شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!
خازوق اسمه الشَّغف

خازوق اسمه الشَّغف

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والنساء

الثلاثاء 1 أغسطس 202311:36 ص

من منا لم يجرب الوقوع في الحبِّ أكثر من مرةٍ بنفس القوةِ الخاطفة، ونفس التَّوهج العبيط، وأنَّه "هو ده وبس"، ثم اكتشف بعد انتهاء التجربة أنه لا يوجد "بس"، فقلبه، ابن الكلب، لم يصم عن الحب حتى مع تكرّر الفشل، رافعاً شعار "أنا أحب، إذن أنا موجود". يخرج لسانه ساخراً: "تريد قفل باب قلبك على حبيبٍ أخير؟ بعينك".

الحاصل أن هناك حالة حب مستمرة- سنة الحياة والفطرة السويَّة، تتجدد على فتراتٍ وتتوهج - سواء كانت مع نفس الشَّخص أو مع أشخاصٍ آخرين نبحث عن أنفسنا معهم، وعن ذاك المدعو "حب" الذي نرجوه. ولأنَّنا لا نتشابه، فلكلِّ انسانٍ منا طعمه الخاص، لذا، في كل مرةٍ نحب بطريقةٍ مختلفة، تناسب طعم الشَّخص ومساحة الحبّ الممكنة.

أتكلم هنا عن تجارب الحبّ بالعموم دون تصنيف، داخل إطار الزواج وخارجه، عن الحالة نفسها بكل طُهرها وجديّتها، عن الأشخاص الذين لهم قدرة هائلة على الحب ولا يستطيعون العيش دون اخراج تلك الطاقة واستقبال ما يعادلها، يُنظر لهم على أنَّهم "ناس ماشية تحب على نفسها، مع أنَّهم غلابة يا خال"، يتعثرون كثيراً حتى يقابلون من يشبههم ويبادلهم الحب بالحب.

أنت محظوظ حين تحب، سواء أحببت شخصاً واحداً طوال حياتك أو أحببت عدة أشخاص، المهم أنك عشت أو تعيش حالة حب، لكن الأمر يختلف تماماً حين تعيش هذا الحب في صورة شغف. نعم قصة شغف وليس قصة حب، لا أستطيع أن أحدّد بالضبط، هل أمك داعية لك ولا داعية عليك حين تعيش قصة شغف تقلب كيانك كله. الشغف لن يمزح معك، ستجده حاداً كالشفرة، يجرحك لا محال، وماكراً كالثعلب، لا تعرف متى تسلّل بالضبط وأكل كل خراف قلبك.

من منا لم يجرّب الوقوع في الحبِّ أكثر من مرةٍ، وأنَّه "هو ده وبس"، ثم اكتشف أنه لا يوجد "بس"، فقلبه، ابن الكلب، لم يصم عن الحب حتى مع تكرّر الفشل، رافعاً شعار "أنا أحب، إذن أنا موجود". يخرج لسانه ساخراً: "تريد قفل باب قلبك على حبيبٍ أخير؟ بعينك"

لو كان الشغفُ رجلاً لقتلته (بكذب طبعاً، دا أنا بخاف أدوس على نملة بالغلط)، المهم، أردتُ من المقدمة السابقة أن أقول لكم: حبّوا كما تريدون، الحب جميل بالعموم، لكن لا تعيشوا الحب والشغف يرافقكم ويتحكّم في كل تصرفاتكم، لقد جرحني الشغف بقوة ذات مرة، ونجوت بصعوبة.

أعيشُ قصة شغف

قرأت منذ يومين رواية "شغف بسيط" لآني أرنو، وهي من أشعلت النار في قلبي من جديدٍ، سامحها الله، بطريقة ما وجدتني في قصتها، وإن لم يكن بنفس الكيفية التي عاشت بها قصة حبها- أو شغفها- لكني مررتُ بكل المراحل التي مرّت بها. لقد عشتُ قصّة شغفٍ من النوع القاتل مع شخص أحببته بشدةٍ، عرفتُ ذلك حين ابتعدت بما يكفي ليصبح هذا الشخص غريباً وعادياً، في الابتعاد مساحة تسمح بأن تصير الأمور أكثر وضوحاً، وقابلة للتفسير والفهم.

