شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
أول فكرة عن الله، أول حلم، أول دمية... شبح الماضي الذي يلاحقني

أول فكرة عن الله، أول حلم، أول دمية... شبح الماضي الذي يلاحقني

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والتنوّع

الاثنين 31 يوليو 202310:56 ص

الماضي شبح يلاحقنا، تتداعى الأشياء من حولنا ونحن رهينة لأحداثه، كطرفي معادلة تنتج حلاً، والحل هو هيئتنا الحالية: منا من يريد إنكاره وعدم الاعتراف فيه دون أن يدري أنه يتغلغل في لاوعيه، ومنا من يحنّ إليه، ومنا من يحارب نفسه والعالم ليثبت أن الماضي مازال حاضراً ويجب التشبّث فيه، وأن لا مهرب من استمراريته.

أبي والماضي

أبي رجل بدأ عقده السادس، تقاعد من عمله كموظف منذ ما يقرب السنة، كثيراً ما ألاحظ أنه ما زال عالقاً في زمن الستينيات، ويريد أن يسيّر كل تفصيل في هذه الحياة المعولمة وفق ذاك الزمن، سواء في طريقة تعاطيه مع من حوله أو من خلال النظر إلى شتى الأمور الحياتية.

أمضى أبي معظم سنين حياته في أرض زراعية تمتلكها عائلته بجانب القرية، تدعى "الطراق"، ويتوضع فيها بيت من تراب كان قد تطوّر لاحقاً وتعدّل بناؤه ليصبح حجرياً. سكن أبي الغرفة منذ أن كان في العاشرة، أمضى سنواته الدراسية فيها و اهتم بالأراضي من حولها حتى باتت منزله الرسمي بدلاً من منزل العائلة المتوضع في القرية، أراد أبي سحبي وإخوتي إلى ماضيه باصطحابنا معه في كل زيارة، فكُنا في طفولتنا زواراً شبه دائمين إلى "الطراق"، وبعد مدة انتقلنا للسكن في المدينة، حينها قام أبي بنقل ماضيه إلى شقتنا السكنية، وأنشأ على الشرفة "طراق صغيراً" بنتاج يوازي نتاج الطراق الكبير من زراعات، ولم نعد نرافقه في زياراته المتكرّرة  إلى "الطراق" بسبب الدراسة والعمل واختلاف الاهتمامات، ما جعلنا بنظره أبناء "بلا أصل" كوننا لا نضع الطراق في خانة الأولويات.

كيف أزيل من ذاكرتي تلك الأحداث التي صنعتني: أول فكرة عن الله، أول حلم، أول دمية اقتنيتها، أول "لا" قلتها، أول وآخر دمعة ذرفتها، أول يوم مدرسي،  أول وآخر "كف" كان من نصيبي، أول أغنية حرّرتني من خوفي، أول شعور بالوحدة، أول شعور بالحب

لم أمزق أوراقي

توقفت منذ مدة عن الجلسات العلاجية مع معالجتي النفسية في محافظتي دون إكمال العلاج بسبب الدراسة في محافظة ثانية من جهة، وسوء الوضع المادي من جهة أخرى ، اتبعت معي المعالجة تقنية السرد والتعرّض، والتي من خلالها أسرد أحداث حياتي وصدماتها، وهي تكتب ما أقول في أوراقها، وتجعلني أتذكر ما كنت أشعر وأفكر به لحظة الصدمة، وما أفكر وأشعر به الآن، وبعد الانتهاء يجب أن أقوم بتمزيق الأوراق كي أثبت نجاحها في جعلي أتحرّر من تلك الأحداث.

كنت أعاني من كثرة الأحداث وضيق وقت الجلسة الذي لا يتعدّى نصف الساعة، ما جعلني أضطر في بعض الأحيان لإجراء ثلاث جلسات متتالية كي أستطيع اللحاق بسرد قصة حياتي قبل موعد سفري للدراسة، وهذا ما كلفني ضغطاً مادياً ونفسياً مضاعفاً، بما أنني لست مستقلة مادياً عن العائلة.

كنت في كل يوم سبت، أعارك الحر والازدحام والوقت وندرة المواصلات في كراج منطقتي كي أستطيع اللحاق بموعد الجلسات الثلاث في مركز المدينة، ومع هذا كله لم أنجح في إنهاء العلاج، ولم أمزق أية ورقة من أوراق قصة حياتي، وما زلت، حتى اللحظة، رهينة أحداث الماضي التي صنعت "حنين" التي أنا عليها الآن. أوهم نفسي بين الحين والآخر أنني تحرّرت منها، لأجدها مترسخة في لاوعيي، تحاربني بكل ما امتلكته من وسائل.

كيف أهرب منه

لم أستوعب في البداية: كيف لي أن أزيل من ذاكرتي تلك الأحداث التي صنعتني، كيف أستطيع الهروب من ماضٍ يلاحقني كاسمي، ذاك الماضي الذي صنعني، وباستمراره ما يزال يصنعني حتى الآن، في مكان يعتبر التغيير فيه جريمة؟

أول فكرة عن الله، أول حلم، أول دمية اقتنيتها، أول "لا" قلتها، أول وآخر دمعة ذرفتها، أول يوم مدرسي،  أول وآخر "كف" كان من نصيبي، أول أغنية حرّرتني من خوفي، أول شعور بالوحدة، أول شعور بالحب، أول الأصدقاء وآخرهم، أول زميلة تتنمّر علي، أول انطباع عن عائلتي، أول عيد ميلاد، أول اعتذار بلا ذنب، أول قرار بعدم الاعتذار، أول نجاح، أول مسرحية أبصرت النور، أول عراك مع صديقة، آخر أيامي مع العائلة، أول شعور بالاختناق، العراك الدائم مع التناقض، أول قرص دوائي مضاد للاكتئاب، أول مرة أقرّر فيها عدم التغيب عن المدرسة رغم كرهي لها، أول يوم في السكن الجامعي، لحظة تغيير فرعي الجامعي، لحظة قبولي في الفرع الذي أحب، اشتياقي المستمرّ لبحر طرطوس، أول زيارة لأرض أبي بعد السفر، أول عودة للشعور إلي، أول مصارحة لي مع من أخطأ بحقي، أول قرار بالابتعاد، البحث المستمر عن منزل حقيقي.

التقبّل لا يعني نسيان الموقف وتجاهل حدوثه؛ التأقلم والتقبّل هو معرفة الأثر وإدراك مشاعرنا والمضي في الحياة كتجربة مكتسبة وليس كعيب، وهذا ما جعلني أعطي فرصة كي أستطيع تقبّل كل الأحداث الماضية تدريجياً

كل شعور بالأمل يثنيني عن الانتحار، كل سيناريو صنعته في مخيلتي عن حياتي المستقبلية، كل حوار أجدت تأليفه رغم أنه لم ولن يقال، كل شخصية ابتدعتها ولم توجد في الواقع...كل هذه التفاصيل محفورة بذاكرتي حتى اللحظة وكأنها حدثت للتو، وحتى لو مزقتها أو تعرّضت لها جيداً، لا أدري إن كنت سأستطيع التصالح معها، إذ إنّ تلك التفاصيل هي التي صنعت شخصيتي الحالية، بكل عيوبها وميزاتها، هي نتيجة لتلك السمات و الأحداث والظروف والشخصيات المحيطة بي، مع وجود استعداد نفسي "حساسية عالية" للتأثر بتلك الأحداث.

هل نتحرّر لننسى أم لنتقبّل؟

بعد سفري، حاولت البحث عن معالجة نفسية في مكان دراستي ووجدت، وكانت تلك المعالجة خير عون لي، وحاولت أن تنبهني على فكرة وجهة النظر، والتي من خلالها يؤثر الحدث علينا، فعندما ندرك أن موقفاً معيناً لم يكن بقصد سيئ من المحيط، إنما سوء تقدير أو اختلاف رأي، عندها سيكون أثر الموقف علينا خفيفاً أو مختلفاً، وأننا يجب أن نناقش الموقف بكل جوانبه لنستطيع تخفيف رد الفعل أو الموقف ضده، وجعلتني أسأل نفسي: هل هذا الحدث ذهب مع الماضي وبقي ذكرى، أم أنني ما زلت أتأثر به كلما وقعت في موقف له نفس الأثر؟

عندها سيختلف تعاملنا معه، فنحن نتعامل مع ألم متكرّر للموقف وليس ذكرى وذهبت. لا يمكن أن أكذب وأقول إن الحدث لم يحدث أو لا يوجد أي أثر له، يجب أن نكون واضحين مع أنفسنا، فإذا كنا ما زلنا نتأثر فنحن نتعامل مع أثر ما زال، بينما لو كانت ذكرى  يجب أن ندرك أن الذكرى لا تموت ولكن تخفّ وأثرها يخف مع الزمن.

وضحت لي تلك المعالجة أن التقبّل لا يعني نسيان الموقف وتجاهل حدوثه؛ التأقلم والتقبّل هو معرفة الأثر وإدراك مشاعرنا والمضي في الحياة كتجربة مكتسبة وليس كعيب، وهذا ما جعلني أعطي فرصة كي أستطيع تقبّل كل الأحداث الماضية تدريجياً، وأنا اليوم، وبعد مدة، بدأت أنظر بشكل مختلف كلياً عن الأحداث التي سبق وكنت أنظر لها بطريقة مغايرة قبل العلاج، يبدو أنني... بدأت أتحرّر تدريجياً منها، فهي لم تعد تكبّلني كما في السابق.

من الشائع أن تُراود الإنسان أفكار انتحارية، وليس هناك ما يدعو للشعور بالخزي؛ فأنت لست وحدك. إذا كانت تراودك أفكار انتحارية، فلا تكتمها في نفسك، لأنك لربما تحتاج إلى شخص ثقة تتحدث معه. وقد يكون شخصاً تعرفه أو شخصاً يعمل لدى الخط الهاتفي المخصّص للدعم النفسي في محيطك/ بلدك. تحدث معه/ا، لا تخف من الوصم.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

منبر الشجعان والشجاعات

تكثُر التابوهات التي حُيِّدت جانباً في عالمنا العربي، ومُنعنا طويلاً من تناولها. هذا الواقع هو الذي جعل أصوات كثرٍ منّا، تتهاوى على حافّة اليأس.

هنا تأتي مهمّة رصيف22، التّي نحملها في قلوبنا ونأخذها على عاتقنا، وهي التشكيك في المفاهيم المتهالكة، وإبراز التناقضات التي تكمن في صلبها، ومشاركة تجارب الشجعان والشجاعات، وتخبّطاتهم/ نّ، ورحلة سعيهم/ نّ إلى تغيير النمط السائد والفاسد أحياناً.

علّنا نجعل الملايين يرون عوالمهم/ نّ ونضالاتهم/ نّ وحيواتهم/ نّ، تنبض في صميم أعمالنا، ويشعرون بأنّنا منبرٌ لصوتهم/ نّ المسموع، برغم أنف الذين يحاولون قمعه.

Website by WhiteBeard