شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
فتحن أبوابهنّ لـ

فتحن أبوابهنّ لـ"الفلاقة"... مقاومات تونسيات جابهن الاستعمار وظلمهنّ التاريخ والذاكرة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

سياسة نحن والنساء

الجمعة 28 يوليو 202301:36 م

حتى تحصل تونس على استقلالها يوم 20 آذار/ مارس 1956، كان لا بد من تقديم تضحيات كبيرة من قبل فئات المجتمع كافة التي تكاتفت بنسائها ورجالها لمقاومة المستعمر الفرنسي وطرده من التراب التونسي.

تعجّ كتب التاريخ والذاكرة الجماعية الشعبية التونسية بأسماء عديدة لرجال دفعوا دماءهم ثمناً لتحرير البلاد من الاحتلال، ولكنهم غفلوا عن قصد أو عن غير قصد، عن ذكر بطولات نساء مناضلات لعبن دوراً مهماً جنباً إلى جنب الرجال في دحر المستعمر الفرنسي بأساليب مختلفة دون حاجتهنّ إلى حمل السلاح.

تصدرت كلّ من الراحلات بشيرة بن مراد وشريفة المسعدي وتوحيدة بن الشيخ، على سبيل الذكر لا الحصر، المشهد السياسي والنقابي في العاصمة تونس، وانتهجن هذا الأسلوب في مقاومة المستعمر الفرنسي، حيث أسست بن مراد سنة 1936، أول جمعية نسائية تحت مسمى الاتحاد النسائي الإسلامي التونسي، فيما تُعدّ بن الشيخ أول طبيبة في العالم العربي متخصصة في طب الأطفال والنساء.

بعيداً عن الأنشطة السياسية والنقابية والعلمية، شاركت نساء الجنوب والشمال التونسيَيْن في الحركة الوطنية وعرّضن أنفسهن لكافة أنواع المخاطر والتهديد التي لم تمنعهن من ابتكار أساليب متنوعة وغير معتادة في دعم الثوار و"الفلاقة" (المقاومة المسلحة)، لمجابهة الاستعمار الفرنسي.

البداية من المناضلة الراحلة خديجة رابح، التي وُلدت عام 1910، ابنة مدينة المطوية في محافظة قابس، والتي انتقلت للعيش في العاصمة تونس عام 1930، والتي وردت شهادتها عن مشاركتها في معركة التحرير الوطني في كتاب "جذور الحركة النسائية بتونس" للكاتبة ليليا العبيدي.

عائلة مقاومة

تتحدر رابح من عائلة مقاومة للاستعمار الفرنسي بدءاً من جدّها وصولاً إلى نساء منطقتها اللواتي كن "يحملن الماء للمجاهدين"، وفق نص الشهادة.

وفي ظل غياب العنصر النسائي حينها، برز اسم خديجة رابح خلال حادثة محاكمة المناضل الراحل "علي البلهوان" يوم 9 نيسان/ أبريل 1938.

رافقت خديجة حينها اثنتا عشرة امرأةً أخرى، وتنكرن ووضعن أغطيةً على رؤوسهن واعترضن السيارة التي تقلّ البلهوان في محاولة منهنّ لتعطيل المحاكمة، فاندلعت مواجهات عنيفة مع جنود الاحتلال الفرنسي نجم عنها سقوط ضحايا "وسال الدم من القصبة إلى باب سويقة، وقد حمي وطيس المعركة فهربنا ثم عدنا إلى المنزل"، تقول في شهادتها.

وتضيف أنها تعرفت إلى المناضلة شاذلية بوزقرو، وإلى ابنة عمها ورفيقة دربها أم السعد يحيى، وأنهن أنشأن "شعبةً (شبيبة) نسائيةً" قرب مقام الولي الصالح "سيدي محرز" بطلب من الرئيس السابق الحبيب بورقيبة عرفاناً لهنّ بالجميل، "وأصبحنا نلقي الخطب وازداد عدد المشاركات شيئاً فشيئاً".

تعددت أشكال نضال خديجة رابح وتنوعت، إذ كانت من المضربين عن الطعام وعن استعمال "الترمفاي"، احتجاجاً على إيقاف بورقيبة، كما انتحلت صفة بائعة صحف حتى تستطيع الوصول إلى جامع القصبة ليتم إيقافها من قبل قوات الاستعمار الفرنسي.

ملجأ "الفلاقة"

في قرية المطوية أيضاً، وُلدت المناضلة أم السعد يحيى (1898-1972)، التي لم تتأخر في الانضمام إلى الحركة الوطنية منذ انطلاقتها، حيث فتحت باب منزلها في منطقة باب سويقة في العاصمة تونس لاحتضان "الفلاقة" والثوار، فصار ملجأً لهم ومخزناً للأسلحة والبيانات والمعلومات ومكاناً لعقد الاجتماعات واللقاءات العلنية والسرّية.

لجأ بورقيبة إلى منزل أم السعد واختبأ فيه عام 1943، عن أعين الاستعمار والتقى فيه مناصريه فأكسبتها تضحياتها مكانةً خاصةً لديه، حتى أنه منحها بعد الاستقلال وسام الاستقلال، وأُطلق اسمها على أحد الأنهج (الشوارع) المجاورة لمقر سكنها.

نبقى في الجنوب التونسي، وتحديداً في محافظة تطاوين التي تتحدر منها المناضلة الراحلة مبروكة الكوز، التي اشتهرت بطبخ الأكل للمقاومين وبإحباطها محاولة تسميم عدد منهم من قبل "متعاون مع المحتل الفرنسي". وبمجرد انتباهها إلى العملية قلبت "قصعة الطعام" وجلست فوقها حتى لا يأكل منها الثوار، فيما تم قتل العميل الخائن في ما بعد.

وحتى لا تلفت انتباه المارة وجنود المستعمر، كانت تضع الأسلحة حول صدرها وتذهب للقاء "الفلاقة" بالقرب من البئر، كما شاركت ومجموعة من النسوة في مظاهرات في كل من تطاوين ورمادة.

مناضلة مراوغة

وفي الشمال الغربي، وتحديداً في محافظة باجة، وُلدت المناضلة مبروكة القاسمي، سنة 1925، في منطقة نفزة، والتي اشتهرت بعد وفاة زوجها بحلق شعرها واتشاحها بالسواد مرددةً مقولتها الشهيرة "باش ما يطمع فيّا حد يقول عزوزة".

وفق شهادتها، كانت محط أنظار جنود المستعمر الفرنسي لنشاطها المكثف، فكانوا يقتحمون منزلها بين الفينة والأخرى بحثاً عن أسلحة، وتتحدث عن مشاركتها في عملية قطع أسلاك الهاتف في محطة القطار: "عطيتهم زوز (اثنين) تسترات (منشار) ومقص يمشوا يقصوا التل في الأنقار (محطة القطار) ويجوا (يأتوا) الجدرمية يبحثوا فيّ".

تطول قائمة المقاومات التونسيات بنات ربوع البلاد كافة، من شمالها إلى جنوبها، ولن تسعهن هذه الأسطر، وهن اللواتي برزن في فترة زمنية دقيقة وفي ظرفية اجتماعية حساسة

كانت تزوّد المساجين والفلاقة بالطعام، كما كان الثوار يختبئون في منزلها، وكانت تدعمهم وتشجعهم خلال اجتماعاتهم السرّية في منزلها.

في الشمال الغربي دائماً، وفي منطقة برقو في محافظة سليانة، برزت حكاية المناضلة الراحلة فاطمة بوبكر (1919)، التي لم تخلُ مسيرتها من بطولات وتفاصيل حزينة في الآن نفسه.

بطولات تونسيات مقاومات

فاطمة هي شقيقة المقاوم الراحل عبد الوهاب بوبكر. تولت طبخ الطعام للفلاقة وغسل ثيابهم التي كان يحملها زوجها الراحل بلقاسم بوحجر البرقاوي إلى الثوار في الجبال.

تعرّضت لأبشع أنواع الاعتداءات؛ أمام أعين أطفال، اغتصبها جنود المستعمر الفرنسي هي وسلفتها وضرّتها وذلك خلال حملة الانتقام لمقتل جنديين فرنسيين وُجدت جثّتاهما في كيسين في الجبال.

ارتدت فاطمة لباس الحداد وطلت وجهها بالرماد في أثناء معركة برقو في تشرين الثاني/ نوفمبر 1954، وحُكم عليها بثلاثة أشهر سجناً لضبط أسلحة مخفّية في قفّة تحت الخضار.

تطول قائمة المقاومات التونسيات بنات ربوع البلاد كافة، من شمالها إلى جنوبها، ولن تسعهن هذه الأسطر، وهن اللواتي برزن في فترة زمنية دقيقة وفي ظرفية اجتماعية حساسة تُعلي مكانة الرجل مقابل الحطّ من قيمة المرأة ومن أهمية دورها.

فكيف نجحن في لعب دور مفصلي في معركة التحرير الوطني في بيئة محافظة؟

بين المدينة والريف

يوضح أستاذ التاريخ المعاصر عادل بن يوسف، أن المرأة التونسية في المدينة كانت تتمتع بحظ في التعليم والثقافة والوعي حيث توجد الجاليات الأوروبية وإدارة التعليم العمومي منذ إحداثها في 6 أيار/ مايو 1883، وتحولت تسميتها من مدارس "لائكية" (علمانية)، إلى مدارس فرنسية عربية، خلافاً للأرياف التي كانت المدارس فيها قليلة.

في الأثناء، قام بعض الأثرياء والأعيان "بمحاولات محدودة جداً" في المناطق الداخلية المهمّشة، وأسسوا ما تُسمّى بالمدارس القرآنية للرد على المشروع الاستعماري الفرنكفوني التغريبي، وانضم إليها الذكور أكثر من الإناث، يضيف لرصيف22.

ويقول بن يوسف إن "الوسط المحافظ منع الفتيات من دخول هذه المدارس، وحتى التي تتمكن منهن من الانضمام تصل حتى السنة الخامسة أو السادسة، ومع نموها الجسدي تنقطع عن التعليم ويهيئونها للزواج وهي عادة ظلت معتمدةً حتى صدور مجلة الأحوال الشخصية في آب/أغسطس 1956، التي حددت سنّ الزواج بـ18 سنةً".

لكن انخراط الآباء وبعض الأمهات في الحركة الوطنية والمنظمات النقابية الوطنية (اتحاد الصناعة والتجارة واتحاد الفلاحين)، واستقبالهم مناضلين وقياديين من تونس العاصمة، وعقدهم اجتماعات شعبيةً، ساعد الفتيات على حضور اللقاءات السياسية، ومن أبرز هذه اللحظات حضور "نسوة مرتديات السفساري اجتماعاً رسمياً لبورقيبة وصالح بن يوسف سنة 1950، في مدينة مساكن المحافظة، وكن جالسات تحت المنصة".

بداية الانفراج

وفق رأي بن يوسف، فإن هذا دليل على أن المرأة التونسية بدأت تخرج إلى من الجو المحافظ بفضل هذه اللقاءات السياسية والمنابر والمنتديات، إلى جانب بعض خطب رجال الدين وبعض الأئمة المتنورين حول أهمية الكفاح من أجل الوطن والأمة العربية (القضية الفلسطينية) التي جعلتهنّ ينخرطن في هذا الكفاح، ما أفرز قياديات في مناطق تونس كافة.

ويؤكد أستاذ التاريخ المعاصر، أن المناطق الريفية والداخلية ضمت نساء مقاومات منهن من صعدن الجبال وارتدين ملابس المقاومة، ومنهن من كانت لديهن ملكيّات خاصة فبعنها ومنها أراض فلاحية لتمويل المقاومة.

 لدينا ذاكرة معطوبة ينفرد فيها الرجل بالدور والموقف البطولي ويُغيَّب دور المرأة في الحركة الوطنية

واستحضر المناضلة حسينية عميد، في محافظة قفصة، التي حملت السلاح مع ابن عمها المناضل لزهر الشرايطي، وفجّرت جسر وادي المالح الرابط بين قفصة وقابس، لمنع نقل الفوسفات وشاركت في معركة سيدي عيش 2 سنة 1954، ومنحها المقيم العام الفرنسي بطاقة أمان تُمنح للمقاومين الذين ينزلون من الجبال ويسلمون أسلحتهم كضمان بعدم تتبّعهم.

وأشار الأستاذ عادل بن يوسف، إلى نساء أخريات تولين مهمة الطهي للمقاومين وحمل الطعام لهم على ظهر الحمير، وإخفائه تحت الحطب وصعود الجبال به مدّعيات رعي الأغنام لخداع قوات المستعمر الفرنسي.

وتحدث عن إصدار مرتقب لموسوعة يوم 13 آب/أغسطس 2023، تضم 130 شخصيةً نسائيةً مناضلةً بمناسبة الاحتفال بعيد المرأة التونسية يوم 13 آب/أغسطس من كل سنة.

وبرغم البطولات والتضحيات التي قدّمتها نساء تونس ومساهمتهن الفعالة في الحركة الوطنية، إلا أن التاريخ والذاكرة الجماعية والشعبية لم ينصفاهنّ.

عن أسباب عدم إنصافهنّ، يقول بن يوسف إن النشاط النضالي الحضري كان موثقاً من خلال الجرائد وأنشطة الاتحاد النسائي الإسلامي التونسي والشُعب الدستورية والعديد من الجمعيات النسائية الأخرى أو حتى غير النسائية ومن خلال المراسلات وحتى التقارير التي تقوم بها السلطات الاستعمارية وعملاؤها والاستخبارات.

غياب التوثيق للمقاومة النسائية

في المقابل، فإن التعليمات والمعلومات في المناطق الريفية الداخلية كانت تأتي "شفاهةً" من خلال كلمات يوصلها أشخاص مثلاً إلى محطات القطار وسيارات الأجرة والحافلات، "ولا نجد بذلك على سبيل المثال أثراً لعملية مقاومة نوعية حدثت".

ويبيّن أن "حتى زيارات مسؤولين في الدولة التونسية بعد الاستقلال لتكريم مناضلات الأرياف والمناطق الداخلية وشكرهنّ، كانت تشهد تغييبهنّ لأنها مجتمعات ذكورية رجالية تقدّم المناضلين الرجال على النساء، ولذلك لدينا ذاكرة معطوبة ينفرد فيها الرجل بالدور والموقف البطولي ويُغيَّب دور المرأة في الحركة الوطنية".

ويرى بوجود تقصير من قبل أبناء المناضلات وأحفادهن "لأنهم لم يوثّقوا تجارب أمهاتهم وجدّاتهم وشهاداتهن وقصصهن"، وأكد ضرورة وجود مثقفين ومربّين على الصعيد المحلي "يسجلون شهادات المناضلات ويفرغونها لتُنشر في شكل كتيّبات صغيرة توضع في دور الشباب والثقافة حتى يلجأ إليها الباحثون".

ذاكرة تونسية معطوبة

كما شدد على ضرورة ترميم الذاكرة المحلية ثم الجهوية والوطنية "لكتابة تاريخ ينصف الجميع دون عاطفة وانفعال وشتم وثأر، ولإعطاء كل صاحب حق حقه بالحياد وعلى المسافة نفسها من الجميع".

ورأى عادل بن يوسف، أن هذا الإنصاف "لم يحصل حتى بعد 2011 في إطار ما يُسمّى بهيئة الحقيقة والكرامة التي للأسف حادت عن دورها وحددت وجود المناضلين والمناضلات ابتداء من 1 حزيران/ يونيو 1955، والحال أن كثيرين شاركوا في الحركة الوطنية قبل ذلك".

وشدد على أن المرأة التونسية "كانت تعاني من الهيمنة الاستعمارية من جهة، ومن هيمنة عقلية الرجل الشرقي من جهة ثانية، والتي منعتها من الخروج والتعلم للقيام بدورها بجانب الرجل مثلما سيحصل بعد الاستقلال".


إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

فلنتشارك في إثراء مسيرة رصيف22

هل ترغب/ ين في:

  • الدخول إلى غرفة عمليّات محرّرينا ومحرراتنا، والاطلاع على ما يدور خلف الستارة؟
  • الاستمتاع بقراءاتٍ لا تشوبها الإعلانات؟
  • حضور ورشات وجلسات نقاش مقالات رصيف22؟
  • الانخراط في مجتمعٍ يشاركك ناسه قيمك ومبادئك؟

إذا أجبت بنعم، فماذا تنتظر/ ين؟

    Website by WhiteBeard