الأمر أشبه بطاقة هائلة وجارفة شعرتُ بها، ولدت مع هذا الشخص بالتحديد، كان هناك ولع شديد ورغبة لا تقاوم تجاهه، جعلني هذا في بعض الأوقات أعاني وأبكي كالأطفال. حظّه أنه ضبط توقيت مجيئه مع حالتي المناسبة جداً لاستقباله. التوقيت كان مناسباً جداً كي أستطعم حبّه وأجنّ به. جاء بكل ما احتجت إليه في ذاك الوقت بالتحديد، ربما لو جاء في وقت آخر لم أكن لأراه من الأساس.

كان شعوراً بانجذاب جسدي وروحي لم أجرّبه من قبل، نسخة من المشاعر حصريَّة جاءت مع هذا الرجل، شعور ديكتاتوري تحكّم في طريقة تفكيري وتعاملي اليومي مع الناس حدَّ نسياني أنَّي أعيش بينهم. آه يا آني، أدرك تماماً وأستوعب شعورك أن الحياة كلها انحصرت في هيئة هذا الشخص، وكأن برحيله لا فرصة للحصول على إنسان آخر يقاسمنا الحب، والحياة، والشغف، والضحك، وكل شيء. إننا وسط لعنة شغفنا به لا نفكر سوى أن "نغرق لشوشتنا" في حبّه، دون أن ننظر خطوة واحدة أبعد من وقتنا الذي نعيشه معه. إنه آخر رجل خُلق على هذه الأرض على مقاس سعادتنا تماماً، حتى لو كنا نعيش هذه المتعة وندرك جيداً أنها ستغدو بمثابة ألمٍ مستقبلي.

ما يجعلني أتساءل الآن وأنا خالية من الشغف، وأعيش الحياة بكل هدوء وسلام:  هل نحتاج فعلاً لمثل تلك القصص التي لا نعرف فيها رأسنا من رجلنا، أولها من آخرها، التي تأخذنا في "دوكة" قصص خاطفة ولذيذة، سريعة الانتهاء، ممتدة الأثر والوجع، أن نجرّبها حتى من باب التجربة؟

وهل نكون محظوظين أم تعساء حين تمضي بنا الأيام هادئة دون هذا الشغف المربك؟  ماذا عن قصص الحب الآمنة البسيطة التي تدخلنا بسلامٍ وتغادرنا بسلامٍ أيضاً، السؤال الأهم هل يمكن أن يكون هناك حب دون شغف أو شغف دون حب، وأيهما أقوى من الآخر، هل شغفنا بالشيء هو الذي يجعله يستمر أم حبنا للشيء هو الذي يجعل شغفنا به متقداً دائماً؟

في قصة إرنو هناك شغف مستمر ومتلاحق ومتقد دائماً، وانتظار لا حدّ له، شخص يحضر يوماً لعدد محدّد من الساعات قد تكون ساعة فقط، ويغيب لأيامٍ وشهورٍ قبل أن يتصل ويعود للظهور مرة أخرى، قصّة شغف تنحصر بين الحضور والغياب وبينهما، هي الضائعة في الحكاية، تنتظره على أحرّ من الجمر، تتوقف عن فعل أي شيء يفسد انتظارها له، لا تريد أن يتشتت ذهنها بأي شيء عداه، تخاف ألَّا يأتي، أو أن يأتي وتكون رغبته فيها أقل.

وأنت تعيش الشغف "غارق فيه لشوشتك" هناك حالة من الاستسلام التام لحبيبك، تنغمس فيه بكلّك، أنت أسير تلك النشوة وهذا الألم، لا تريد أن يغادرك أو تغادره، تتمسّك به بكل ما أوتيت من قوةٍ وحب، لكن حين يغادرك– أقول يغادرك لأن الواقع في حالة شغفٍ لا يبادر بالمغادرة مطلقاً- وتبتعد عنه فترة معينة حتى وإن لم تتحرّر كلياً من شعورك نحوه، ستهرب من أي شيء يذكّرك به، ستتمنى كل ليلة أن تستيقظ في الصباح وقد تخلصت من هذا الشعور والألم، ستحاول وتحاول وتحاول، لا سبيل للتعافي منه غير مساعدة نفسك على البعد والبدء من جديد في هواء وبيئة خالية منه. من عاش قصة شغف يعرف أنه مرّ بهذه المراحل الثلاث.

المرحلة الأولى: الشغف والانجذاب المتبادل

بالبداية، يكون هناك انجذاب وشغف متبادل، تواصل لا بأس به لإشباع طيش وتهوّر البدايات، كل الأمور تبدو هادئة وسعيدة، لا مشاكل تعكّر الصفو، حتى لحظات الصمت تتخلّلها بعض الأغاني والرسائل القصيرة،  ثم الضحكات التي تخرج من قلب القلب والحكايات التي لا تنتهي عند اللقاء، حكايات لم نكن نتوقع أن نحكيها لأحد نحكيها له بود وحميميَّة.

أنت محظوظ حين تحب، سواء أحببت شخصاً واحداً طوال حياتك أو أحببت عدة أشخاص، لكن الأمر يختلف تماماً حين تعيش هذا الحب في صورة شغف. نعم قصة شغف وليس قصة حب، لا أستطيع أن أحدّد بالضبط، هل أمك داعية لك ولا داعية عليك؟

حتى الوقت الذي لا يجمعنا معه يكون على حسابه. كل فعل، كل خطوة، كل قول، كل رأي تبادلناه مع الناس يكون شريكاً فيه، هو الحاضر رغم غيابه، نشتري الملابس ونتخيّل كيف سيراها علينا، نضع المكياج والعطور التي نتوقع أن تعجبه، المهم أن نظهر دائماً بالمظهر الجذاب والجديد. نتوقع أن يلاحظ الناس وجوده الخفي وراء تصرفاتنا، تقول أرنو: " أشعر به ينعكس على كل تصرفاتي حتى أني أندهش من الرجال الذين يحاولون مغازلتي كيف لهم أنهم لم يروا صورته التي تشفّ داخل جسدي".

أرنو في قصة شغفها كانت تقوم بترك كل الأشياء والملابس مبعثرة هنا وهناك بعد مغادرته لتثبت لنفسها أن شيئاً ما حدث بينهما بالفعل، كما تقوم بتدوين كل المواقف والأقوال التي صدرت منه وتقرأها مراراً في غيابه، كي تعطي لنفسها مبرّراً للاستمرار في هذه العلاقة التي يبدو في ظاهرها أنه لا يهتم لهذا الحريق الذي يشبّ في جسدها شوقاً له في كل لحظة يغيب فيها. تعلم جيداً أنها تفكر فيه ليل نهار في حين يمضي نهاره بأكمله دون أن يفكّر بها ولو لحظة واحدة، وترى نفسها بالرغم من ذلك أنها المحظوظة في الحكاية، لأنها تعيش مشاعر تملأ عليها حياتها، ولو حدث وانفصلا سيكون عليها أن تتابع حياتها دون انتظار أحد، وهذه مصيبة تحوّل حياتها بلا معنى.

هل تعرفون ذاك الشعور؛ أن تنام وأنت تفكّر في شخصٍ تحبه، ثم تستيقظ وهو أول فكرة تخطر ببالك، وأول صورة تفتح عليها عينيك، أول رسالة ترسلها أو "صباح الخير" تقولها، هو أوّل كل شيء، بل وسط ونهاية الأشياء كلها، كل اهتمامات اليوم تنصبّ عليه وله ومن خلاله، كل ذلك بالطبع يقابله ترحيب وصدى عند الطرف الآخر، الذي يفتح عينه هو الآخر وقلبه عليك، بتَّ الآن تحتل المركز الأول في حياته؛ ما يزيد من شغفك به، ويُسيَّر حياتك باتجاه هذا الشخص وحده.

المرحلة الثانية: خلل وتأرجح في الشغف المتبادل

كل الشغف المتبادل، والأغاني والرسائل والكلام الكثير والاهتمام المبالغ فيه الذي تكلمنا عنه في المرحلة السابقة، يقلّ بالتدريج عند أحد الأطراف قبل الآخر، هناك طرف أحبّ فقط، أو نفذ رصيده من الشغف، ولا نية لديه لمحاولة شحنه من جديد، وطرف آخر لا يزال على شغفه المتقد، يشعر بانعدام الرَّغبة لدى حبيبه لكنه يحاول التمسّك به بكل وسيلة، لكن دون فائدة، فقد قرّر الآخر أن ينسحب ويغادر.

اليقين الذي شعرت به أرنو في بداية علاقتها بأن الشغف بينها وبين حبيبها متبادل، تأرجّح وقلّ بالتدريج، ليصبح أكثر تحفّظاً وأقلّ ميلاً للكلام عن حكاياته الخاصة، وبعد فترة لم يعد يهديها أي شيء. كان يحسب وجوده وحده كافياً ليكون أعظم هدية ممكن أن يقدمها لها. تقول: "يقدم لي رغبته كهدية". تحوّلت لامرأة تنتظر رجلاً لا يأتي إلا نادراً، بجسدٍ يسبّب لها الكثير من الألم في غيابه، تشك كثيراً بأنَّها لم تكن سوى مجرّد وقت قضاه من خلالها.

الشغف لن يمزح معك، ستجده حاداً كالشفرة، يجرحك لا محال، وماكراً كالثعلب، لا تعرف متى تسلّل بالضبط وأكل كلّ خراف قلبك

المرحلة الثالثة: انتهاء الشغف وعاديته

مع فقدان أحد الطرفين شغفه وابتعاده تلقائياً وبشكل نهائي، ومحاولة الطرف الآخر التعافي من شغف يكاد يقتله. رحلة التعافي ليست سهلة، يشعر فيها أن حبيبه يحاصره في النوم واليقظة وكأنه يقيم فوقه باستمرار، يأكل ويشرب ويعمل وينام معه. كل الأشياء التي كان يرتديها له أصبحت مهملة، كل الأماكن التي قابله فيها يتجنّب المرور بجوارها، حتى إنه يتجنّب سماع الأغاني التي أحبها لأجله، وعدم الرغبة في رؤية الأشخاص الذين ارتبط وجودهم به.

خلال هذه المرحلة يفتح عينيه على ما كان لا يشكل مشكلة وقت العلاقة، ويشعر كمّ القيود التي قَبِل بها تحت مظلّة حبه دون أن يتذمّر أو يثور، يشعر بقيمة ما كان يعطيه بشكل مجاني من وقت وحب دون أن يدرك الآخر أهمية ذلك، يطلق شتائم لا بأس بها عليه كخطوة عاشرة للتعافي.

وفي الحالات الأكثر ألماً وخسارة، في خطوة سبقتها مئات الخطوات، سيبحث عن شخصٍ جديدٍ– لا يهم صفته وشكله- والذي قد يُحدث ألماً جديداً هو الآخر  ليمحو ألماً حالياً لا يُحتمل.

بعد سنوات سيقابل نفس الشخص الذي جنّ جنونه به، بعد أن راح عنه مفعول الشغف، وسيراه عادياً جداً، عادياً أكثر من اللازم.

بعد زمنٍ مضى، أحمد الله على قصة شغف عشتها بكل جنونٍ وصدقٍ في سنٍ صغيرٍ، كان القلب فيه أخضر لا يحتمل مثل تلك الخسارات المبكرة، لكنه كان بطلاً خلال رحلة التعافي التي استغرقت سنوات، شعرتُ فيها بقلبي يكابر ويعاند كبطلٍ جريح خسر الحرب دون أن يدري السبب، أو يملك خطة أو نصيحة للتجاوز.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

بالوصول إلى الذين لا يتفقون/ ن معنا، تكمن قوّتنا الفعليّة

مبدأ التحرر من الأفكار التقليدية، يرتكز على إشراك الجميع في عملية صنع التغيير. وما من طريقةٍ أفضل لنشر هذه القيم غير أن نُظهر للناس كيف بإمكان الاحترام والتسامح والحرية والانفتاح، تحسين حياتهم/ نّ.

من هنا ينبثق رصيف22، من منبع المهمّات الصعبة وعدم المساومة على قيمنا.

Website by WhiteBeard