ماذا نُسمي الكائن الذي يعمل صباحاً ثم يعود إلى مبيته ليجد طعام أُعِد له تقديراً على عمله اليوم وتشجيعاً لمواصلة العمل غداً، نتجنب مناقشته نظراً لأنه لم يُخلق بخواص تساعده على النقاش، ونوافقه إن أدخل قاذورات أقدامه إلى المنزل الذي يعيش فيه، ونتركه يسرح ويمرح ويلهو بأشيائنا دون توقيفه عن فعل ذلك؟ ليس إنساناً عاقلاً بالطبع، كما أنه ليس طفلاً، لأنه حتى الأطفال سنميل إلى تقويمهم من أجل تحسين سلوكياتهم. إذن نحن نبحث عن كائن آخر، ينتمي لعالم أقدم من الذي نعيشه، مُنقرض أو إنسان ما قبل التطور مثلاً، لكنه من وجهة نظر الإعلامية المصرية ياسمين عز هذا وصف لفرعون.
أطلقت ياسمين على الرجل المصري وصف فرعون، لا لأنه يبني مجداً أو يغزو أرضاً أو يوحّد وطناً، لكن لأنها ترى في الفراعين قوّة وسلطة امتلكوها بالوراثة بالجنس وليس الدم تلك المرة، تلك القوّة يرافقها امتيازات التسلّط والعنف والهمجية والترفّع عن أي محاسبة من العامة، أي الزوجات في قصتنا، ولو علمت ياسمين ما في قصص الملوك القدماء وملكاتهم من شورى ومشاركة وأعلى آيات الاحترام لاقترحت وصفاً آخر للرجال الذين تقصدهم، مثل الهكسوس ربما.
عندما يمتزج شعور العظمة بالمزاح مع تغييب العقل مقابل قطع شوكولاته ياسمين عز، يُصبح لدينا إنسان بدائي مُختال، يعيش معتقداً أنه فرعون
بداية، لماذا اختارت ياسمين عز أن تُدلِّل الرجل؟
أثق أن كل ما سبق كتابته في المقدمة لا يُمثِل من وجهة نظر ياسمين القليل، لكنها ستفعله على أي حال، لماذا؟ لأن الوفرة في المعروض التي تضع ثقلها على كل مناحي الحياة ومنافساتها لم تترك للإعلاميين الحلول الكثيرة من أجل الاستمرار في شهرتهم ومشاهداتهم ومن ثم مقاعدهم، فذهب الكثير منهم إلى الحل الأسهل وهو الانتشار المتواصل، لا يهم بم تنتشر، فقط انتشر وكرّر هذه اللعبة مرة أسبوعياً على الأقل، وهكذا ستصبح ناجحاً بمقاييس أصحاب القنوات والمُعلنين، وسواء كنت ذكياً أو غبياً، تقول حكمة أو تغنّي بصوت قطة، فذلك جيد طالما ما تفعله سيحقّق لك الانتشار أو الاشتهار، كما فرّق زيجمونت باومان في كتاب "الثقافة السائلة" بينه وبين الشهرة تلك التي تحدث لأسباب تخصّ جودة المضمون.
رجل ولكن...
كرجل، أشعر بالغضب كلما شاهدت مقطعاً من برنامج ياسمين عز لسببين، الأول لأني أرفض أن أكون ذلك الساذج الذي يُستعمل لتحقيق إحداهن الاشتهار كأداة للاستفزاز وإثارة الجدل، إلى جانب أن الأمر يبدو كأنك تعطي لطفل ما شوكولاته، تمنعها عنه والدته، لكي يوافق على اصطحابك له ليس أكثر، والرجل حقاً سيشعر بالحرج إذا علم أن هناك من يتبع هذا الأسلوب الساذج معه، وثانياً لأن ما تقوله ياسمين يُعطي صورة عن الرجال بشكل عام أنهم كائنات تعاني من قيود التحضّر، وتسعى للعيش في عالم أشبه بعالم الإنسان الصيّاد الذي لا يمتلك إلا جسده ليرعاه، أكلاً ودلالاً، أما العقل فهو من الآثار الجانبية التي يجب تجنّبها، وهذا ما أعتبره شخصياً سُبّة.
مسيرة الصياد الوحيد
لطالما رأيت في حقوق النساء - التي تضعها ياسمين عز تحت حذاء الرجل - حقوقاً للرجال أنفسهم في إيجاد شريكة بمعنى الكلمة، تحمل معي أعباء الحياة لا تُصبح مشاهدة لها، عقل يصحح ويطرح ويُضفي على الشراكة أثراً أساسياً يُسهل من مهمة الحياة لا مجرد جسد يتجول في المنزل، وهكذا أرى أن ما تطرحه ياسمين يحول الرجل من كائن اجتماعي يشارك أثقاله مع شريكته في الحياة أولاً إلى كائن وحيد للغاية، كائن ساذج بدائي وحيد للغاية.
في النهاية، ياسمين عز خطر أم مجرّد نكتة؟
بالنسبة للرجال، فخطورة المادة التي تقدمها ياسمين تكمن في قبولهم لها دون رؤية ما خلفها من احتقار لعقل الرجل لصالح عضلاته وأمواله، وأيضاً تصدّر ياسمين كناشطة عن حقوق الرجل، تحول قضاياه - إن وجدت - إلى تفاهات تقال بخطاب يساير عقل كائن أدنى من البشر، يحتاج أن "تأخذه على قدر عقله" ليس إلا.
تغذية عقل الرجل بوجوب امتلاك شخصية فرعون "بأوصاف ياسمينية" لتفادي المشكلات الزوجية يجعل الأمر أسوأ من ذي قبل، خاصة عندما يُروّج لذلك بأسلوب سطحي أشبه بالمزاح، لأن لا أحد سيتناول المزاح بنقد اجتماعي عميق مثلاً
أما بالنسبة للعلاقات الزوجية، فلو كان برنامج ياسمين يُبث عبر إحدى القنوات التي لا تمتلك نسب مشاهدة عالية لكانت مجرّد نكتة سخيفة لا أكثر، لكن وللطبيعة التي تظهر بها قناة إم بي سي مصر وسط بقية القنوات من ناحية الإمكانيات التقنية والمادية والجماهيرية العالية، فكل ما سيُقال هناك لن يبقى هناك بل سينتشر عاجلاً وليس آجلاً، والمشكلة الأكبر هنا لا تنحصر في ما تقوله ياسمين عز لكن في الطريقة التي تتبعها من تسفيه لنقاشات هامة، مثل استيعاب الاختلافات وكبت الغضب، في الوقت الذي يعاني المجتمع المصري بوضوح من أشكال تسلّط وعنف منزلي، وصل إلى تكرار لحالات قتل مثلاً في فترات زمنية قريبة.
المسؤولية ستظل تقع على عاتق مرتكب الفعل بالطبع، لكن تغذية عقل الرجل بوجوب امتلاك شخصية فرعون "بأوصاف ياسمينية" لتفادي المشكلات الزوجية يجعل الأمر أسوأ من ذي قبل، خاصة عندما يُروّج لذلك بأسلوب سطحي أشبه بالمزاح، لأن لا أحد سيتناول المزاح بنقد اجتماعي عميق مثلاً، والنتيجة سيبحث الفرعون الجديد عن سوط يعينه على بناء هرم منزلي يجلس أعلاه، ويُبعد عن الأفق تماماً أي نقاشات جادة لخطط أخرى تعالج مشاكل الزواج، وعندما يمتزج شعور العظمة بالمزاح مع تغييب العقل مقابل قطع شوكولاته ياسمين عز، يُصبح لدينا إنسان بدائي مُختال، يعيش معتقداً أنه فرعون.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
عبد الغني المتوكل -
منذ 7 ساعاتوالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ 8 ساعاترائع
مستخدم مجهول -
منذ 4 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت