلان سقوط الدولة الفاطمية، أو لطموحه في ألا يكون مجرد نائب لنور الدين في مصر.
تعرّض صلاح الدين الأيوبي لمؤامرات ومحاولات انقلابية، هدفت في الأساس إلى التخلص منه، ووأد الدولة الوليدة وإعادة الخلافة الفاطمية من جديد.
وأياً كان سبب تباطؤ صلاح الدين في ما يدعوه إليه نور الدين، فقد كان مصيباً في تروّيه وإبطائه، وجاءت الحوادث التالية مصداقاً لمخاوفه، إذ تعرّض لمؤامرة خطيرة أو لما يشبه الانقلاب العسكري، دبّرها شخص يُدعى جوهر، كان يشغل منصب "مؤتمن الخلافة"، أي المشرف على قصر الخلافة، وكان من زعماء العسكريين السودانيين في الجيش الفاطمي، وكان يطمع في أن يظفر بالوزارة بعد شاور، لذا ساءه أن يتقلدها صلاح الدين.
ويروي سالم وعبدالعزيز، أن جند السودان كانوا يشكلون الأغلبية العظمى في الجيش الفاطمي، فدبّر مؤتمن الخلافة، الذي كان يشرف على قصر الخليفة مؤامرةً بمقتضاها يقوم بالاتصال سرّاً بالصليبيين في بيت المقدس ويدعوهم لنصرته، فإذا ما أقبلت قواتهم وخرج صلاح الدين لمواجهتهم، يقوم هو -أي مؤتمن الخلافة- وأتباعه بإعلان الثورة في الداخل ويسيطرون بذلك على الموقف ويتخلصون في الوقت نفسه من صلاح الدين وقواته، وعندئذ تصبح البلاد غنيمةً بينهم وبين الصليبيين.
ولم يتردد مؤتمن الخلافة، في أن يكتب بذلك إلى عموري ملك بيت المقدس ويبعث برسالة إليه، ولكن جند صلاح الدين قبضوا على الرسول عند بلبيس (شرق القاهرة)، وهو في طريقه إلى فلسطين، وعثروا معه على الرسالة، وأمكن لصلاح الدين الوقوف على تفاصيل المؤامرة، فأمر بالقبض على مؤتمن الخلافة وقتله.
غير أن الجند السودان ثاروا لمقتل زعيمهم، وكان عددهم يتجاوز خمسين ألفاً، فاشتبكوا مع قوات صلاح الدين بقيادة أخيه توران شاه في ساحة ما بين القصرين في القاهرة، واستمر القتال مدة يومين، وتمكن توران شاه من إيقاع الهزيمة بجند السودان، بعدما أوعز صلاح الدين إلى النفّاطين (تجار النفط)، بإشعال النيران في محلة السودان الواقعة على مقربة من باب زويلة، فلما بلغهم الخبر ولّوا منهزمين، وفرّ عدد كبير منهم إلى الجيزة، فطاردتهم قوات توران شاه، وقضت عليهم.
ومنذ ذلك الحين، اتخذ صلاح الدين الحيطة، فنصب خصياً من قوّاد جيشه مشرفاً على قصر الخلافة، هو بهاء الدين قراقوش بن عبد الله الأسدي، وأصبح مؤتمناً للخلافة، بحسب سالم وعبد العزيز.
وفي الوقت نفسه، بدأ صلاح الدين يعمل على إنهاء الدولة الفاطمية، من خلال القضاء على المذهب الشيعي، وإعادة المذهب السنّي، واتخذ في ذلك خطوات عدة منها عزل قضاة الشيعة وتعيين قاضٍ واحد لجميع أنحاء الديار المصرية على المذهب الشافعي، وإلغاء مجالس دعاة الشيعة الفاطميين في القصر الفاطمي والجامع الأزهر، وإبطال الأذان بـ"حي على خير العمل، محمد وعلي خير البشر"، ثم أمَر بأن تُذكر أسماء الخلفاء الراشدين في الخطبة يوم الجمعة، وانتهى الأمر بقطع الخطبة للخليفة العاضد، الذي كان مريضاً، فلما سمع بهذا النبأ اشتدّ به المرض وتوفي، وهكذا انتهت الدولة الفاطمية.
مؤامرة عمارة اليمني
بعد سقوط الدولة الفاطمية وقيام الدولة الأيوبية، قامت في مصر مؤامرة خطيرة بقيادة الشاعر عمارة اليمني، تتصل اتصالاً وثيقاً بموضوع فتح اليمن، إذ تجمعت القوى المعارضة لصلاح الدين كلها ودبّرت مؤامرةً للقضاء عليه وإعادة خلافة الفاطميين.
اشترك في هذه المؤامرة أعوان الخلافة الفاطمية من رجال القصر، وأمراء الجيش وجنده من السودانيين، ونفر ممن قُطعت رواتبهم أو أُخذت إقطاعاتهم أو أصابهم ضرر نتيجة الانقلاب والقضاء على الدولة الفاطمية، واتفقوا جميعاً على أن يكاتبوا طائفة الحشيشية (الحشاشين)، وكانوا أكبر قوة شيعية في الشام، وكذلك الفرنجة في الشام وصقلية، حسب ما ذكر الدكتور جمال الدين الشيال، في الجزء الثاني من كتابه "تاريخ مصر الإسلامية-العصر الأيوبي".
وتلخصت المؤامرة في أن يأتي الفرنجة بأساطيلهم وجيوشهم إلى مصر، وعند وصولهم تقوم هذه العناصر المتذمرة بثورة داخلية، ويتعاون الطرفان للقضاء على صلاح الدين.
وعُهد إلى الشاعر عمارة اليمني، أن يقوم بتحريض توران شاه على الخروج لفتح اليمن، وكان الغرض من هذا أن تضعف قوة صلاح الدين بعد إرسال الجزء الأكبر مع أخيه إلى اليمن.
وبحسب الشيال، كان اليمن وكراً من أوكار الشيعة، وقامت فيه قبل هذا دول شيعية كثيرة مثل الدولة الصليحية، ودولة بني مهدي، وكانت تخضع للدولة الفاطمية في مصر وتدين لها بالولاء.
وكان صلاح الدين يهدف بهذه الحملة إلى القضاء على الشيعة في اليمن كما قضى عليهم في مصر، إذ كان يخشى أن يتجمع فلول الشيعة وأنصار الدولة الفاطمية في اليمن، ويصبحوا مصدر خطر على دولته في مصر حربياً واقتصادياً نتيجةً لسيطرتهم على مدخل البحر الأحمر الجنوبي.
علم صلاح الدين بنبأ المؤامرة عبر رجل دُعي للاشتراك فيها، هو الفقيه الواعظ زين الدين بن نجا، وقُبض على المتآمرين وفي مقدمتهم عمارة اليمني، وحصل صلاح الدين على فتوى من العلماء بقتلِهم، فقتلَهم، وبهذا فشل القسم الداخلي من المؤامرة.
كان صلاح الدين يهدف إلى القضاء على الشيعة في اليمن كما قضى عليهم في مصر، إذ كان يخشى أن يتجمع فلول الشيعة وأنصار الدولة الفاطمية في اليمن، ويصبحوا مصدر خطر على دولته في مصر
أما فرنجة الصقلية فلم يسمعوا بهذا الفشل، ووصلوا إلى الإسكندرية في أسطول ضخم، واستطاعوا النزول إلى برّ الإسكندرية وعسكروا خارج أسوارها، وهاجموها بمجانيقهم، غير أن أهل المدينة وحاميتها استطاعوا الصمود لهم وردّوهم عنها مدحورين منهزمين. وبهذا فشلت المؤامرة بشقّيها، وفق ما يروي الشيال.
أما توران شاه، فنجح في فتح اليمن، وقضى على عبد النبي بن مهدي، ثالث ملوك دولة بني مهدي، وأصبح اليمن جزءاً من مُلك بني أيوب، وظلّ خاضعاً لمصر قرابة نصف قرن من الزمان، وتوالى على حكمه خلالها عدد من أفراد الأسرة الأيوبية إلى أن خلفهم على حكمه بنو رسول، مماليك بني أيوب.
مؤامرة كنز الدولة في الصعيد
الثورة التي أُخمدت في القاهرة، ما لبثت أن اشتعلت في صعيد مصر، وتحديداً في أسوان على حدود النوبة، وتزعمها شخص يُدعى كنز الدولة، أو الكنز، وهو مصري صعيدي وأحد القادة الفاطميين.
ويذكر الدكتور محمد سهيل قطوش، في كتابه "تاريخ الأيوبيين في مصر والشام وإقليم الجزيرة 569-661 هـ/1174-1263 م"، أن كنز الدولة نزح إلى الصعيد بعد إخماد حركة مؤتمن الخلافة، واشترك معه في هذه الثورة عباس بن شادي، والي قوص، وجمع حوله عدداً كبيراً من أهل الصعيد والجنود المصريين والسودانيين الذين كان صلاح الدين قد نفاهم من قبل.
ولما آنس كنز الدولة في نفسه القدرة على مناهضة صلاح الدين، قام بحركة تهدف إلى إعادة الخلافة الفاطمية، وقتل بعض أمراء صلاح الدين في هذه الجهات.
قدّر صلاح الدين خطورة هذه الحركة المعادية، وفكّر في الذهاب بنفسه لإخمادها، لكن خشيته من تجدد الثورة في القاهرة جعلته يرسل أخاه العادل لإخمادها.
وبحسب قطوش، نجح العادل في التغلب على الثورة، وقتل عباساً والكنز، وأرسل الكثير من أتباعهما إلى القاهرة، وذلك في صفر 570 هـ/أيلول 1174 م. وفرّ عدد آخر إلى بلاد النوبة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Mohammed Liswi -
منذ 20 ساعةأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ يومينلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 5 أياممقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه
بلال -
منذ أسبوعحلو
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعالمؤرخ والكاتب يوڤال هراري يجيب عن نفس السؤال في خاتمة مقالك ويحذر من الذكاء الاصطناعي بوصفه الها...