في الساعة الخامسة والنصف صباحاً، قررت ركوب السكوتر أو ما تسمى بالفرنسية (التروتينيت) لألحق بصلاة الفجر في المنزل بعد أن خرجت من بيت صديقتي التي كانت قد أعدت السَحور لنا حتى لا نشعر بالغربة في رمضان الذي نعيشه بعيداً عن عائلاتنا.
"آه دم!" وجدت نفسي مرماة على الرصيف والألم يضرب كل مفصل في جسدي، حادثٌ ليس على البال ولا على الخاطر، أول فكرة خطرت على بالي أنني لم أحمل معي بطاقة التأمين الصحي، وكما هو معروف في أوروبا، لا يمكنك الحصول على العلاج بدون تأمينك الصحي وإلّا فستدفع التكلفة كاملة من حسابك الشخصي، وإن كنت محظوظاً، فسوف يقومون بردها لك لاحقاً.
وجدت نفسي مرماة على الرصيف والألم يضرب كل مفصل في جسدي، حادثٌ ليس على البال ولا على الخاطر، أول فكرة خطرت على بالي أنني لم أحمل معي بطاقة التأمين الصحي
"لا تقلقي يا آنسة سوف تأتي سيارة الإسعاف". وجدني أحدُ المارّة مغطاة بالدم واتصل بسيارة الإسعاف ليخبرهم عن مكاني، "لا داعي! أنا جيدة..."
قلت له، وقد تحركت الخصلة العربية في داخلي التي ترفض الذهاب إلى المشفى أو الطبيب ظناً مني إنني سأكون بخير ولستُ بحاجة لتكاليف باهظة لعلاجي.
أتت سيارة الإسعاف وحملتني إلى المشفى وأنا واعية تماماً وأحضّر نفسي برغم انشغالي بالألم لكي أرد على جواب: "أين هو تأمينك الصحيّ؟". أجبت عن كل الأسئلة التي يجب أن أعرفها، عنوان منزلي، رقم هاتفي، مواليدي، كيف حصل الحادث… إلى آخره من أسئلة عامة.
دخلنا قسم الطوارئ، الأسئلة نفسها، مواليدي، هل أعاني من أمراض خطيرة، عنواني، هل أعرفُ أين أنا؟
متى سيسألونني عن تأميني؟ وماذا سيفعلون بعدها؟ هل سيرمونني خارج المشفى؟ بعد خمس ساعات على إسعافي وفحصي وتشخيص وضعي، أعطيت إذن الخروج من المشفى.
يا جماعة ألا تريدون نقوداً؟ هل أنتم متأكدون؟ هل سترهنون هويّتي؟
عندما خرجت، برغم الحادث الذي تعرّضت له كان شعوري بكوني "إنساناً" حقيقياً وقويّاً لدرجة لا توصف، أنا لدّي حقوق، لم أمت على باب المشفى، لم أضطر للذهاب للجمعيات وتجميع المبلغ اللازم لتغطية كلفة إسعافي والعمليات التي سأحتاجها، لم يتبرع لي أحد.
فهمت أن لدي حقوقاً كإنسان هنا، لم أمت على باب المشفى، لم أضطر للذهاب للجمعيات وتجميع المبلغ اللازم لتغطية كلفة إسعافي والعمليات التي سأحتاجها، لم يتبرع لي أحد.
بحسب منظمة الصحة العالمية، يوصف النظام الصحي في فرنسا على أنه من أقوى القطاعات مقارنة مع الدول المجاورة والعالم، يموله التأمين الصحي الوطني الحكومي بشكلٍ أساسي، وبالنسبة للاجئين والعاطلين عن العمل (الشوماج)، هنالك ورقة تغطي تكاليف العلاج الصحي كاملاً تدعى CMU وبالاضافة لل Carte Vital حتى فيما يتعلق بتكاليف الأدوية في الصيدليات فإنها مشمولة التغطية، بالإضافة لقدرة المستفيد من الذهاب لطبيب الأسنان والحصول على العلاج الكامل دونما التجميلي بدون دفع تكاليف إضافية. على سبيل المثال، أعرف العديد من السوريين الناجين من الاعتقال والذين عانوا من المضاعفات الصحيّة المتعددة أهمها تكسّر أسنانهم وقد انتظروا السفر إلى فرنسا والذهاب لطبيب الأسنان للحصول على العلاج هناك.
يوازي التأمين الصحّي بين المواطن الفرنسي واللاجئ وأي فرد على الأراضي الفرنسية، حيث يمكن للجميع الحصول على الرعاية الصحيّة بشكلٍ متساوٍ دون تفرقة أو عنصرية، ويمكن تجديد هذا التأمين سنوياً، ويمكن أيضاً للشخص الذي اضطر لدخول المشفى خارج الحدود الفرنسية من الاستفادة من التعويض لاحقاً.
في لبنان، عشت سبع سنوات وعملت في مجال الصحافة مراسلة تلفزيونية وشاركت بحملات التطوع، وكان أغلب عملي هو تأمين وتجميع المال الكافي لعمليات مستعصية يعاني منها السوريون، نقلتُ أخباراً عن أطفال ماتوا على أبواب المشافي لأنهم لا يملكون المال الكافي، ونساءٍ أنجبنَ على مداخل الإسعاف، وهذا لا يقتصر على السوريين والسوريات فحسب، بل يشمل أغلب فئات المجتمع. على سبيل المثال، اضطرت والدتي التي تحملُ الجنسيّة اللبنانية لدخول المشفى لإجراء عملية المرارة، التي كانت تكلّف ألف دولار تقريباً، بالمقابل، دفعتُ أنا يورو ونصف للصيدلية بعد عمليتين في يدي اليمنى لأن لاصق الجرح لا يغطيه التأمين.
يعمل العديد من الأطباء السوريين والفلسطينيين فيما يسمى السوق السوداء لمزاولة المهنة، بعد أن فرضت الدولة قيوداً على عدم قبول اللاجئين في قطاعات كالصحة والطبابة، فيذهب اللاجئ السوري في لبنان، الذي لا يملك تكلفة الطبيب المرخّص إلى عيادات السوق السوداء في المخيّمات وأزقّة تجمّع اللاجئين متحملّاً مسؤولية علاجه على يد طبيب لا يخضع للقانون ولا للمسائلة.
وفي سوريا، كانت المشافي الحكومية والخاصة، مكاناً مناسباً لاصطياد جرحى المظاهرات منذ بداية الاحتجاجات في عام 2011 والتي جعلها النظام السوري مرتعاً للقتلى وتجارة الأعضاء البشرية.
لكن هل الحال بالفعل جيد في فرنسا؟
تفتك البيروقراطية يفرنسا، وتجعل منها بلداً بطئياً، حتى ليتوق أحدنا للواسطة والرشوة من أجل إتمام معاملاته بسرعة.
يستغرق استخراج التأمين الصحي ثلاثة أشهر على الأقل بعد تقديم اللجوء والبصمة في فرنسا، قبلها، لا يمكنك الحصول على حق الطبابة، وفي بعض الأحيان، لا يتم استخراج بطاقة التأمين الصحي بالسرعة الكافية، وهنالك بعض الأطباء ممن يرفضون ورقة التأمين الصحي CMU ويقبلون حصراً كرت فيتال ( Carte Vital) مما يجعل وصول المريض للعناية الصحيّة المناسبة أمراً صعباً.
على الجانب الآخر، في لبنان، عانى أحمد وهو طفل سوري في الرابعة من العمر من مرض في القلب وتم تشخيص حالته في لبنان، عندها اتصل مكتب الأمم المتحدة وأخبر عائلة أحمد بأن لديهم فرصة للذهاب إلى فرنسا، لم تتردد عائلة أحمد بانتهاز الفرصة والسفر إلى بلد يثقون بإن ابنهم سيحصل على حقه في الحصول على الرعاية الصحيّة الكافية.
"لقد اضطررت لرهن منزلنا في سوريا لتأمين مبلغ يستطيع إدخال ابني للمشفى". يخبرني والد أحمد قصة تحمله مشقة الدَين قبيل وصوله إلى فرنسا، وبعد وصولهم، عانوا كعائلة من صعوبة الوصول للخدمة الطبيّة بعدما عرقلت إحدى الجمعيات التي تتكفل باستقبال اللاجئين الوافدين وصولهم للطبابة، لإدعائهم أنهم بحاجة للانتظار للحصول على التأمين، حيث لا يستطيع اللاجئ في بداية الأمر فهم سير المعاملات الورقية فور وصوله ويحتاج مساعدة من مترجم أو جهات معنية باللاجئين، فالطفل اللاجئ دون سن 18 يستطيع الحصول على التأمين الصحي دونما انتظار. حتى اضطروا بنهاية الأمر للذهاب للطوارئ في أحد المشافي في مدينة "روان Rouen" لمعرفة أنهم لا يحتاجون حقاً للتأمين الصحّي لدخول المشفى عند حالة الطوارئ.
وفي سياق آخر، لم يسمح الوضع الصحيّ لسيدة فرنسية بعمر 65 في مدينة بوردو في عام 2015 عندما طُلب منها الصيام عن الطعام بانتظار العملية التي تم تأجيلها لعدة أيام حتى استسلم جسدُ هذه السيدة للموت.
تعاني المشافي في فرنسا من نقص في الكوادر الطبية ونقص في الأجور، الأمر الذي لا يمكننا نحن الذين عشنا في بلادٍ لا تملكُ أيّة مقوماتٍ للصحة الجسدية أن نلاحظه.
"لقد اضطررت لرهن منزلنا في سوريا لتأمين مبلغ يستطيع إدخال ابني للمشفى". يقول والد أحمد، الذي اضطر للسفر لعلاج ابنه في فرنسا
أمّا بالنسبة لي، وبعد خروجي من المشفى الحكومي، أرسلني الطبيب لمشفى خاص بكسور اليد للاستفسار عن العلاج المناسب ليدي بعد الحادث، وكان المشفى المقصود مشفىً خاصاً لا يسمح للمريض بالدخول بدون كرت فيتال أو التأمين الصحي، التأمين الذي لم أحمله معي في وقت الحادث، وبعد معاناة للوصول للعنوان الصحيح، أعلمتني موظفة الاستقبال أنني بحاجة لجلب ورقة التأمين الصحي، فأخبرتها أن يدي مكسورة ويبدو على شكلي علامات الخروج من حادث مؤلم، لكنها لم تستسلم وأجبرتني على العودة للمنزل لإحضار بطاقة التأمين الصحي والعودة مجدداً لرؤية الطبيب المختص. الأمر الذي جعلني مذهولة وغير مدركة حقيقةً لعواقب هذا الفعل الذي قد سيكلفني تحريك يدي بطريقة خاطئة وجعل الأمر أكثر سوءاً.
الحصول على الرعاية الصحية هو حقُّ شامل ويجنّب الفرد القلق الدائم على من يحب، بالإضافة لحفظ كرامته الإنسانية بعدم لجوءه لطرق غير سليمة للتلقي الطبابة، واحترام سلامته وسلامة أفراد عائلته.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع