"سأنبت شجرة ورد على طريقك"، هكذا أنشدت فتاة خلال أحد الأعراس في ريف الستينيات من القرن الماضي، وهي تنظر بطرف عين خفي إلى حبيبها الذي عاشت معه كل مراحل العشق، فقط من خلال ألعاب العيون والإيماءات القصيرة، وأشاح الشاب بوجهه مكابراً، فأطلقت الشابة سهماً أخيراً واثقاً: "وأنت أيها القاسي، أي خراب ينتظر قلبك!".
الفتاة كانت صديقة لوالدتي عندها وقد جُنَّت بالنهاية. لماذا تجن النساء في كل قصص أمي؟ مكتوب. وفي المكان الذي جاءت منه يداوون الآلام الكبيرة بالأهازيج؛ تصدح حنجرتها بالأشعار التي تعلمتُ أمازيغية الريف من خلالها تقريباً، وفيما بعد أصبحت تنتقي لي مقاطع تناسب حالتي، كلما عدت لها بانكسار عاطفي جديد، غير أن هذه الـ "سأنبت شجرة" ظلّت المفضلة عندي وذلك لسببين، أوّلهما هو افتتاني بفكرة التحول.
كيف يتحول الناس والأشياء؟ إن هذا يحدث تدريجياً، تغيير بسيط كل يوم، كلمة تفتح في الروح باباً، نظرة تُطفئ شمعة في الداخل؛ ثم فجأة يأتي التحوّل الكبير، ونقول جميعاً حينها بأننا لا نفهم ما قد حدث. في "ميتامورفوس" كافكا، كان البطل قد بدأ يصبح حشرة منذ زمن بعيد فعلاً، لقد عامله الجميع على أنه كذلك وكان عليه هو أن يصدق. هل كان مُلزماً بذلك؟ هل كان من الممكن أن يصمد أكثر؟ إلى أي حد يمكن للإنسان أن يكون بطلاً أصلاً؟
"سأنبت شجرة ورد على طريقك"، هكذا أنشدت فتاة، وهي تنظر إلى حبيبها الذي عاشت معه كل مراحل العشق، فقط من خلال ألعاب العيون والإيماءات القصيرة، وأشاح الشاب بوجهه مكابراً، فأطلقت الشابة سهماً أخيراً واثقاً: "وأنت أيها القاسي، أي خراب ينتظر قلبك!"... مجاز
ولكن لنعد إلى المرأة التي تقول الأهازيج، تقف في منتصف الساحة الترابية مع صديقاتها، ويحملن دفوفهن ليغنين في أحد الأعراس. إنها فترة الستينيات وما بعدها بقليل، ولا يزال بإمكان الشابات أن يحتفين بالمناسبات على هذا النحو، لأن "لاءات" الحرام والحلال والتشدّد الديني ستتسلّل إلى المجتمع فيما بعد، أما في حينها فقد كانت تكفيهن" لاءات" التقاليد، وبفضلها طبعاً يتمّ التحكم بمصائرهن كما يحدث مع النساء في بلدان كثيرة، ولكل ذلك فقد كُن يتفنّن بتأليف الأغاني والأشعار.
هل كانت هذه الكلمات أداة للرفض؟ حينما سافرت للعيش بالريف منذ سنوات، بدأت أُجَمع مقاطع أخرى من الجارات المسنات رغم أن الشابات يعرفن بعضها أيضاً. إنها كالمقارنة بين أغاني الزمن الجميل أو أي أغنية أخرى. دندنت جارتي الخمسينية بهذا المقطع خلال ليلة ماطرة: "ّحدث لي معك ما يحدث لطائر سقط في فخ/ لا يستطيع أن يحلق، ويعلم أن البقاء فيه هلاكه".
الشاعرية مرض تقريباً
إن هذا حب عاصف يملك على الإنسان قلبه ولا يمكن تقريباً أن نلوم أحداً على استسلامه، فقد كنت عندها عصفوراً مذعوراً في فخّ، أنا نفسي، ولكن الاستسلام ليس عن هذا فقط. يقول بيت آخر: "اسكت لماذا تبكي، دع البكاء لي".
يَرِدُ هذا في قصيدة وداع طويلة وجّهتها عروس ليلة عرسها إلى حبيبها الذي ستتزوج غيره. أبيات مؤثرة فيها الكثير من الارتجال والتجاوب مع حركات الشاب الذي كان ضمن جمهورها مع بقية الحاضرين، وطوال الوقت نفهم أنها ليست مسؤولة عن أي شيء، وأنها فقط من يحقّ لها البكاء، أما الرجل فيصنع قدره. إنها ضحية كاملة، غرّر بها الحب ذات مرة فصارت طائراً في فخّ، وألزمها والدها بالزواج من رجل آخر، فانقادت دون أن تنفك عن النحيب. يقول البيت الختامي: "اسكت، لماذا تبكي وتخرب منديلك، انظر إلى حظي وكيف قد طوّح بي".
الحظ والقدر والأب القاسي والحب أيضاً. إنني أحب الأهازيج بدوري وقد استمتعت بها طوال الوقت حتى قبل أن أستقرّ بمنطقة الريف، وفي فترة ما توحّدت مع قائلات الكلمات اللواتي لا أعرفهن، غير أنني وجدتها مربكة غالباً ولم أتقبّل أياً منها عند إعمال العقل والقلب. أعني هذه الجزئية بالضبط: لقد كانت النساء يدافعن دائماً عن التقاليد التي يبكين بسببها في الأهازيج، وبدا لي هذا نفاقاً، فقد كنت صغيرة جداً عندها، وكان من السهل أن أشتعل، وأن أجد بعدها من تقول لي، مع ابتسامة، بأنني سأكبر وأفهم، ولكن السنوات مرّت وبدا أن ذلك لا يحدث.
قلت لنفسي وأنا أراقب زهور شجرتي بفخر حين حلّ الربيع: إنني أحمي شجرة تلك المرأة التي جُنّت، لأن الأشجار أصلاً أكبر من الاستسلام أو الصراخ أو الحب... مجاز
لقد قلت إن السبب الأول لحبي لمقطع الشجرة ذاك هو التحوّل، وها هو تحوّل آخر: التغير الذي يطرأ على الناس حين يكبرون، ليس تجاعيد الوجه ولكن أطياف النظرة وحركات اليدين وقسوة التحديق، تلك الأمور التي نلاحظها حين نتأمّل صورنا ونفهم أننا قد كبرنا، وفقدنا الملامح الجميلة لوجه إنسان يحلم. غير أن هذا ليس حديثاً عن اليأس، ولنتذكّر أن الفتاة كانت تريد أن تتحوّل إلى شجرة، شيء له جذور وسط هذا العالم العائم، شيء ثابت وسط الحب الذي لا يدوم.
هذا ما نسعى إليه جميعاً حين نلتفت إلى المكان الذي جئنا منه، إذ لا يكفينا أن نوجد فقط، إننا نطرح الأسئلة أيضاً، وقد طرحت نصيبي منها بدوري، وعرفت أشياء عن معنى أن تكون أمازيغياً، وأحسست بالاختلاف لأنني في مدينة تطوان، حيث ولدت، لم أكن أتحدث العربية في المنزل كبقية صديقاتي في المدرسة، وفي الأعياد كانت لنا تقاليدنا الخاصة، وحكاياتنا وشرائط الموسيقى الريفية. أما حين سافرت إلى الريف، فقد تعلّقت بأشجار اللوز، وكانت مزهرة عند وصولي فوقعت في حبها على الفور، ثم توحّدت مع واحدة منها تحديداً، لأنها كانت ملاصقة لقسمي الدراسي، وقلت لنفسي إنها شجرتي، شجرة الأهازيج الحزينة.
إن الشاعرية مرض تقريباً، وقد فهمتُ أن الفتاة كانت تسعى طوال الوقت إلى الثبات، إذ ربما ولدت شاعرة، مع كل ما يتطلّبه ذلك من ضياع ونوبات حنين ووجع غير مرئي ولا مفهوم؛ إنني أخجل مثلاً حين أتذكّر الغضب الذي اعتراني حين سمعت بعد سنوات بقرار قطع "شجرتي".
انفعلت كثيراً وقلت لمديري إنني لن أسمح بذلك مهما كلّف الأمر. كان الأمر يتعلق بأعمال توسيع المدرسة النائية حيث أعمل، ولكن ما شأن الشجرة؟ قلت له إنها أكثر أهمية منا جميعاً ولم أتعرّف على صوتي الذي بدا لي غريباً وحماسياً؛ إذ كنت أحسب أنني قد كبرت بما يكفي، وصار من المستحيل عادة أن أحشر نفسي في أي نقاش أو أن تهزّني القضايا الكبيرة، حتى إن صوت الشابة البالغة بداخلي قد همس لي: لماذا تتدخّلين؟ غير أنني أحسست بألم عضوي كلما تخيّلت أنهم يقطعونها، ولم أكن قادرة على تحمّل ذلك.
إن هذا عموما تحوّل آخر لا داعي لشرحه، وقد قلت لنفسي وأنا أراقب زهور شجرتي بفخر حين حل الربيع: إنني أحمي شجرة تلك المرأة التي جُنّت، لأن الأشجار أصلاً أكبر من الاستسلام أو الصراخ أو الحب.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 22 ساعةمتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع