تحيي تونس ذكرى عيد الشهداء في 9 نيسان/ أبريل من كل عام، وتستحضر الأحداث الأليمة التي وقعت سنة 1938، في ظل الاستعمار الفرنسي للبلاد، والتي راح ضحيتها عشرات الشهداء ومئات المصابين وآلاف المعتقلين.
حضرها التونسيون... وغاب بورقيبة
خلال يومي 8 و9 نيسان/ أبريل 1938، شهدت العاصمة تونس خروج آلاف المتظاهرين مطالبين ببرلمان تونسي ودستور جديد يساوي بين التونسيين والفرنسيين في الحقوق والواجبات، وينهي عهد الضيم الذي يعيشه التونسيون جرّاء القوانين الاستعمارية الجائرة.
كان بطل أحداث نيسان/ أبريل 1938، زعيم الشباب علي بلهوان، الذي صاح في التونسيين منادياً أمام الإقامة العامة الفرنسية: "يا أيها الذين آمنوا بالبرلمان التونسي، إن البرلمان التونسي لا ينبني إلا على جماجم العباد، ولا يقام إلا على سواعد الشباب! جاهدوا في الله حق جهاده، إذا اعترضكم الجيش الفرنسي أو الجندرمة شرّدوهم في الفيافي والصحاري وافعلوا بهم ما شئتم، وأنتم الوطنيّون الدائمون في بلادكم وهم الدخلاء عليكم" !
أحداث 9 نيسان/ أبريل، جاءت في سياق محلي ودولي معقّد جداً، عرفت خلاله تونس انشقاق مجموعة من الشباب عن الحزب الدستوري وتأسيس حزب جديد يحمل اسم الحزب الدستوري الحر الجديد، بينما كانت فرنسا تعيش تحولات سياسيةً كبيرةً بصعود الجبهة الشعبية للحكم، فيما بدأت بوادر الحرب العالمية الثانية تظهر وسط التحركات الألمانية على الحدود مع فرنسا.
في هذا الصدد، قال المؤرخ عميرة عليّة الصغير، في تصريح لرصيف22، إن "أحداث 9 نيسان/ أبريل جاءت في ظروف خاصة بالنسبة إلى الحزب الدستوري الحر، بعد انشقاق الجناح الشبابي الراديكالي في مؤتمر 2 آذار/ مارس 1934، بينما كانت البلاد تشهد أزمةً اقتصاديةً واجتماعيةً، بسبب تأثير أزمة الثلاثينيات الاقتصادية التي ساهمت في ارتفاع أسعار المواد الأساسية وتضرر الفلاحين".
وأفاد الصغير بأن صعود الجبهة الشعبية في فرنسا المكوّنة من الاشتراكيين والشيوعيين، منح الأمل للتونسيين بانفراج الوضع، خاصةً أنّ قوى اليسار معروفة بإنصات نسبي لمطالب أبناء المستعمرات وهو ما حدث بعد إطلاق سراح الموقوفين من أبناء الحركة الوطنية.
كما أبرز الصغير أن "الحركة الوطنية طالبت الجبهة الشعبية بإصلاحات سياسية واقتصادية مثل المساواة في الأجور وبدستور للتونسيين، لكن الجبهة الشعبية لم تستجب لهذه المطالب واكتفت بإصلاحات مثل تخفيف الضغط على الحريات والقوانين الاجتماعية".
وأضاف الصغير أن هذه الإصلاحات لم ترضِ الشعب التونسي، فوقعت إضرابات كبيرة في المناجم في ظل وجود حركة نقابية قوية بعد عودة جامعة عموم العملة، بقيادة بلقاسم القناوي، وبروز زعماء يتميزون بالخطابة والتحرك.
وفي السياق ذاته، قال المؤرخ إن السلطات الاستعمارية صعّدت تجاه قادة الحركة الوطنية في بداية شهر نيسان/ أبريل 1938، ومنعتهم من الاجتماع وحمل الراية الوطنية واعتقلت القياديَين صالح بن يوسف وسليمان بن سليمان، فقرر الحزب التصعيد بإطلاق شعار العصيان المدني وعدم الخضوع لقرارات السلطات الاستعمارية.
يوم دموي
وصل التوتر إلى حد غير مسبوق بين قيادة الحركة الوطنية والسلطات الفرنسية، فدعا الحزب إلى تظاهرة شعبية تطالب المستعمر الفرنسي بتحقيق إصلاحات جوهرية وحقيقية تضمن المساواة بين التونسيين والفرنسيين.
وفي هذا السياق، قال المؤرخ محمد ذويب، في تصريح لرصيف22، إن الأحداث انطلقت يوم 7 نيسان/ أبريل عندما شهدت مختلف المناطق التونسية تنظيم مظاهرات جماهيرية عارمة أطّرها الحزب الدستوري الجديد، وتواصلت في اليوم التالي بخروج مظاهرتَين في العاصمة؛ الأولى بقيادة علي البلهوان، والثانية بقيادة المنجي سليم، وطالبتا ببرلمان تونسي يمثّل صوت الشّعب.
وأفاد ذويب، بأن آلاف التونسيين خرجوا متحدّين الآلة القمعية الاستعمارية في مسيرات حاشدة، ومنادين بالحرية وتحديداً بـ"برلمان تونسي"، مبيّناً أن مظاهرة 8 نيسان/ أبريل 1938، مثّلت منعرجاً حاسماً في تاريخ الكفاح الوطني من أجل نيل الحرية والسيادة والاستقلال في تونس.
وقال ذويب، إن هذا الحراك شهد خروج المرأة التونسية في تلك المناسبة للتظاهر لأول مرة، إذ التقت الحشود أمام مبنى الإقامة العامة الفرنسية في وسط العاصمة في تحدٍّ واضح لسياسة التضييق الاستعمارية التعسّفية على أبناء الشعب التونسي.
كما رأى ذويب أن الأحداث مثّلت ملحمةً بطوليّةً خالدةً تُعدّ واحدةً من أبرز الأحداث الوطنية التي جرت في تاريخ تونس زمن الاستعمار، وكان لها أثر كبير في مزيد من تجذّر الوعي الوطني والحركة الوطنية.
أضاف ذويب أنّ هذه المظاهرات أدت إلى تطور غير مسبوق لمسيرة الكفاح الوطني، وتحولت إلى مواجهات عنيفة دامية مع جنود الاستعمار الفرنسي، أسفرت عن استشهاد عدد من التونسيين وقد بلغ عدد الشهداء حسب بعض المصادر، 22 شهيداً بالإضافة إلى ما يفوق الـ150 جريحاً.
من جانبه، رأى المؤرخ عميرة علية الصغير، أن استدعاء علي بلهوان، يوم 8 نيسان/ أبريل، إلى التحقيق أجّج الوضع في البلاد، بعد أن انتشر الخبر لدى تلاميذ المدرسة الصادقية وطلبة جامع الزيتونة والنقابيين فتجمعوا أمام المحكمة مطالبين بإطلاق سراح البلهوان، ودخلوا في مشادة مع الأمن الذي أطلق النار عليهم.
يقول المنوبي إن بورقيبة تظاهر بالمرض ليتغيّب عن أحداث نيسان/ أبريل 1938، وأخلف في وعده لقواعد الحزب
رجّح الصغير أن تكون للمتظاهرين أسلحة بيضاء ونارية، فدخلوا في مناوشات دموية مع الأمن الفرنسي وقاموا بحرق عربات الترامواي التي كانت تمرّ من باب سويقة، واعتدوا على متاجر الأجانب.
وقال عميرة علية الصغير، إن عدد الضحايا في أحداث 9 نيسان/ أبريل، كان أكثر من الأعداد الرسمية لأنّ بعض المصابين تم نقلهم إلى أماكن بعيدة عن أعين السلطات الفرنسية لتجنّب اعتقالهم في ما بعد.
هل تمارض بورقيبة؟
خلال أحداث 8 و9 نيسان/ أبريل، تغيّب زعيم الحزب الحر الدستوري الجديد الحبيب بورقيبة، عن الأحداث بعد أن أعلم رفاقه في الحزب بأنه مريض ويشكو من آلام تمنعه من الخروج مع آلاف التونسيين يومها، لكن العميد السابق في كلية الاقتصاد والتصرف، وأستاذ الاقتصاد السياسي، الدكتور خالد المنوبي، يشكّك في هذه الرواية في كتابه "قرن من السقوط السياسي في تونس"، الصادر باللغة الفرنسية.
يقول المنوبي إن بورقيبة تظاهر بالمرض ليتغيّب عن أحداث نيسان/ أبريل 1938، وأخلف في وعده لقواعد الحزب في حاجب العيون بعد أن وعدهم بوضع نفسه في مقدمة الشعب ووسط المعركة.
كشف الكاتب عن تبرّؤ بورقيبة من أحداث 9 نيسان/ أبريل، في جلسة الاستنطاق يوم 12 نيسان/ أبريل 1938، إذ صرّح بالتالي: "لم يصدر عنّي أي اعتبار للدعوة إلى الثورة، وأضيف أنّه لا يمكن أن أكون قد دعوت إلى الثورة إذ إنّ حزبي يعتمد في مطالبه على رضا الحكومة الفرنسية وتأييدها، وعلى أنّ فلسفتنا تناهض استعمال الطرق العنيفة. إنّنا سعينا دائماً في سبيل خير السكان التونسيين عن طريق التوفيق بين ما يطمحون إليه، وبين ما لفرنسا في هذه البلاد من امتيازات هي غير مطروقة في اجتماعاتنا وغير منازع فيها".
لم يتبرّأ الحبيب بورقيبة من الحراك فقط، بل من زعيم الشباب علي البلهوان، خلال جلسة استنطاقه يوم 9 أيار/ مايو 1938، حسب ما ورد في الكتاب، قائلاً: "إنّ هذه الحوادث وقعت خارجاً عن الحزب وذلك أنّ بعض الأشخاص ذهبوا يظهرون تعلّقهم بعلي البلهوان الذي ليس حتى عضواً في الديوان السياسي".
استمر استنطاق الحبيب بورقيبة لنحو عام كامل، أعلن خلالها تمسكه بوثيقة الحماية التي وقّعتها فرنسا مع الباي في 1881، وأكّد رفضه الاستقلال عن فرنسا: "إنّي أعتبر أنّ التقارب والاندماج ليسا شيئاً واحداً، والمسلم حسب نص القرآن لا يبقى مسلماً إذا تجنّس. إنّي من أعداء الاستقلال الكامل المطلق للبلاد التونسية إذا كان يفضي إلى عزلة البلاد التونسية وإلى القطيعة مع فرنسا، إنّي أحبّذ دائماً وجود صلة بوسعها أن تتطور خلال ذلك التعاون الذي نطالب به في صلب الحماية".
المصادر تنحاز إلى بورقيبة
برغم ما قدّمه الكاتب خالد المنوبي في كتابه عن تغيب الحبيب بورقيبة عن الأحداث، وتبرّئه منها، فإن عدداً من المؤرخين في تونس يرون أنه لا شيء يثبت تقاعس بورقيبة عن المشاركة في مظاهرات 8 و9 نيسان/ أبريل 1938.
المؤرخ عميرة علية الصغير قال إن الزعيم الحبيب بورقيبة تغيّب عن الأحداث بسبب المرض ولا يمكن القول إنه ادّعى المرض، بل طلب من رفاقه حمله على الأكتاف إلى ساحة المواجهات بعد سماعه بسقوط شهداء.
لا يمكن لبورقيبة في ذلك الوقت دعم حراك 9 نيسان/ أبريل في الاستنطاق، وأي شخص يُحقَّق معه سيتبرأ من الأحداث
وافاد الصغير بأنّه فعلاً لم يعتمد الحزب البتة مبدأ العنف أو رفع السلاح ضد المستعمر أو حتى اعتماد المنطق الثوري، مشيراً إلى أنّ أسلوب الحزب اعتمد على مقارعة الاستعمار عبر الطرق السلمية والقانونية ومحاججته عبر الاتفاقيات الدولية.
وأضاف الصغير، أنّ أحداث 9 نيسان/ أبريل، لم يدعُ لها الحزب وإنما كانت ردّة فعل عنيفةً وعفويةً وغير منظمة، لكن العناصر المحركة لها كانت من قواعد الحزب الحر الدستوري الجديد.
كما قال إنّ الحزب في ذلك الوقت كان يرى أن المطالبة بالاستقلال مطلب لم ينضج بعد ويجب أن يمرّ عبر الاعتراف بالسيادة التونسية من خلال تكوين حكومة وبرلمان ثم يتم التدرج إلى الاستقلال التام.
من جانبه، قال المؤرخ قال محمد ذويب، إن المصادر والمراجع التاريخية تؤكد أن الحبيب بورقيبة، تغيّب لأسباب صحية، مشيراً إلى أنّه لا يمكن لبورقيبة في ذلك الوقت دعم حراك 9 نيسان/ أبريل في الاستنطاق، وأي شخص يُحقَّق معه سيتبرأ من الأحداث.
كما أفاد ذويب، بأن أحداث 9 نيسان/ أبريل جذّرت النضال الوطني ضد المستعمر الفرنسي، برغم أن الحركة الوطنية لم تكن آنذاك تطالب باستقلال البلاد، فمطلب الاستقلال ظهر بعد الحرب العالمية الثانية وتأسيس جامعة الدول العربية ومنظمة الأمم المتحدة.
صحف استعمارية
بعد أحداث 9 نيسان/ أبريل، اعتقلت السلطات الفرنسية قادة الحزب الحر الدستوري، ونفَتْهم إلى الخارج ودخلت الحركة الوطنية في فترة سبات، خاصةً بعد انطلاق الحرب العالمية الثانية وتضييق المستعمر الفرنسي على النّشاط والحريات السياسية.
يقول المؤرخ عميرة علية الصغير، إن أحداث 9 نيسان/ أبريل، كانت درساً نافعاً للحركة الوطنية والقوى الشعبية التي غيّرت أسلوب عملها النضالي بعد الحرب العالمية الثانية، عبر تسييس المنظمات القومية مثل منظمة الشغالين والأعراف والفلاحين والمرأة من أجل تجميع فئات الشعب التونسي كلها ضد المستعمر الفرنسي.
في المقابل، شنّت السلطات الفرنسية حرباً إعلاميةً ضد التحركات الشعبية في 9 نيسان/ أبريل، ووصفت المتظاهرين بأسوأ النعوت إذ كتبت جريدة "لاديباش تونيزيان"، في 10 نيسان/ أبريل: "إن هذا البلد في حاجة إلى عمل مثمر، لا إلى بلبلة عقيمة... ارحلوا، أيها الرعاة السفهاء، وأفسحوا المجال لأصحاب النوايا الحسنة ليعملوا يداً بيد من أجل مصلحة تونس".
وفي اليوم نفسه كتبت صحيفة تونس الفرنسية: "يبدو إذاً أن الدستوريين يتنافسون جوهرياً مع الحرية ولا يستحقون إلا القمع، وقد لا يتلاءمون مع رقّة الفلسفة الغربية".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 23 ساعةمتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع