"أريد لفم النهر العذب أن يبتسم لي قبل أن يبتلع ذاكرتي
وأقول له، كن عميقاً بما يكفي كي أغوص فلا أبين".
كنت أصغر مما أنا عليه الآن بخمسة عشر عاماً، وكلما تذكّرت هذه الحادثة فيما بعد، أفكّر كيف يمكن للكاذب أن يُطلِق كذبته الأولى. وأحاول استذكار صورته حينها في المرآة وهو يقول: "إن جرّبت الكذب يمكن لك أن تقول إنك جربت كل الموبقات"، كل أفعال الشر المعقولة والدارجة في الذهن الإنساني الحديث، على الأقل. فقط، أطلِق كذبتك الأولى، الأولى فقط، وجرّب انفراط الخيط.
الصورة المنعكسة والمنفلتة مع إضاءة باهتة لشاب في كامل صحّته، يطفر الدم من أسفل عينيه الخضراوين، تنعكس من مرآة نحاسية مصقولة بحرفة في مواجهة كرسي وصندوق لأدوات زينة. قال جملته عن الكذب وهو يفكر في طريقة للخروج من ورطة مواجهة أبيه عن تبديد كل ماله في زمن قصير؛ الكذب خوفاً من المواجهة، كانت هذه حجّته، وبرّر لها، خوفاً على مرض أبيه. الكذب خوفاً من أشياء عدة مترابطة وتنفرط مع بعضها إن انكشف الصدق وتبدت الأخبار الحقيقية تباعاً على أذن أبيه.
أرصد في بعض الأوقات، ذكريات تركض ورائي ببندقية آلية، أحاول جاهداً الهروب منها؛ لأمنع تدفّق شلال آلام تنزف من وريد الحكايات، أخاف حدّ الرهبة من مطاردتها لما يمكن أن أعنونه بالمستقبل، إن أمكن هذا الوصف، لما أعيشه كل دقيقة في الحاضر المستمر.
صندوق الذكريات فارغ لليوم، أيضاً، هكذا سرت العادة، أن أفرغ صندوق الذكريات؛ عادة كيلا يأتي اليوم الذي أفتح فيه الصندوق، فأتذكّر مشهداً كتبته على عجالة، أو صورة مع تعليق، أو حالة مارست تفاصيلها مع آخر.
أفرّغه بشكل مستمرّ ومتكرّر، بعد فترة يكون الصندوق خالياً؛ إذ لا أجد تنبيها بأن حالة ما مرّت بنفس اليوم. قليل، قليل جداً، قد أترك بعض الأغنيات المناسبة للذائقة، أو مقطعاً كتبته بروية كي أنتشي لدقة ما أكتب.
منذ سنتين أمارس هذه العادة بأريحية قاتل منعدم الأخلاق، لا يشفع له تاريخ أو إنسانية الذكرى، وأراقب انهيار الذكريات وأنا أكشطها بهدوء كل فترة من الصندوق، مستمتعاً بفراغ الصفحة البيضاء من تفاعل الأصدقاء الافتراضيين، وخلوّها من كل اتهام باطل بتبعية أو ارتباط، هكذا وبكل بساطة يمكن للقاتل أن ينهي حياة ضحيته.
أدوّن عن الكره، الفشل، التهميش، الهزيمة، الارتكان، الصداقات القذرة، الأخوّة الزائفة، عن الانهيار والرجاء، عن الحياة، كل الحياة، عن سبعين شجرة صفصاف مرّت ولم أنتبه، أدوّن كلمة واحدة على الأرجح... مجاز
*****
في الحقيقة، وبكل صدق (يمكن أن يخدع السارد قارئه بهذه الجمل المفتاحية)، هناك كثير من الذكريات المؤلمة مرّت، بالطبع؛ إذ قد اصطلحنا عليها باعتبارها ذكرى؛ فقد مرّت وتركت شجها العميق بالروح (لا إنكار أن ذلك حدث لكل منا بالطبع) كعلامة دالة على إيلامها، أما تلك السعيدة، المبهجة، والرائعة، أو لأقلْ على الأقل أنها كانت سعيدة، ويمكن أن تكون السعادة البهجة والروعة، حالة أو صفة، وربما تكون مجرد خبر صغير متوار خلف مبتدأ مستوحش سميناه الذكرى، تلك المضادة للذكريات المؤلمة يخزنها بالروح لفترات طويلة؛ ليقتات عليها في ساعات المحنة، كعلامة دالة على بعض المنح الإلهية (لا يمكن أن أشير هنا إلى أنها حدثت لكل منا بالطبع).
كل هذه الذكريات عندما تمكنت من شطبها بعد محاولات طويلة ومرنة مكثفة، وجدتها مختبئة هناك، في قاع قديم طفح دفعة واحدة، عندما نغزه طبيب أمراض نفسية محترف، كاحتراف قاتل أراد وخطط ونجح في قتل فريسته.
*****
افحص ذاكرتك بتمعّن شديد، اختر الخلايا المعطوبة، لا تحاول علاجها أبداً؛ فقط انظر إليها بشفقة، واتركها تهوى في الحيّز الذي تحب أن تأخذ فيه راحتها الأبدية، ويمكن أن تبكي لدقيقة عليها؛ لقد ماتت منذ زمن ولم تدفن، فافعلها الآن. افعلها بأريحية المار على جنازة قط لم يره أبداً. بعدها، أعِد الفحص بدقة أكبر، فبعض الخلايا المسرطنة تتخفّى وقت الهجوم عليها بمواد كيميائية تحجّم انتشارها. العب معها لعبة الغمّيضة، تجنبها وفاجئها ممسكاً بها، لا تأخذك بها شفقة، اعدمها على الفور، سريعاً، قبل أن تبثّ مرضها في أماكن أخرى، الذاكرة هي أساس كل أمراضك، لا تحاول أبداً تشويشها، بل افحصها كل حين، واستبعد العطب، وحاول أن تُبقي على لحظات سعيدة في خلاياك حتى وإن أصابها المرض؛ علّها تقف، وحدها، في مواجهة اختلال الذاكرة بعد حين، حينما تكون الذاكرة قد فرغت للأبد.
*****
كنت أحلم أني أحلم أن حلماً مرّ عليَّ وتذكّرتُه وأنا جالس في راحة البيت قرب صفصافة جَدّي الطاعنة، البيت الذي من طين وجص (طين لازب مضاف إليه تبن؛ غلاف الأرز بعد حصاده، وجير حي). كنت جالساً ببلاهة طفل في حضرة ثلاث نساء قويات، أمي، أختها وأمها.
كرؤية رأيتها صغيراً ورأيتها كما لو أني أحلم بحلم فيه إوزة بيضاء، ذات عنق طويل، طويل بزيادة عن المعتاد، يتطاول العنق في تناسق، بيضاء، شاحبة، تميل ريشاتها للاصفرار.
حلمت أن الإوزة؛ التي كان بياضها في خلفية الحلم (الخلفية السوداء للاوعي الكائن) تضحك بين جنب جدتي وذراعها الممتلئة، وتصيح باسمي قبل أن أصحوَ على لون دم يغطي الشرشف الأخضر، وأتذكر أني كنت رأيت الحلم رؤى العين من قبل، وظل ذاكرة دفينة لعملية ذبح طائري الأبهى؛ الإوز.
أود لو أدوّن عن الحياة المتوقفة في مواجهة هذا الصباح المتأخر، عن كل ساعة عشتها بين الجدران، عن سبعين شجرة صفصاف مرّت بجانبي، عن طائر ينزرع في أطرافها وبين الفروع الهشة، عن يوميات المقاهي في كل المدن والقرى والنجوع، الدقّ على أبواب أوصدت في وجه الغريب، عن شجرة صغيرة رواها ماء العتاب، أُطل عليها مساء كل ليلة من شرفة منزلية قديمة، البيت، الأحبة، أصدقاء المراهقة، التسكّع بين جدران المدينة الصغيرة، عن فزع يسكن المخيلة، عن موت قريب، عن ولادة لا تكتمل، عن أبناء ذهبوا فرادى إلى حتفهم، عن أبناء آخرين ذهبوا جماعات دون أن أدري.
افحصْ ذاكرتك بتمعّن شديد، اخترْ الخلايا المعطوبة، لا تحاول علاجها أبداً؛ فقط انظرْ إليها بشفقة، واتركها تهوى في الحيّز الذي تحب أن تأخذ فيه راحتها الأبدية، ويمكن أن تبكي لدقيقة عليها... مجاز
أدون عن الكره، الفشل، التهميش، الهزيمة، الارتكان، الصداقات القذرة، الأخوة الزائفة، عن الانهيار والرجاء، عن الحياة، كل الحياة، عن سبعين شجرة صفصاف مرّت ولم أنتبه، أدون كلمة واحدة على الأرجح؛ أحبُّ كفرخ يمام يتيم ينتظر ضمة راعيته، ولألتقط صورة طبيعية لشجرة صفصاف، تلك المقطوعة من جانب على بحيرة الطريق، الطريق الممتد من القلب حتى آخر جرف في الذاكرة.
(بالبداية، سأستخرج كل طاقات الإبداع لتصغير كتلة الشجرة، ليمكن وضعها على حامل، قبل إعدادها لدخول إطار الكاميرا، بعدها، يمكن استخدام التقنيات المناسبة لظهورها بالإضاءة المتوقعة، كأن أسلط عليها الضوء بشكل مباشر من أعلى، فتظهر مع ظلها الممتدّ أمامها، وتفشل الصورة المنشودة.
مع التجريب مرّة بعد مرّة، أجد أن أنسب زاوية لالتقاط صورة لصفصافة مصورة موضوعة على حامل دون ظهور ظلها في الصورة، أن أضع مصدر الإضاءة المصطنع في زاوية سفلية بالمواجهة مع الحامل، ويكون مصدر الضوء معزولاً بشاش؛ كي يمنع انطلاق الضوء بشكل حاد ناحية المجسم المجهز لالتقاط الصورة، يبقى بعض التقنيات الملهمة لتناسب الصورة، كأن أذيب بعض الألوان لطلاء جزء من الأفرع الظاهرة في الصورة جهة اليسار بالأحمر، وأن أزيّن أسفل الشجرة بطلاء أخضر دالٍّ على صدق الصورة، ولإيهام عين الناظر إليها بعدم اقتلاع الشجرة من بيئتها، وتصغيرها كمجسّم تم إعداده لالتقاط صورة معبرة عن مشهد متخيل في رأس مريض؛ لتظهر في الإطار الفوتوغرافي المنشود، حينها فقط، يمكن تصوير المشهد واللعب بتقنيات الفلترة ليبدو غبش السماء، وخيال رجال ونساء مارين بجانبها، ويمكن أن يقتنع الناظر لها، أنها صورة حقيقية، طبيعية، غير مفتعلة، لم يصطنع المصور فيها كل هذه التقنيات).
عن سبعين صفصافة غادرت الطريق المنحنية في متاهة الوصول إلى الناحية الثانية، سبعون صفصافة طرية، مشتهاة، قديمة وأصيلة، توارت وأدون عنها علها تبقى، علها تنزرع كصورة متخيلة في الشريط السينمائي الخاص بذاكرتي، علها تنضج ذات نهار فتطرح في قلبي أوراقاً طرية تظلل على روحي، سبعون صفصافة مرّت بجانبي فجأة دون أن أدري، غادرتها ولما تزل عالقة بالصورة القديمة عن البيت الميت، تحديداً عن الطريق الملتوية إلى البيت الميت.
*****
كلما كتبت عن المشاعر المتضاربة أثناء الضباب، الليل، العربة المسرعة حد انهيار محركها، عن شجر صفصاف متطاوح على جانبي ترعة قديمة في أدغال دلتا النيل. عن شجرة خرجت من الصف فجأة فاصطدمت بها سيارة تقلّ ثلاثة، مات اثنان في الأثناء، وبقى واحد يندب حظه صباح مساء. عن حفيف الورق والغصون في لحظة الاصطدام. عن الطريق اللازب. عن قمر غاب في الليلة نفسها. عن الدماء تغطي صدري. عن لحظة الإفاقة وصورة الشجرة تتقارب من المخيلة. كلما كتبت عن كل هذه التفاصيل. يخرج ما أكتبه أشبه بمشهد لمسرح فانتازي، بلغة ركيكة وتنهمر بين كل حرف وحرف دموع حارة ويتصبّب العرق؛ فأعود للصمت عن سرد حكاية مرت في لحظة غياب.
وفي الأصل، ومنذ قرون قديمة، كنتُ شجرة صفصاف وفيرة الفروع، نَمَت داخل دغل منزو بغابة استوائية مطيرة، تتقافز فوقي القرود والببغاوات بكل رشاقة واستهانة. عندما اقتلعني الخشّاب، اجتثّ كل الجذور وترك أوراقي تتبعثر مع هواء الجنوب الحار منجرفة نحو الشمال. بعدها احترقت الغابة، أشعل فيها جنود الله المارقون أعواد الثقاب. أحرقوا منزلي، بعدما باعني الخشّاب لتاجر في ميناء، وفي الشمال، في أعالي الشمال، في أعالي الشمال الباردة، في أعالي الشمال الباردة الحزينة، صنع خطاط حرفيّ (يكتب بماء الذهب) من أوراقي علبة مستطيلة، ثمينة (كتب عليها: جاءت أوراقها من البلاد البعيدة) لتحفظ أداوت تزيين امرأة جميلة، وعندما وصلت باخرة الأخشاب لميناء المدينة التي في أعالي الشمال الباردة الحزينة، استلمت خشب شجرتي يد ماهرة خبيرة، فصنعت مني تختاً متسعاً وكرسيّاً للزينة. وهكذا، ومن حينها أصبحت تتقافز فوقي، بكل رشاقة واستهانة، أجساد لينة كثيرة، كرحلة أخيرة نحو الخلود.
سبعون صفصافة طرية، مشتهاة، قديمة وأصيلة، توارت وأدون عنها علها تبقى، علها تنزرع كصورة متخيلة في الشريط السينمائي الخاص بذاكرتي، علها تنضج ذات نهار فتطرح في قلبي أوراقاً طرية تظلل على روحي... مجاز
وقتما كنت فراشة، كان لهيب الحرائق يجذبني، لأدور في فلك نوره، يجذبني به بريق الضوء الملتاع وحركة موجات الهواء الساخن من حوله، وكلما اقتربت نالتني هبّة ريح ساخن ببعض الاسترخاء، فأحوم بالقرب من اللهب أكثر؛ أحترق، لكن سرعان ما تنمو أجنحتي، مرة أخرى، ومرّة بعد مرّة، اعتدت على الظلام وأحببته أكثر من هذا التماوج الجذّاب لضوء اللهب ودفء الهواء حوله.
ومنذ المرة الأخيرة التي صعدت فيها فوق أعلى اللهيب، واحترق القلب كاملاً، لم أعاود الظهور وتبدّلت هيئتي من فراشة إلى نحلة تعشق الظلال.
وفي اليوم الذي تبدلت هيئتي إلى نحلة، انتخبني جمع غفير من شغيلة الخلية لأتوّج ملكة عليهن. كانت أجنحتي صغيرة، صغيرة إلى الحد الذي لا يسمح بتتويجي، لكن وبمجرّد التتويج تطاولت عروق الجناحين وامتدت على نحو ملفت لتشمل جميع الشغيلة في الخلية، وتعاظمت بطني، وكأني قد خُلقت من قبل على هذا الشكل، ولما استتب النظام وبدأ العسل في التجمّع داخل ألواح الشمع، تفاجأنا بحريق ضخم يلتهم الخلية وشجرة الصفصاف التي كنا نحتلها.
على أطراف الحديقة؛ تناثر الشغيلة، كل تطير في اتجاه، ومع مرور الثواني الأولى للحريق، الحريق الذي فاجأنا في منتصف نهار تتويجي ملكة فأحرق كل شجر الحديقة، أحسست كأني أعود لهيئتي القديمة، الهيئة الهشّة، الضعيفة؛ انكمشت أجنحتي وتقلصت بطني تماماً، وكأني أعود مرة ثانية إلى هيئة الفراشة المرتخية حول نار تتوهّج ويدفعني الهواء الساخن نحو بؤرة اللهب، نحو حتفي، نحو النهاية المتوقعة، المأساوية والحزينة لكل الفراشات.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmad Tanany -
منذ يومينتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 4 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ 6 أيامأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه