يزخر اليمن السعيد كما كان يطلق عليه سابقاً بإرث ثقافي وتاريخي متنوع، يتمثل بمئات المواقع الأثرية والمدن التاريخية والجزر والمحميات الطبيعية، والتي صنفت عالمياً من التراث الطبيعي ذي الجمال النادر، كجزيرة سقطرى ومدينة صنعاء القديمة ومدينة شبام بمحافظة حضرموت شرقاً ومدينة زبيد بمحافظة الحديدة الساحلية.
جميع هذه المدن والمواقع الأثرية تحكي قصصاً لحضارات يمنية قديمة عاصرت الكثير من دول الشرق والغرب، لكنها اليوم باتت عرضة للكثير من الأخطار المناخية التي تعصف بها وتهدد وجودها.
المواقع الأثرية في اليمن عرضة للأخطار المناخية التي تعصف بها وتهدد وجودها.
فعلى سبيل المثال، تعد مدينة شبام حضرموت واحدة من أبرز المدن التاريخية، إذ تشتهر بناطحات السحاب المبنية بالطين، حتى أطلق عليها مصطلح "مانهاتن الصحراء"، وضمتها منظمة اليونسكو إلى قائمة التراث العالمي منذ عام 1982، وكذلك إلى قائمة التراث المعرض للخطر عام 2015.
وبحسب حديث للمهندس عبد الله السقاف، وهو ضابط مشاريع الموروث في الصندوق الاجتماعي للتنمية، فرع المكلا، فإن المدينة تتمتع بعمارة طينية متميزة مع أبنيتها البرجية العالية التي يصل بعضها إلى تسع أدوار، مع استمرارية الأنشطة الحضرية فيها دون انقطاع من مئات السنين، ما جعل منها حالة فريدة عالمياً.
ولفت السقاف إلى تضرر عدد كبير من هذه المباني الأثرية بفعل المنخفضات الجوية المتكررة خلال السنوات الأخيرة، مع ازدياد في نسبة هطول الأمطار بشكل غزير وبفترات متقاربة، مما أثر بشكل مباشر على هذه المباني الطينية المتهالكة بفعل السنين. كما أن توقف أعمال الترميم فيها من العام 2009 تسبب بانهيار وتدمير بعض هذه المباني الجميلة وتهالك سورها الطيني.
ويعتبر اليمن من أكثر الدول المعرضة لخطر الكوارث المناخية، مع مفاقمة الجفاف والتصحر وغيرها من الظواهر المناخية لمعاناة ملايين السكان في البلاد من تبعات الحرب المستمرة منذ سنوات.
أعاصير وفيضانات وجفاف
للمخاطر البيئية والمناخية التي تؤثر على المناطق التراثية أوجه متعددة بحسب الدكتور عبد القادر الخراز، وهو أستاذ مشارك في تقييم الأثر البيئي بجامعة الحديدة واستشاري دولي. ويوضح لرصيف22 أن من أبرز التغييرات المناخية العالمية ارتفاع درجات الحرارة وذوبان الجليد، مع زيادة نسبة الأمطار في مناطق وندرتها في مناطق أخرى مما يعرضها للجفاف، بالإضافة إلى الفيضانات والأعاصير وارتفاع أو انخفاض مستوى سطح البحار والمحيطات.
ويضيف: "نحن في اليمن نعتبر من أكثر الدول عرضة للتغيرات المناخية، مثل الأعاصير والفيضانات وزيادة كميات الامطار والجفاف في المناطق الساحلية، ويلعب التنوع الطبوغرافي دوراً في تنوع الظواهر المناخية لدينا، على سبيل المثال تزيد نسبة هطول الأمطار في المناطق الجبلية والوديان الداخلية مع ندرتها في المناطق الصحراوية والساحلية، لكن هذه المناطق تتأثر بجريان السيول التي تأتي من المناطق الجبلية، وبالتالي تحدث في المناطق الصحراوية والساحلية تأثيرات مختلفة تضاف إلى الجفاف التي تتعرض له بفعل ندرة هطول الأمطار".
تضرر عدد كبير من المباني الأثرية في مدينة شبام بفعل المنخفضات الجوية المتكررة خلال السنوات الأخيرة، مع ازدياد في نسبة هطول الأمطار بشكل غزير وبفترات متقاربة، مما أثر بشكل مباشر على هذه المباني الطينية المتهالكة بفعل السنين
ويتابع الخراز: "لدينا أيضاً ارتفاع في مستوى سطح البحر، وهناك أعاصير ضربت جزيرة سقطرى بين العامين 2015 و2018 كان لها تأثير قوي على البيئة فيها، بالإضافة إلى الفيضانات التي اجتاحت محافظتي حضرموت ومأرب، والتي أضرت بكثير من مساكن المواطنين والنازحين في المخيمات".
ويشير إلى تأثر العديد من المواقع الأثرية والطبيعية بشكل مباشر بفعل التغيرات المناخية والظواهر المتطرفة، ويطرح مثالاً حول جزيرة سقطرى المصنفة عالمياً ضمن مواقع التراث العالمي والتي فقدت الكثير من التنوع الموجود فيها، مثل شجرة دم الأخوين والتي تضررت بفعل ضرب الأعاصير للكثير منها، كما تأثرت الشعب المرجانية والمواقع الأثرية في المدن والسواحل البحرية جراء ارتفاع وانخفاض مستوى سطح البحر.
إهمال حكومي ودعم "غائب"
يرافق هذه التغيرات وفق الخراز إهمال حكومي واضح رغم رصد مبالغ كبيرة في إطار اتفاقية التغيير المناخي عبر صناديق دولية مختصة، منها صندوق المناخ الأخضر وصندوق التكيف ومرفق البيئة العالمي، وهي مخصصة لمساعدة الدول المتضررة بفعل التغييرات المناخية، ودعم قدرة أهلها على المقاومة والتكيف، والحفاظ على الموروث التاريخي والأثري فيها.
ويشير الخراز إلى أن التأثير القوي للتغيرات المناخية يعود إلى فشل الحكومة والهيئات المعنية بمعالجة هذه الأضرار والتنبؤ لها والعمل على التخفيف من آثارها، وذلك نتيجة عدم قيامها بدورها واستغلال الموارد المخصصة لهذا المجال بشكل جيد، ويضيف: "إلى الآن لا يوجد أثر ملموس على الأرض أو يلمسه السكان يساهم في التخفيف من بعض الآثار، وما حدث ويحدث في جزيرة سقطرى خير شاهد على العبث الحكومي المتواصل رغم التمويلات الضخمة التي حصلت عليها من المنظمات الدولية".
التأثير القوي للتغيرات المناخية يعود إلى فشل الحكومة بمعالجة هذه الأضرار والتنبؤ لها والتخفيف من آثارها.
ونوه بوجود تمويلات كبيرة عبر منظمة اليونسكو ومنظمات دولية أخرى لمواجهة أضرار تغير المناخ، وإصلاح وترميم المواقع والمدن التاريخية والأثرية، يقابله فساد مالي وإداري مع غياب تام للرقابة الحكومية: "لا نعرف كيف تصرف هذه التمويلات المقدرة بالملايين من الدولارات، ما يجعلنا نضع الكثير من علامات الاستفهام حول هذا الملف".
ومن خلال عمله كرئيس سابق لهيئة حماية البيئة، يطرح أمثلة حول مبالغ مالية ضخمة خصصت لدعم إعداد دراسة للاستعداد للتغير المناخ، ودعم تكاليف التقرير الوطني الرابع لتغير المناخ، ومشروع الحفاظ على البيئة والتكيف مع التغير المناخي، لكنه يشير إلى عدم تنفيذ العديد من هذه المشاريع بالكفاءة المطلوبة، إلى جانب وجود مستويات عالية من الفساد دون رقيب أو حسيب سواء من الجهات الحكومية أو منظمات المجتمع المدني.
ويشدد الخراز على أهمية الضغط على الحكومة والجهات ذات الاختصاص، من خلال التحرك الجاد وكشف بؤر الفساد، مع العمل على إحلال الكوادر المؤهلة ذات الكفاءة العالية والمشهود لها بالنزاهة لإدارة مثل هذه الملفات والتمويلات، مما يمكن أن يساهم من التخفيف من أضرار تغير المناخ، والتي قد يؤدي إذ استمر العبث الحكومي فيها إلى تدمير حضارات موجودة من آلاف السنين.
منظمات المجتمع المدني: دور بسيط واحتياج معرفي كبير
نظرا لأهمية امتلاك المعرفة الكافية حول كيفية التعامل مع التغيرات المناخية من قبل منظمات المجتمع المدني، يقول مدير مكتب هيئة الآثار والمدن التاريخية حسن عيديد لرصيف22: "تعمل حالياً بعض المنظمات المهتمة بهذا المجال على عقد لقاءات مع الجهات ذات العلاقة والمختصة بمجال التراث والآثار، ولكن هذه اللقاءات تفتقر إلى التعريف بالتغير المناخي وكيفية التعامل معه، وما هي الأدوار المطلوبة من هذه الجهات للتعامل مع هذه الظاهرة، وكيفية الحد من تأثيرها على الحالة الاقتصادية والاجتماعية للمجتمعات المحلية في المدن التراثية".
ويشير إلى أن الدور الذي تقوم به هذه الجهات لا يزال ضعيفاً وبتدخلات محدودة لا ترتقي إلى مستوى الحدث، في حين تحتاج إلى تكثيف اللقاءات والمشاورات وعمل ورشات تعريفية بمثل هذه الظواهر الطبيعية وكيفية التعامل معها، والتكيف وطرح الحلول المبتكرة وفق آليات محددة لحماية هذه المواقع الأثرية من الاندثار.
في نفس السياق يتحدث رئيس مؤسسة "عدن أجين" مازن الشريف لرصيف22 حول الدور الهام الذي يقوم به المجتمع المدني للحد من تأثير كثير من المشاكل والتغيرات المناخية التي يواجهها اليمن اليوم، من خلال عمليات إنقاذ المواقع الأثرية والتاريخية، والتي ساعدت بصورة أساسية في حماية العديد من المواقع على مستوى البلاد.
ويبيّن الشريف الدور الذي قامت به مؤسسة "عدن أجين" المعنية بالأنشطة الثقافية والتراثية، من خلال توثيق المنازل ذات الطابع العدني والتي تعد من أهم وأعرق المنازل الأثرية القديمة، بالإضافة إلى رصد الأضرار وما تواجهه هذه المنازل من مخاطر، مع تدريب فرق متخصصة بترميم عدد من واجهات المنازل القديمة.
تعمل حالياً بعض المنظمات المهتمة بهذا المجال على عقد لقاءات مع الجهات ذات العلاقة والمختصة بمجال التراث والآثار، ولكن هذه اللقاءات تفتقر إلى التعريف بالتغير المناخي وكيفية التعامل معه، وما هي الأدوار المطلوبة من هذه الجهات للتعامل مع هذه الظاهرة
ويتابع: "منذ سنوات ونحن نعمل على التعريف بالطابع العدني وأهم مميزاته وعناصره ومواد بنائه، عن طريق البرامج والدورات التي نقيمها للمستفيدين من أنشطة المؤسسة، والرفع من درجة الوعي لديهم، إذ يتميز الطابع المعماري العدني بالعديد من المميزات والخصائص المستدامة كالتهوية الجيدة والتقليل من التعرض للشمس، وكذا طرد الهواء الحار عن طريق ما يسمى بالملاقف، بالإضافة إلى أن هذه المواد ملاءمة لطبيعة مناخ المدينة ومقاومة للحرارة".
ويختم بأن هذه الخصائص يمكن أن تساهم في وضع الحلول المستدامة لمشكلة التغيير المناخي في اليمن، وهي لو استخدمت حالياً لعملت على الحد والتقليل من الكثير من مشاكل الانحباس الحراري والانبعاثات الغازية الضارة.
تصوير: أمة الرحمن العفوري
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.