التاريخ لا يكتبه المنتصرون، إنما يكتبه في كثير من الأحيان "وهم التاريخ"؛ الوهم الذي يزيّف الحقيقة، لكن ذاكرة التاريخ لا يمكن مسحها بجرّة قلم، فهناك من يحيي الذكريات ويوقف الأكاذيب والزيف. وعلى مدار سنوات طوال، كان الأدب حاملاً لهذا الإحياء، كاشفاً عن سوادٍ صيّرته الأنظمة بياضاً.
لم يخلُ الأدب المغربي من رصد المعاناة المجتمعية والإنسانية التي عايشها المغاربة، خصوصاً خلال فترة حكم الملك الراحل الحسن الثاني، التي شهدت العديد من الصراعات. بيد أنه إبان فترة حكم الملك محمد السادس، ظهر -ولو بشكل نسبي- مجال أرحب لحرية التعبير، ما فتح المجال أمام إنتاج أدبي تعرفه الساحة الأدبية المغربية للمرة الأولى: أدب السُّجون، الذي ارتبط بشكل أساسي بسياقات معيّنة؛ المحاولتين الانقلابيتين ضد الملك الحسن الثاني، والصراع المحتدم مع اليساريين آنذاك.
أماط عدد من الروائيين في سيرهم الذاتية اللثام عن واقع سجني مظلم، تبددت فيه كل صور الإنسانية، وحلَّ التعذيب والقتل العمد عقاباً أمثل للزجر.
في هذا المقال نرصد بعضاً من السير الذاتية المغربية التي تحكي عن تجربة الاعتقال في السجون المغربية.
"السجينة"... أن نُحاكَم بخطأ غيرنا
لا يتم ذكر لقب "أوفقير"، إلا وتستحضر في أذهان المغاربة فترتان رماديتان؛ فترة توليه منصبَي وزير الداخلية والمدير العام للأمن الوطني، وفترة المحاولة الانقلابية (1972) على العرش، وإن كانتا فترتين تحملان تناقضاً صارخاً بين تعذيبه المعارضين والسياسيين باسم السّلطة، ومحاولته الانقلاب على السّلطة نفسها.
ذاكرة التاريخ لا يمكن مسحها بجرّة قلم، فهناك من يحيي الذكريات ويوقف الأكاذيب والزيف. وعلى مدار سنوات طوال، كان الأدب حاملاً لهذا الإحياء، كاشفاً عن سوادٍ صيّرته الأنظمة بياضاً
لكن تخيّلوا أن تذوق ويلات السجون نتيجة "خطأ" غيرنا! من "شارع الأميرات" إلى "عشرين عاماً في السجن"؛ بهذين العنوانين قسّمت مليكة أوفقير سيرتها الذاتية "La prisonniere". التقسيم ليس اعتباطياً، بل وضعُ القارئ أمام صورة الانحدار، ما هو إلا صيرورة لتحولات عاشتها الساردة؛ حياة القصور وما تشكّله من ترف ورِفعة وحظوة، ثم السقوط واللا شيء، وهو نفس ما تعبّر عنه الكاتبة، مثل قولها: "ما أقسى هذا التغيير، وما أشد وطأته، بين ليلة وضحاها، ننتقل من العز والجاه، إلى الفقر والبؤس، هذا التحول صدمني وأفجعني".
"السجينة"، سيرة ذاتية لمليكة أوفقير، وهي الابنة البكر للجنرال محمد أوفقير. تقع السيرة في 312 صفحةً، تشمل حياة الكتابة منذ الطفولة، وتكشف فيها أيضاً، إلى جانب سنوات السجن والاضطهاد، معطيات جريئةً حول الحياة داخل القصر الملكي، وتقاليد المخزن، من دون أن ننسى السياق العام لما قبل الانقلاب العسكري، وهي معطيات تكشف أسباباً عديدةً لفكرة الانقلاب، لذلك يمكن عدُّها أيضاً مرجعاً تاريخياً.
لم يأتِ اختيار "السجينة" عنواناً للسيرة سوى تعبير من مليكة أوفقير عن انتقالها في حياتها من سجن إلى آخر، بدايةً من سجن القصر والتبنّي والخضوع لصرامة تقاليد المخزن، إلى سجن الهروب من الواقع والمجتمع بعد الفرار من السجن الحقيقي. لا يختلف سوى المكان، أما معنى السجن وسلب الحرية فهما ما عرفته مليكة منذ نعومة أظافرها.
في الخامس والعشرين من كانون الأول/ديسمبر 1972، بعد أربعة أشهر من الانقلاب، تبدأ رحلة العذاب الجسدي والنفسي لأسرة تتكون من تسعة أفراد، أصغرهم عبد اللطيف الذي لم يتجاوز السنتين.
