شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!
كانت الفاكهة بعيدة عنا، وكذلك الحُلم… ذكريات مواطن عربي مع ناظم حكمت في السجن

كانت الفاكهة بعيدة عنا، وكذلك الحُلم… ذكريات مواطن عربي مع ناظم حكمت في السجن

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

"في بورسعيد/صبي صغير اسمه 'منصور'/في العاشرة من عمره/ يمسح الأحذية/إنه نحيل، متسخ الوجه والملامح/كأنه نواة بلح/يُردّد دوماً أغنية واحدة: يا عيني... يا حبيبي/يا عيني... يا حبيبي/أحرقوا بورسعيد، قتلوا منصور الصغير/ شاهدت صورته في الصحيفة هذا الصباح/ ميتٌ صغير بين الأموات/ يا عيني... يا حبيبي". هذه القصيدة للشاعر التركي ناظم حكمت، أحد أكبر الأرواح الشعرية في القرن العشرين. أما "منصور" فهو صبيٌ صغير، قُتل في العدوان الثلاثي على مصر عام 1956.

خلد ناظم حكمت اسم هذا الصبي الصغير، حيث صار رمزاً للحرية مسفوكة الدماء، وللطفولة المقتولة بأيدي قوى الاستعمار الغاشم، الذي جثم على صدورنا سنوات طائلة. وفي ما بعد قام الشاعر فؤاد حداد بتمصير هذه القصيدة، حيث ترجمها إلى العامية المصرية، وفي رثائه لـحكمت، استدعى صلاح جاهين صورة "منصور" من جديد. يقول: "من سنة مش جيت ودورت هنا/ع الولد اللي في قصيدتك بورسعيد/قلبه كان تفاحة خضرا ومات شهيد/مش لقيته من جديد؟/ولقيت قلبه حديد؟/ولقيت شعرك على لسانه نشيد؟".

ثمة الكثير من الكتب التي تناولت حياة الشاعر في السجون، لكن أحداً لم يتطرق للفترة التي قضاها الشاعر في سجن بورصة في تركيا في الفترة من 1933-1938، وظلت هذه السنوات غائمة في مسيرة ناظم الحياتية

تدلنا هذه القصيدة على الجغرافيا الشاسعة في روح الشاعر التركي، الذي حفر اسمه بضراوة في جبين النضال الإنساني، وكذا على جدران السجون والزنازين الانفرادية التي قضى فيها سنوات طويلة من عمره، فناظم حكمت المولود لعائلة ثرية في سالونيك باليونان (كانت آنذاك إحدى ولايات الدولة العثمانية) في الخامس عشر من يناير/كانون الثاني عام 1902، اختار منذ خطواته الأولى في مشروعه الإبداعي والشعري- الذي بدأ مبكراً- الانحياز التام لقضايا المهمشين والمضطهدين في جميع بقاع العالم، منصرفاً عن الصراعات الهوياتيه، موجهاً قصائده كقذائف، ضد الإمبريالية، والاضطهاد والقمع، سواءً من الحكومات المحلية أو من قوى الاستعمار الخارجية. وكانت هذه القصائد، مؤرقة للسلطة الغاشمة، التي لم تجد رادعاً له سوى إلقائه في الزنزانة.

عاش ناظم حكمت نصف عمره في سجون تركيا؛ ففي عام 1938 حكم عليه بالسجن 28 عاماً، وتم الإفراج عنه بعد قضائه 13 عاماً من المدة المحددة، حيث رضخت السلطة لمطالب الحملة الشعبية، التي قادها بابلو نيرودا، وجان بول سارتر، وبيكاسو، واتحاد كتاب فرنسا، للإفراج عن الشاعر الكبير. وكان لهذه الحملة صدى واسع في الأوساط الثقافية العالمية. وأصبح ناظم حكمت اسماً حاراً وملتهباً في قلب النضال الإنساني؛ هو الذي تجسدت في روحه الهوية الإنسانية في أعلى تجلياتها، دون التنصل من جذوره أو هويته التركية التي كانت كالدماء في عروقه. وهكذا كان ناظم ابناً باراً للكفاح والنضال، وأخاً للإنسان في كل بقاع الأرض.

هذه الحياة الصاخبة التي عاشها ناظم حكمت، كانت ولا تزال مادة خصبة وثرية للكتاب والباحثين، الذين جمعوا ووثقوا التركة الأدبية الهائلة التي خلفها الشاعر، ومنهم من تصدى لها بالنقد والتحليل وتقديم الرؤية الفنية، وثمة الكثير من الكتب التي تناولت حياة الشاعر في السجون، لكن أحداً لم يتطرق للفترة التي قضاها الشاعر في سجن بورصة في تركيا في الفترة من 1933-1938، وظلت هذه السنوات غائمة في مسيرة ناظم الحياتية، إلى أن صدرت الوثيقة النادرة للشاعر والرسام والمترجم اللبناني علي فائق البرجاوي الذي زامل ناظم حكمت في سجن بورصة في هذه الفترة المنسية من حياة الشاعر التركي. صدرت الوثيقة عن دار ابن خلدون ببيروت عام 1980 في كتاب تُرجم عن الفرنسية بعنوان "مذكرات مواطن لبناني مع ناظم حكمت في سجنه".

وربما لم ينل هذا الكتاب اهتماماً من جانب المثقفين والمتتبعين لمسيرة حكمت، لأسباب خاصة بالكاتب نفسه، الذي لا يزال اسماً مجهولاً في الأوساط الثقافية العربية؛ فبرغم أن البرجاوي لم يتوقف عن الكتابة والترجمة والرسم، إلا أنه ظل بعيداً ومنزوياً في عزلته الاختيارية حتى وفاته في إحدى ضواحي باريس عام 2000. ومنذ عدة سنوات استقصى الشاعر والمترجم الفلسطيني سامر أبو هواش، أثر البرجاوي، وكتب عنه تقريراً مختصراً.

فعلي فائق البرجاوي- وفقاً لما ذكره سامر أبو هواش- وُلد ببرجا الشوف بلبنان في عام 1916، من أب لبناني هو القاضي توفيق البرجاوي، وأم تركية الأصل، هي السيدة فخرية ابنة الشيخ عمر لطفي، مفتي القدس في زمن العثمانيين. وعاش علي فائق متنقلاً بين بيروت وتركيا ونيويورك وفلسطين وفرنسا التي اختارها لتكون منفاه الأخير، وخلال حياته في باريس نمى موهبته في الرسم، وأقام معرضاً فنياً عن القضية الفلسطينية ومذبحة صبرا وشاتيلا.


كان البرجاوي يكتب باللغات الفرنسية والإنكليزية والتركية، ويترجم عن الألمانية. وفي بيروت نشر مجموعته الشعرية الأولى "لماذا" عام 1957، وفي حقبتي السبعينيات والثمانينيات أقام هناك عدداً من المعارض الفردية والجماعية. وبجوار الرسم والشعر، كان علي البرجاوي مترجماً مخضرماً، حيث ترجم لأنطون تشيخوف، ولجان جاك روسو ترجم "اعترافات"، إلى جانب كثير من الروايات والقصص العالمية. وله أيضاً كتابات بحثية مهمة حول التاريخ الإسلامي، مثل: "الاشتراكية في الإسلام"، و"تاريخ الصراعات الاجتماعية".

كان انتقال هذا الرجل المجهول إلى تركيا لدراسة الفلسفة بكلية الآداب، حدثاً فارقاً في حياته، ففي عام 1933، ألقي القبض على البرجاوي، بسبب نشاطه السياسي، وأودع في سجن بورصة في زنزانة انفرادية تحت الأرض، وكان آنذاك في الثامنة عشرة من عمره، شاباً حالماً بحرية الشعوب، متأهباً للقيام بدورٍ ضد الفاشية والنازية والاستعمار. وجد نفسه محكوماً عليه بالسجن لـ 5 سنوات، بعيداً عن وطنه.

في إحدى المرات وهو منقاد بالسلاسل الحديدية إلى رئيس السجن، لمح طيف ناظم حكمت، وعرفه -كما يقول- من قامته المديدة، وطلته التي لا تخفى على أحد، وروحه المرحة التي تنشر في الأجواء الحبَّ والتفاؤل. رجع الشاب الصغير إلى زنزانته وهو يحلم بلقاء الشاعر الثائر الذي كان يحفظ الكثير من قصائده ويراه أباً روحياً له.

تحقق حلم البرجاوي بعد ثلاثة أشهر قضاها كما يقول في الجحيم. وقبل ذلك، كان ناظم حكمت قد سلل رسالة صغيرة إليه من تحت قضبان زنزانته. يحكي البرجاوي: "فجأة لمحت ساقين تتنقلان في سرعة بالقرب من نافذتي، وشاهدت رزمة تسقط تحت القضبان السفلية. ترددت لحظة، ثم تناولت خطفاً الرزمة، وسحبتها إلي. كان فيها بعض الصحف والمجلات باللغة التركية، وثلاث نسخ من مجلة 'لو' القديمة، والعدد الأخير من صحيفة 'الأومانيتيه'. وحين تصفحت المجلات الفرنسية، وقعت في واحدة منها على عبارة مكتوبة بالفرنسية، وبخط اليد وفيها: 'تشجعْ أيها الأخ العزيز فائق، أفكارنا، وعاطفتنا معك'. وتمعنت ملياً في الخط، فإذا هو خط ناظم حكمت وانقشعت عني الغمة، حين وقعت على هذه العبارة، وفارقني الشعور بالوحدة واليأس، ليحلَّ مكانه إحساس بالأخوة التي تشد الأزرَ وتقوي العزيمة". وهكذا كانت رسالة ناظم إلى البرجاوي بمثابة الضوء وسط ظلام السجن.

بعد قضائه 3 أشهر في زنزانته الانفرادية، صدر قرار من إدارة السجن بنقل الشاب الصغير إلى الطابق الثالث، وهو الطابق الذي يقيم فيه ناظم برفقة أكثر من خمسين معتقل سياسي. وكان ذلك خبراً سعيداً بالنسبة إلى البرجاوي، رغم ما ينطوي عليه هذا القرار من سوء نية، لإثبات التهم المنسوبة إليه. كان استقبال ناظم لعلي فائق حافلاً، فأخذ يشدّ من أزره ويحتويه كأبٍ حنون. وبعد فترة قصيرة نشأت صداقة قوية بينهما. يحكي علي فائق أن ما كان يُميز ناظم هو روحه الكبيرة المحبة، وإنسانيته التي شملت الجميع حتى حراس السجن، فكان ناظم يقول: "هؤلاء ليس عليهم لوم. إنهم ينفذون الأوامر، لا يجب أن ننال من إنسانيتهم".

امتدت الصداقة بين البرجاوي وناظم في ما بعد إلى الجانب الفكري والأدبي، حيث كان ناظم يقترح على صديقه الشاب الصغير، ترجمةَ بعض القصص إلى التركية، ومن جانبه كان الشاعر يعرض على البرجاوي ما يكتبه من قصائد ومسرحيات، وما يرسمه من لوحات. يقول الكاتب: "كان ناظم حكمت، مشغولاً بأن يخرج من السجن بزاد أدبي كبير. ومن ثم كان يقضي وقته في كتابة القصائد. وكذلك إتمام فصول مسرحيته الشهيرة 'الإنسان المنسي'. وبجانب كتابة الشعر والمسرحيات، يرسم بورتريهات لأصدقائه المعتقلين.

وفي إحدى المرات جاء إلي ناظم بمجموعة من اللوحات المبهرة. وقد اندهشت من موهبته العظيمة في الرسم. وقلت له: لو كنت أمتلك موهبتك هذه، لتركت الأدب والشعر، وتفرغت للرسم. لكن ناظم يبدو أنه انزعج من هذا التعليق. وحين شعرت بذلك، رحتُ على الفور، أصحح له مقصدي. ولأنه إنسان كبير، لم يتركني في هذا الموقف المخجل، وراح يربت على كتفي، ويقول لي: لا عليك أيها الأخ الصغير فائق. إنني لا أرغب سوى في كتابة الشعر. فالشعر بالنسبة لي مصير".


لم تستطع جدران السجن أن تنال من الروح القوية لناظم حكمت، فكان يرى أن وجوده بين القضبان، ثمناً ضئيلاً يدفعه في سبيل حرية الشعوب المضطهدة، ويؤمن إيماناً خالصاً بأن هذا هو دوره الذي خُلق من أجله. ومن ثم عاش ناظم تفاصيل حياتيه اليوميه في السجن دون أن يتزمر أو يغضب، كما أنه كان يشعر بمسؤولية كبيرة تجاه رفاقه المعتقلين.

يحكي علي البرجاوي في كتابه صغير الحجم أن ناظم كان يوزع المهام بين رفاقه، كلّ واحد حسب الدور الذي يُمكنه القيام به؛ فكان البرجاوي يقوم بتدريس اللغات الفرنسية والتركية والإنكليزية للمساجين، أما ناظم حكمت مع ثلاثة من رفاقه كانوا يقومون بإعطاء محاضرات في المادية التاريخية والجدلية، وفي تاريخ تحرر تركيا، وتاريخ الحركات العمالية والنقابية. وثمة وقت للعب كرة القدم أو الكرة الطائرة التي كان يُفضلها الشاعر. أما الطعام فكان صنفين: عدس أو فاصوليا، والفاكهة كانت بعيدة المنال، وكذلك اللحم.

وكانت الأمسيات مخصصة لإلقاء قصائد ناظم حكمت وكبار شعراء العالم، وكذلك ترديد الأناشيد الثورية التي تبث الحماسة في قلوبهم. ويورد علي فائق في كتابه صوراً شتى تُبرز سخاء ناظم حكمت وكرمه المفرط، حيث كان يوزع ما يأتيه من هدايا على أصدقائه بالتساوي، حتى الملابس التي كانت تأتي بها زوجته بيرايه. وكذلك كان يُنفق على رفاقه من عوائد مبيعات كتبه، رافضاً أن يشاركه في ذلك أحد.

وثمة أمسية يحكي عنها البرجاوي بشيء من الأسى، حيث انفرد به حكمت في إحدى الليالي، مسترسلاً في الحكي عن ذكرياته في موسكو أثناء دراسته في "جامعة الشعوب الشرقية": "لم تسنح لي فرصة التعرف إلى لينين، ولكنني كُلّفت في إحدى الليالي بمهمة تثير الأسى، ألا وهي حراسة ضريحه، وهي ليلة لا تُنسى. فقد كان الحزن واللوعة يغمران البلاد بكاملها، حتى أنك تكاد تسمع نحيب الناس المكتوم، المكبوت، في جميع أرجاء الاتحاد السوفيتي".

لم تستطع جدران السجن أن تنال من الروح القوية لناظم حكمت، فكان يرى أن وجوده بين القضبان، ثمناً ضئيلاً يدفعه في سبيل حرية الشعوب المضطهدة، ويؤمن إيماناً خالصاً بأن هذا هو دوره الذي خُلق من أجله

امتدت الصداقة بين علي البرجاوي وناظم حكمت حتى بعد خروجهما من السجن، حيث عاش البرجاوي فترة من حياته في منزل ناظم في إسطنبول، وقد وفر له الشاعر عملاً في بعض الصحف بجانب دراسته. واستمرت هذه الصداقة بينهما حتى جاء عام 1938 ليُفرّق بين الصديقين للأبد؛ حيث أُلقي القبض على ناظم حكمت بتهمة الشيوعية، لينال حريته بعد 13 عاماً قضاها بين القضبان.

وخلال سنوات ناظم في السجن يقول البرجاوي إنه ظل يذكره في جميع رسائله التي كان يُرسلها إلى زوجته بيرايه، حتى أنه طلب منها ألا تسمح لأحد بزيارته من الأصدقاء سوى "الأخ الأصغر علي فائق". وهنا يقول الكاتب: "ناظم تعرض لخيانات كثيرة من أصدقائه الذين وثق فيهم، ووقف بجانبهم بكل ما يملك، حتى أنهم قد سرقوا منه عوائد مبيعات كتابه 'ضد النازية' الذي تولى ناظم نشره، وعهد إلى الأصدقاء بتوزيعه، لكنهم رأوا أنه من الأفضل ألا يرسلوا عوائد المبيعات إلى صديقهم الوفي".

وفي عام 1951 هرب حكمت إلى موسكو، وعاش بها حتى توفي في صقيعها عام 1963 أثناء تفقده لصندوق بريده أمام منزله. هذا الخبر الصاعق الحزين قرأه البرجاوي وهو يتصفح الجرائد اليومية في منزله الصغير في إحدى ضواحي باريس، التي شهدت موته هو الآخر وحيداً في منفاه، ومجهولاً في وطنه.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

ذرّ الرماد في عيون الحقيقة

ليس نبأً جديداً أنّ معظم الأخبار التي تصلنا من كلّ حدبٍ وصوبٍ في عالمنا العربي، تشوبها نفحةٌ مُسيّسة، هدفها أن تعمينا عن الحقيقة المُجرّدة من المصالح. وهذا لأنّ مختلف وكالات الأنباء في منطقتنا، هي الذراع الأقوى في تضليلنا نحن الشعوب المنكوبة، ومصادرة إرادتنا وقرارنا في التغيير.

Website by WhiteBeard