سأصبح يوماً جدّة، أخبِّئ التفاحات لحين تتسلّل بقع بنية فتلوّنها، أتمعّن بجلدها الآخذ بالانكماش كما جلدي، أتصيّد عابر سبيل؛ أقسم عليه أن يأكل نصف واحدة، أحزّها بسكين المنشار وينظر هو بحسرة باسمة إلى رجفة يدي، يأخذ النصف ولا يأكله، يهرول لأمرٍ عاجلٍ ينتظره عند عتبة الزمن، ويمضيان…
آكل النصف الآخر ولسان حالي يردّد: "لوبعرفك مارح تاكل ماكنت فتحتها".
*****
يتسابق النمش الأسمر والزوائد اللحمية الصغيرة لزندي، وتمتلئ العروق حدّ الانتباج، ينمو حبّ الرمان بين ثديي، حتماً لن أحزن، فكل أثداء الجدّات مترهّلة، مع الكثير من ذلك الزائر الأحمر.
بطني الكبيرة، المجعّدة كمعجنٍ للخبز، لن أتأمّلها كثيراً، فأولادي الكثر تركوا لركلاتهم أثراً ومضوا؛ كيفما تفعل القبضات بكرة العجين الضخمة المتراخية، سأبرع بمقاديره دون مقياس، حين يكلّلني العمر لجوارهن، ألوّح رغيفي برشاقة، وأصفع وجهه بالطين الساخن، أتناوله بخفّة، وأمسح وجنتيه بالزيت حتى يرضى ويصفح.
حين أصير جدة لابدّ من حدبةٍ وفيّةٍ تلزمني النظر للأسفل… لكن لابأس، لن تحول بيني وبين لفّ ورق العنب، سأحشوه بسربٍ واحدٍ من الأرز والدهن، و سأكثر من الملح، أتحدّى جبروت الحياة بطعم البحار.
كلما استنهضتُ طولي، ستقرع مفاصلي طبول الكِبَر، أكتم الآه كما لا تفعلن. أنام قليلاً وآكل قليلاً وأسعى على طول التعب.
أتفقّد أغراضي بعناية، عليّ حمايتها كل ليلة من السرقة: الملعقة الخشبية، مُربّى التوت، جزداني الجلدي مع صور الغائبين، لربما يتخاطفهم اللصوص فلا يعودون، كذلك خاتم الفضة الذي بالغ بالاتساع مؤخراً، فبات ينزلق مع كل وضوء.
سأجمع خصلات شعري المتساقطة، أنتزعها من مشطي الخشبي، أجمّعها في ركنها لأحشو بها يوماً مخدّتي التي سيتكئ عليها تاريخي الأخير، ومن قال بأن الجدّات يرحلن؟ يأخذن قيلولة طويلة فحسب، ولابدّ من وسادة مريحة.
حتى أعواد الثقاب النصف مشتعلة لن أفرّط بها، مع نكّاشات الأذان القطنية، لابدّ وأنها ستدفئ قلب الشتاء ليحنّ على أحدهم.
حين أصير جدة لابدّ من حدبةٍ وفيّةٍ تلزمني النظر للأسفل… لكن لابأس، لن تحول بيني وبين لفّ ورق العنب، سأحشوه بسربٍ واحدٍ من الأرز والدهن، و سأكثر من الملح، أتحدّى جبروت الحياة بطعم البحار... مجاز
*****
لن ينام معي أحد، الكلّ يكره شخير الجدّة، ولن يزور مساءاتي أحد، الحديث المُعاد يُفقد شهية المجالسة، كذلك المقارنة الواهية بين زماننا المكتنز، وزمنهم المتقارب مع طعم الماء المخزّن ولونه.
لن ينام معي أحد، الكلّ يكره شخير الجدّة
سأنسى أين وضعت كوب الماء، ثم أعثر عليه في يدي، وأضحك. كثيراً، أدوّر مصحفي كثيراً، وكبسولات الدواء الملوّنة، هل تناولتها؟ مفتاح الباب أعلّقه في رقبتي، ضياعه يعني المبيت دون داري، سأنسى كثيراً، أفقد التمييز بين أسماء أحفادي، كثر يا إلهي! من أين لذاكرة واحدة أن تجمّعهم... لكني لن أنسى قطة الشارع حتماً، أطعمها وإن لم تطلب، كذلك حكايات الذبابة والقط الحسود، والحمامات ورفيقهم الجحش الكسول، فدونها لن أبقى جدّة!
أضع كرسيِّ الخشب الصغير عند عتبة الباب وأسلّم على المارة كلّهم، وإن لم يردّوا السلام، فالتحية أصبحت بالمجّان.
ينفر الأحفاد من قبلاتي صبيحة العيد، لكني أرشيهم بحبة كراميل، فيقبلون الصفقة، يضحك الجميع عندما أستهجن وجود أحدهم على الهاتف الذكي يشاركنا الأمسية، أصغي لكروية الأرض، وأسأل عن الذين في طرف الدنيا، ألا يقعون؟! سأصغي كثيراً، ولن أثرثر فحديث الجدّات، وإن أُثني عليه، من الحكمة أن يكون مختصراً.
سأكدّس علب المراهم، أرسم عليها أقماراً وشموساً.
*****
نتقاسم أنا ووحدتي السبحة والدمع والصور، أعيرها الماضي أوّل المساء لتعيده منهكاً ممتلئاً آناء الليل.
أنا روزنامة الأعياد، أتلو على أحفادي قصة ميلادهم، وكم من التفاصيل الغريبة حدثت يومها، جواريري تضجر بالتين المجفف والزبيب، والقباقيب الملوّنة، أخرج منها حفنة كلّما مرّ أحدهم على البال، لن أكلّمهم عن ظلم جدهم، ولن أحكي عن معاناتي مع أمه، وإذا ما سألني أحدهم عن ندبة توّسطت ساعدي الأيسر، سأختلق أمراً في حينها، فجمرة الزوج التي تناولها من نرجيلته وأطفأ بها وشم الحب الأوّل، ستبقى عصيّة على البوح، حتى له!
ما علم بأن جهة القلب كانت الأقرب من جمرته، هربت حروف الوشم إليه، لأستيقظ أنا على رائحة لحمي المشوي، وخفقٌ يلهث باسمٍ لطالما ناديته حُلماً حتى بحّ صوتي...
أُلبس العقيق لحفيدتي عندما تصبح عروساً، وأمنح أوّل العرائس خاتمي الفضي، لتذكرني كلّما علق به الصابون.
جدّة عادية، أحكي الحكايا العادية، أكلّم أحفادي عن غزالي الصغير الذي لحق بي من البراري، فأنا اليتيمة التي رفض أبيها لها زوجة أب، كنتُ أماً لغزال، وكان طفلي مهما شرد عني يعود ليشرب من كفي الصغيرة ذات الأعوام الخمسة، وسرعان ما يتسرّب الماء من بين أصابعي فيلعق ما تبقى ويكفيه.
لا أدري كم من الوقت سأظل جدّة، لكني حتماً أرش الأرز على توابيت شبّانٍ أخطأهم الموت وخطفهم بدلاً مني في كل مرّة… العائدون من الحرب، أزرع على خطواتهم الأخيرة زغاريد فرح وضمّة حبق لا تُقطف إلّا لأحدهم... مجاز
*****
أنا الجدّة العادية، سيتوجب عليّ فعل الكثير…
صباحاً، يقصدني الكاحل الملوي، فأبرم من نعجتي خيط صوف وأدعكه بالتمائم، أحيط بها الألم فيبرأ، وأشوي لكل ظفرٍ تنكّر له إصبعه بصلة صغيرة، تُقنع بالعودة والالتحام.
عند الظهيرة، أخرج ثوبي المزركش بورود بيضاء، وأقصّ قماشه الكحلي بعناية، أدوّر عجلة مكنة الخياطة بيدي، لطالما كانت وفيّة لها، تأتمر بأصابعها فلا تجمح على صهوة الكهرباء، أصنع من "النزالات" عدداً لا أحصيه، أوزعه على زوجات أولادي، وأتمتم: اذكروني بخير كلّما سخنت يد إبريق الشاي!
وما إن يسدل الليل وشاحه، أنسج الصوف لأُدفئ به أجساد الأحبّة، ولابدّ تخبرهم أساوري الذهبية مع كلّ غرزة، كم دعوت لأجلهم دون حاجة لأقول، الجدات لا يعترفن وهنّ يحكن الصوف… هذا فعل الأساور.
لا أدري كم من الوقت سأظل جدّة، لكني حتماً أرش الأرز على توابيت شبّانٍ أخطأهم الموت وخطفهم بدلاً مني في كل مرّة… العائدون من الحرب، أزرع على خطواتهم الأخيرة زغاريد فرح وضمّة حبق لا تُقطف إلّا لأحدهم، أحمّلهم السلامات بعدد حبّات الأرز، لولدي ولحفيدي ولخالي... أفتح كفوفي المحنّاة في وجه زمانهم، أشكو ظلمه الذي طالني أنا الآتية من قديمه... وفي كل مرّة أعيد المعاتبة بلحنِ الشجن، تبكيني كأوّل فقد:
بكت عيني وعين أمي علي هم
تجدّد يا حزن قلبي عليهم
أشوف البين مدّ إيدو عليهم
حرمني الدهر شمّات الطياب.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Emad Abu Esamen -
منذ 9 ساعاتلقد أبدعت يا رؤى فقد قرأت للتو نصاً يمثل حالة ابداع وصفي وتحليل موضوعي عميق , يلامس القلب برفق ممزوج بسلاسة في الطرح , و ربما يراه اخرون كل من زاويته و ربما كان احساسي بالنص مرتبط بكوني عشت تجربة زواج فاشل , برغم وجود حب يصعب وصفه كماً ونوعاً, بإختصار ...... ابدعت يا رؤى حد إذهالي
تامر شاهين -
منذ يومهذا الابحار الحذر في الذاكرة عميق وأكثر من نستالجيا خفيفة؟
هذه المشاهد غزيرة لكن لا تروي ولا تغلق الباب . ممتع وممتنع هذا النص لكن احتاج كقارئ ان اعرف من أنت واين أنت وهل هذه المشاهد مجاز فعلا؟ ام حصلت؟ او مختلطة؟
مستخدم مجهول -
منذ يوممن المعيب نشر هذه الماده التي استطاعت فيها زيزي تزوير عدد كبير من اقتباسات الكتاب والسخرية من الشرف ،
كان عيسى يذهب إلى أي عمل "شريف"،
"أن عيسى الذي حصل على ليسانس الحقوق بمساعدة أخيه"
وبذلك قلبت معلومات وردت واضحة بالكتاب ان الشقيق الاصغر هو الذي تكفل بمساعدة اهله ومساعدة اخيه الذي اسكنه معه في غرفه مستأجره في دمشق وتكفل بمساعد ته .
.يدل ذلك ان زيزي لم تقرأ الكتاب وجاءتها المقاله جاهزه لترسلها لكم
غباءا منها أو جهات دفعتها لذلك
واذا افترضنا انها قرأت الكتاب فعدم فهمها ال لا محدود جعلها تنساق وراء تأويلات اغرقتها في مستنقع الثقافة التي تربت عليها ثقافة التهم والتوقيع على الاعترافات المنزوعه بالقوة والتعذيب
وهذه بالتأكيد مسؤولية الناشر موقع (رصيف 22) الذي عودنا على مهنية مشهودة
Kinan Ali -
منذ يومجميل جدا... كمية التفاصيل مرعبة...
Mazen Marraj -
منذ يومينإبدااااع?شرح دقيق وحلول لكل المشاكل الزوجية?ياريت لو الكل يفكر بنفس الطريقة..
بالتوفيق ان شاء الله في حياتكما الزوجية ?
Nawar Almaghout -
منذ يومينرداً على ما ورد من الصحفية زيزي شوشة في موقعكم
الذي أوقع محمد الماغوط وشقيقه عيسى بين براثن الآنسة زيزي وأشباهها
يبدو أن الصحفية ثقافتها لم تسمح لها بالغوص أعمق، و يدل عن بعدها كل البعد عن فهم ما يجري. وهي بسلوكها هذا، على أقل تقدير، تمثل المستنقع الفكري الضحل الذي تعيش فيه
رابط ردي في موقع العربي القديم
https://alarabialqadeem.com/mohmaghbor