رحلة العذاب لم يكن وراءها إلا إذلال عائلة أوفقير. ذاك ما قيل لهم مراراً؛ أن يحسوا بالندم على الانتماء إلى هذه الشجرة وهذا النسب.
أماط عدد من الروائيين في سيرهم الذاتية اللثام عن واقع سجني مظلم، تبددت فيه كل صور الإنسانية، وحلَّ التعذيب والقتل العمد عقاباً أمثل للزجر.
بدايةً بآسا، وانتهاءً بسجن الأشغال الشاقة في بير جديد (مدينة مغربية تقع على بعد 45 كيلومتراً جنوب الدار البيضاء)، عشرون سنةً خارج الزمن، تعرضت فيها العائلة لكل أصناف المعاملات اللا إنسانية. لم يُثنِ ذلك العائلة عن الاستمرارية. هناك ظهرت جلياً لُحمة العائلة والانسجام. في فترات السّقوط، تظهر شعلة أمل عند أحدهم، فتضيء العائلة كاملةً.
أما الوضع الصحي فتصفه الساردة: "أكثر من عشرين مرةً تعرّض كل واحد منا للإصابة بأمراض خطيرة كادت تطيح به، إلا أنه كان يخرج منها سليماً معافى... كانت بعض الأمراض خطيرةً مثل: الحمى، الالتهابات، الإسهال، والفيروسات التي لا نعرف لها اسماً...".
في الـ19 من نيسان/أبريل 1987، بدأت رحلة الهروب الكبير؛ هربت مليكة برفقة أختها واثنين من إخوتها، بعد تخطيط مسبق ومحكم ودقيق. عبد اللطيف الذي دخل السجن وهو في عمر السنتين، ها هوذا يكتشف الواقع الخارجي لأول مرة مشدوهاً، بعدما بلغت قضيتهم الصحافة العالمية.
سنة 1991، هاجرت العائلة إلى فرنسا بعد مماطلة كبيرة من النظام المغربي. هناك رأت العائلة النور من جديد بعد عشرين سنةً من التعذيب بشتى ألوانه وصنوفه.
"السجينة" ليست سيرةً ذاتيةً وحسب، بل هي تأريخ لفترة من فترات المغرب إبان سنوات الجمر والرصاص، فترة لجم الأفواه، وتكميم الحقائق.
صلاح الوديع... "العريس"
صلاح الوديع، من أبرز الوجوه المعارضة في سبعينيات القرن الماضي، انخرط في حركة 23 آذار/مارس (حركة ماركسية لينينة)، وأدى ضريبة النضال وحوكم سنة 1977 باثنين وعشرين سنةً سجناً، ليُطلَق سراحه سنة 1984.
لم يكن صلاح الوديع سوى غصن من شجرة مناضلة. رضع النضال من ثدي أم مناضلة (ثُريا السقاط)، ومن أب خبر دروب الاعتقال لفترات متفرقة، وأسهم في الحركة الوطنية بشكل فعّال (محمد الوديع الآسفي).
في الحي المحمدي في مدينة الدار البيضاء، ترتفع بناية شاهقة، قبوُها شهد صنوفاً من التعذيب والاستنطاق. هناك شهدت الجدران حمامات من الدماء والجثث، ومن هناك خرج البعض بعاهات نفسية وجسدية دائمة.
"دربُ مولاي الشريف"؛ حين يسوقكَ النظام نحو المقصلة.
في ذاك القبو تدور أغلب أحداث الرواية التي اختار لها صلاح الوديع، بطلاً اسمه محمد -وليس محمد سوى صلاح نفسه- معتمداً كذلك على نمط من الكتابة مختلف، يتمثل في التراسل الأحادي (من طرف واحد)، وهي مجموعة رسائل يُرسلها الكاتب إلى أمه من دون ردّ.
على غير عادات كتابات أدب السجون، التي تتميز بوصف المعاناة والتعذيب، يمزج صلاح الطويل بين ذاك وبين التهكم والسّخرية، أي الكوميديا السوداء في الكتابة، بيد أنه لا يوظف ذلك إلا في سياق النقد اللاذع. ومن ضمن ذلك قوله مثلاً في الصفحة 34: "وها هو الكهرباء يحل في بدني قبل وصوله إلى البوادي، رغم أنني لم أطلب ذلك من أحد. فكيف تشتكي الحكومة من قلة ذات اليد، وهي توزع الكهرباء بهذا السخاء وبدون مُقابل؟".
لا تخفي السخرية والتهكم أحداث التعذيب التي تعرضها الرواية؛ هي أشكال من التعذيب الجسدي تنتفي معها الآدمية، كما أنها تكشف عن الأساليب المرهبة التي يتعامل بها السجّان. سمة الترهيب، والعنف اللفظي أو الجسدي في أي ردة فعل، وفي أي كلمة دون إذن، يصفها الكاتب في كثير من المواقف، ونذكر منها: "قلت هي علاقة قائمة منذ الصغر. فصُفعت صفعةً عاودني بعدها السعال والمخاط حتى حسبت الضرب سيتجدد...".
في الصفحة 36: "ومرةً أخرى انقضوا عليّ كلهم دفعةً واحدةً وأخذوا يلطمون ويشبحون ويقولون ذلك الكلام الخبيث في حقك وحق والدي. وهذه المرة حتى أعمامي وعماتي وأخوالي وخالاتي لم يسلموا من ذلك الكلام...".
تتكرر المعاناة في كل فصول الرواية. في كل سرد للتعذيب، تُخترع وسيلة جديدة، مغايرة لسابقاتها، لا لغة في "درب مولاي الشريف" سوى العنف.
محمد الرايس... سيرة الوفاء من تازمامارت
حين نقرأ كلّ السير الذاتية التي كُتبت عن معتقل تزمامارت، لا يمكن أن نكفكف دموعنا أمام تلك المأساة التي وقعت هناك. لا مبالغة في أن حقبة تازمامارت أفظع ما مرّ في تاريخ المغرب الحديث. سياقها التاريخي مرتبط بالمحاولة الانقلابية الأولى على الملك الحسن الثاني (1971)، أثناء الاحتفال بعيد ميلاده، بزعامة الكولونيل أمحمد أعبابو، والجنرال المذبوح.
حسب مجموعة من الشهادات التي يرويها الرايس، وكذا أحمد المرزوقي في كتابه "تزمامارت… الزنزانة رقم 10"، فإن الطلبة المشاركين لم يكونوا على علم بالمحاولة الانقلابية، بل إن أغلبهم لم يعرفوا من قبل صورة الملك، بيد أنه بعد وفاة المخططين، كان لا بد من الشماعة.
"من الصخيرات إلى تازمامارت – تذكرة ذهاب وإياب إلى الجحيم"، هو أول كتاب أرَّخ للفترة، بكل تفاصيلها الدقيقة. دقة التفاصيل هي ما يميّز كتاب الرايس، إذ نجده دقيقاً في ذكر أسماء المعتقلين ورتبهم، والسجانين وأسمائهم، من كانوا إنسانيين في التعامل ومن كانوا عكس ذلك، ما يجعل السيرة موضوعيةً أكثر.
سجن تازمامارت، ذلك المكان الذي تغيب عنه الشمس، بل لا تلجه الشمس أبداً، هناك بُعث الرايس ورفاقه لمدة 18 سنةً، لم ينجُ من 58 معتقلاً سوى 28، بينما دُفن الباقون في فناء السجن.
حين نقرأ كلّ السير الذاتية التي كُتبت عن معتقل تازمامارت، لا يمكن أن نكفكف دموعنا أمام تلك المأساة التي وقعت هناك. لا مبالغة في أن حقبة تازمامارت هي أفظع ما مرّ في تاريخ المغرب الحديث
تُصوّر مذكرات الرايس ذاك المكان الذي لم يُبنَ إلا للموت البطيء، غير أنه إلى جانب كل ثواني المعاناة، ترصد كذلك تلك اللحظات من الأمل، تلك اللحظات المضحكة، التي تجعل القارئ أحياناً يبتسم برغم كتل الترهيب العديدة.
المؤلَف -حسب الكاتب- وفاءٌ لكل أولئك الذين لفظوا أنفاسهم هناك، هو تخلص من الكابوس وصرخات الأصدقاء والرفاق الذين جُنُّوا بفعل العزلة والظلمة، لكنه من زاوية أخرى كشفٌ لثغرات عديدة، وإضاءة على فترة حاول النظام بشتى وسائله التكتم عنها، عبر أذرعه، أو عن طريق التهديد والوعيد.
الكتب التي تناولها المقال، ليست سوى نماذج من سير ذاتية عديدة، تؤرخ لزمن كانت لغة التعذيب والترهيب والإخفاء أسمى تجلياته. اتخذ هؤلاء من الكتابة عن تجاربهم شفاءً لذواتهم حتى لا تظل النكسة حبيسةً من جهة، ومن جهة أخرى لرفع وعي المجتمع، والكشف عن حقائق مفجعة أرادها النظام أن تبقى أسراراً بين الجلّاد والأسير، لكن لا بد أن تُفتح صحف التاريخ وإن كانت الأبواب موصدةً.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين