شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!
نمش أسمر، زوائد لحمية، والكثير من حبِّ الرمان… عن الجدّة التي سأكونها

نمش أسمر، زوائد لحمية، والكثير من حبِّ الرمان… عن الجدّة التي سأكونها

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مجاز نحن والنساء

السبت 29 يوليو 202311:59 ص


 

سأصبح يوماً جدّة، أخبِّئ التفاحات لحين تتسلّل بقع بنية فتلوّنها، أتمعّن بجلدها الآخذ بالانكماش كما جلدي، أتصيّد عابر سبيل؛ أقسم عليه أن يأكل نصف واحدة، أحزّها بسكين المنشار وينظر هو بحسرة باسمة إلى رجفة يدي، يأخذ النصف ولا يأكله، يهرول لأمرٍ عاجلٍ ينتظره عند عتبة الزمن، ويمضيان…

آكل النصف الآخر ولسان حالي يردّد: "لوبعرفك مارح تاكل ماكنت فتحتها".

*****

يتسابق النمش الأسمر والزوائد اللحمية الصغيرة لزندي، وتمتلئ العروق حدّ الانتباج، ينمو حبّ الرمان بين ثديي، حتماً لن أحزن، فكل أثداء الجدّات مترهّلة، مع الكثير من ذلك الزائر الأحمر.

بطني الكبيرة، المجعّدة كمعجنٍ للخبز، لن أتأمّلها كثيراً، فأولادي الكثر تركوا لركلاتهم أثراً ومضوا؛ كيفما تفعل القبضات بكرة العجين الضخمة المتراخية، سأبرع بمقاديره دون مقياس، حين يكلّلني العمر لجوارهن، ألوّح رغيفي برشاقة، وأصفع وجهه بالطين الساخن، أتناوله بخفّة، وأمسح وجنتيه بالزيت حتى يرضى ويصفح.

حين أصير جدة لابدّ من حدبةٍ وفيّةٍ تلزمني النظر للأسفل… لكن لابأس، لن تحول بيني وبين لفّ ورق العنب، سأحشوه بسربٍ واحدٍ من الأرز والدهن، و سأكثر من الملح، أتحدّى جبروت الحياة بطعم البحار.

كلما استنهضتُ طولي، ستقرع مفاصلي طبول الكِبَر، أكتم الآه كما لا تفعلن. أنام قليلاً وآكل قليلاً وأسعى على طول التعب.

أتفقّد أغراضي بعناية، عليّ حمايتها كل ليلة من السرقة: الملعقة الخشبية، مُربّى التوت، جزداني الجلدي مع صور الغائبين، لربما يتخاطفهم اللصوص فلا يعودون، كذلك خاتم الفضة الذي بالغ بالاتساع مؤخراً، فبات ينزلق مع كل وضوء.

سأجمع خصلات شعري المتساقطة، أنتزعها من مشطي الخشبي، أجمّعها في ركنها لأحشو بها يوماً مخدّتي التي سيتكئ عليها تاريخي الأخير، ومن قال بأن الجدّات يرحلن؟ يأخذن قيلولة طويلة فحسب، ولابدّ من وسادة مريحة.

حتى أعواد الثقاب النصف مشتعلة لن أفرّط بها، مع نكّاشات الأذان القطنية، لابدّ وأنها ستدفئ قلب الشتاء ليحنّ على أحدهم.

حين أصير جدة لابدّ من حدبةٍ وفيّةٍ تلزمني النظر للأسفل… لكن لابأس، لن تحول بيني وبين لفّ ورق العنب، سأحشوه بسربٍ واحدٍ من الأرز والدهن، و سأكثر من الملح، أتحدّى جبروت الحياة بطعم البحار... مجاز

*****

لن ينام معي أحد، الكلّ يكره شخير الجدّة، ولن يزور مساءاتي أحد، الحديث المُعاد يُفقد شهية المجالسة، كذلك المقارنة الواهية بين زماننا المكتنز، وزمنهم المتقارب مع طعم الماء المخزّن ولونه.

لن ينام معي أحد، الكلّ يكره شخير الجدّة

 سأنسى أين وضعت كوب الماء، ثم أعثر عليه في يدي، وأضحك. كثيراً، أدوّر مصحفي كثيراً، وكبسولات الدواء الملوّنة، هل تناولتها؟ مفتاح الباب أعلّقه في رقبتي، ضياعه يعني المبيت دون داري، سأنسى كثيراً، أفقد التمييز بين أسماء أحفادي، كثر يا إلهي! من أين لذاكرة واحدة أن تجمّعهم... لكني لن أنسى قطة الشارع حتماً، أطعمها وإن لم تطلب، كذلك حكايات الذبابة والقط الحسود، والحمامات ورفيقهم الجحش الكسول، فدونها لن أبقى جدّة!

أضع كرسيِّ الخشب الصغير عند عتبة الباب وأسلّم على المارة كلّهم، وإن لم يردّوا السلام، فالتحية أصبحت بالمجّان.

ينفر الأحفاد من قبلاتي صبيحة العيد، لكني أرشيهم بحبة كراميل، فيقبلون الصفقة، يضحك الجميع عندما أستهجن وجود أحدهم على الهاتف الذكي يشاركنا الأمسية، أصغي لكروية الأرض، وأسأل عن الذين في طرف الدنيا، ألا يقعون؟! سأصغي كثيراً، ولن أثرثر فحديث الجدّات، وإن أُثني عليه، من الحكمة أن يكون مختصراً.

سأكدّس علب المراهم، أرسم عليها أقماراً وشموساً.

*****

نتقاسم أنا ووحدتي السبحة والدمع والصور، أعيرها الماضي أوّل المساء لتعيده منهكاً ممتلئاً آناء الليل.

أنا روزنامة الأعياد، أتلو على أحفادي قصة ميلادهم، وكم من التفاصيل الغريبة حدثت يومها، جواريري تضجر بالتين المجفف والزبيب، والقباقيب الملوّنة، أخرج منها حفنة كلّما مرّ أحدهم على البال، لن أكلّمهم عن ظلم جدهم، ولن أحكي عن معاناتي مع أمه، وإذا ما سألني أحدهم عن ندبة توّسطت ساعدي الأيسر، سأختلق أمراً في حينها، فجمرة الزوج التي تناولها من نرجيلته وأطفأ بها وشم الحب الأوّل، ستبقى عصيّة على البوح، حتى له!

ما علم بأن جهة القلب كانت الأقرب من جمرته، هربت حروف الوشم إليه، لأستيقظ أنا على رائحة لحمي المشوي، وخفقٌ يلهث باسمٍ لطالما ناديته حُلماً حتى بحّ صوتي...

أُلبس العقيق لحفيدتي عندما تصبح عروساً، وأمنح أوّل العرائس خاتمي الفضي، لتذكرني كلّما علق به الصابون.

 جدّة عادية، أحكي الحكايا العادية، أكلّم أحفادي عن غزالي الصغير الذي لحق بي من البراري، فأنا اليتيمة التي رفض أبيها لها زوجة أب، كنتُ أماً لغزال، وكان طفلي مهما شرد عني يعود ليشرب من كفي الصغيرة ذات الأعوام الخمسة، وسرعان ما يتسرّب الماء من بين أصابعي فيلعق ما تبقى ويكفيه.

لا أدري كم من الوقت سأظل جدّة، لكني حتماً أرش الأرز على توابيت شبّانٍ أخطأهم الموت وخطفهم بدلاً مني في كل مرّة… العائدون من الحرب، أزرع على خطواتهم الأخيرة زغاريد فرح  وضمّة حبق لا تُقطف إلّا لأحدهم... مجاز

*****

أنا الجدّة العادية، سيتوجب عليّ فعل الكثير…

صباحاً، يقصدني الكاحل الملوي، فأبرم من نعجتي خيط صوف وأدعكه بالتمائم، أحيط بها الألم فيبرأ، وأشوي لكل ظفرٍ تنكّر له إصبعه بصلة صغيرة، تُقنع بالعودة والالتحام.

عند الظهيرة، أخرج ثوبي المزركش بورود بيضاء، وأقصّ قماشه الكحلي بعناية، أدوّر عجلة مكنة الخياطة بيدي، لطالما كانت وفيّة لها، تأتمر بأصابعها فلا تجمح على صهوة الكهرباء، أصنع من "النزالات" عدداً لا أحصيه، أوزعه على زوجات أولادي، وأتمتم: اذكروني بخير كلّما سخنت يد إبريق الشاي!

وما إن يسدل الليل وشاحه، أنسج الصوف لأُدفئ به أجساد الأحبّة، ولابدّ تخبرهم أساوري الذهبية مع كلّ غرزة، كم دعوت لأجلهم دون حاجة لأقول، الجدات لا يعترفن وهنّ يحكن الصوف… هذا فعل الأساور.

لا أدري كم من الوقت سأظل جدّة، لكني حتماً أرش الأرز على توابيت شبّانٍ أخطأهم الموت وخطفهم بدلاً مني في كل مرّة… العائدون من الحرب، أزرع على خطواتهم الأخيرة زغاريد فرح  وضمّة حبق لا تُقطف إلّا لأحدهم، أحمّلهم السلامات بعدد حبّات الأرز، لولدي ولحفيدي ولخالي... أفتح كفوفي المحنّاة في وجه زمانهم، أشكو ظلمه الذي طالني أنا الآتية من قديمه... وفي كل مرّة أعيد المعاتبة بلحنِ الشجن، تبكيني كأوّل فقد:

بكت عيني وعين أمي علي هم

تجدّد يا حزن قلبي عليهم

أشوف البين مدّ إيدو عليهم

حرمني الدهر شمّات الطياب.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

منبر الشجعان والشجاعات

تكثُر التابوهات التي حُيِّدت جانباً في عالمنا العربي، ومُنعنا طويلاً من تناولها. هذا الواقع هو الذي جعل أصوات كثرٍ منّا، تتهاوى على حافّة اليأس.

هنا تأتي مهمّة رصيف22، التّي نحملها في قلوبنا ونأخذها على عاتقنا، وهي التشكيك في المفاهيم المتهالكة، وإبراز التناقضات التي تكمن في صلبها، ومشاركة تجارب الشجعان والشجاعات، وتخبّطاتهم/ نّ، ورحلة سعيهم/ نّ إلى تغيير النمط السائد والفاسد أحياناً.

علّنا نجعل الملايين يرون عوالمهم/ نّ ونضالاتهم/ نّ وحيواتهم/ نّ، تنبض في صميم أعمالنا، ويشعرون بأنّنا منبرٌ لصوتهم/ نّ المسموع، برغم أنف الذين يحاولون قمعه.

Website by WhiteBeard
Popup Image