ترك المصري أحمد زكريا (1984) مصر عام 2016 واتجه نحو إسطنبول. تعلم اللغة التركيّة هناك خائضاً عالم الترجمة، وحين سؤاله -بسذاجة- عن السبب، خصوصاً أن اللغة التركية لا تعتبر رائجة، أجاب أن هذا أحد أهم أسباب اختياره لهذه اللغة، إذ يخبرنا أن الأمر لم يكن صدفة، فهو حاول الاختلاف عن أبناء جيله الذين تركوا مصر وتوجهوا نحو أوروبا، واتجه إلى تركيا بعد مشاورة العديد من أصدقائه، في سبيل تحقيق حلمه بأن يصبح مترجماً أدبياً عن التركيّة. فهذا القطاع، أي الترجمة من التركية إلى العربية، يعاني من فراغ، وحسب قوله "معرفة أغلب الكُتَّاب والمثقفين العرب بالأدب والثقافة التركية محدودة للغاية، وتأكد لي هذا الشعور بعد إقامتي في تركيا واطلاعي على ثقافتها وآدابها بشكل أفضل".
لم يخلف زكريا وعده أمام نفسه، وصدر له بالاشتراك مع المستعربة التركيّة ملاك دينيز أوزدمير، العديد من الترجمات عن التركية، مثل: "ثلاث سنوات ونصف مع ناظم حكمت" لأورهان كمال (المتوسّط، 2020)، و"غجر إسطنبول" لعثمان جمال قايجلي (مرايا، 2021)، و"أيام السلطان عبد الحميد الأخيرة" لناهد سري أوريك (الأهلية، 2021)، و"جثّة تضع حذاء كرة القدم" (الدار العربية للعلوم - ناشرون، 2021)، و"فندق القسطنطينية" لـ زولفو ليفانلي (الأهلية، 2022)، وغيرها من الكتب التي ستصدر قريباً.
أحاور هنا زكريا في محاولة للإضاءة على تجربته، وخياره للغة التركيّة. وأول ما يثير الانتباه، هو تصريح له حول الاختلافات بين بعض الترجمات العربية والنصوص التركيّة الأصيلة، الشأن الذي لاحظه حين بدأ يطلع على الأدب التركي بلغته، إذ يشيد بالمترجمين السوريين عبد القادر عبدللي وبكر صدقي، لكنه لاحظ مثلاً العديد من الالتباسات بعد قراءته لناظم حكمت بالتركيّة، ويشرح أسباب الالتباس أو الخطأ بالتالي:
أغلب الأعمال الأدبية التركية المنقولة للعربية متأثرة بالإيديولوجيا، بعض الترجمات جعلت قصائد ناظم حكمت أشبهَ بالبيانات الحزبيّة
"العامل الأبرز هو الترجمة عن لغة وسيطة، مثلما لاحظتُ في ترجمة الكاتب والمترجم المصري خليل كلفت لبعض قصائد ناظم حكمت عن الفرنسية، وقد فقدت الكثير من الشعرية بعد مرورها عبر لغتين، بل وكانت فيها بعض الأخطاء أيضاً، بسبب أن ناظم كان يقصد أشياء معينة عبَّر عنها من خلال خصوصيات لغته الأم، ولم تصل في الترجمة العربية. السبب الثاني، في رأيي، يرجع إلى الإيديولوجيا، وقد لاحظته في ترجمة الأعمال الكاملة لناظم حكمت أيضاً، التي أنجزها المترجم السوري فاضل جتكر. لاحظتُ أن شيوعيةَ جتكر طغت على قصائد حكمت وجعلتها أشبهَ بالبيانات الحزبية. السبب الثالث هو عدم إتقان بعض المترجمين للتركية، وهذا ما وجدتُه في كثير من ترجمات عزيز نيسين الذي ظهر اسمه كـ(موضة)، وخصوصاً في دور النشر السورية خلال الثمانينيات".
الثقافة التركيّة والإيديولوجيا
- نعلم أن هناك العديد من الإشكاليات السياسية التي تربط تركيا بالمنطقة العربيّة، خصوصاً بعد عام 2011، سواء كنا نتحدث عن اللاجئين داخل تركيا أو مواقف تركيا ذاتها من السلطات العربيّة. في ذات الوقت، لا يمكن تجاهل أن الثقافتين العربية والتركية متداخلتين بشكل كبير، خصوصاً على المستوى التلفزيوني-الترفيهي، فهل الشأن مختلف على صعيد الأدب؟ وهل من أثر لهذه الإشكاليات السياسية على طبيعة خياراته لما سيترجمه؟
ما يصل للعرب من المسلسلات التركيّة يمكن وصفه بالتجاري أو البروباغاندا التاريخيّة الرخيصة، أما فيما يخص الأدب فالأمر مختلف، الأسباب إما سياسية كحالة ناظم حكمت، يشار كمال، عزيز نيسن، أو تتعلق بالجوائز، كإليف شفق القادمة إلينا من الغرب وليس ككاتبة من الأناضول
فأجاب أنه بدايةً لا يمكن تجاهل دور المسلسلات التركية في العالم العربي؛ فما يصل إلى العرب هو المسلسلات التجارية فقط أو البروباغاندا التاريخية "الرخيصة"، سواء التي تروج للعثمانيين مثل "قيامة أرطغرل" و"السلطان عبد الحميد" أو التي تهاجمهم مثل "ممالك النار"، وهذا رأي كثير من المؤرخين الأتراك أيضاً.
أما في ما يخص الأدب فيرى أن الأمر مختلف تماماً إذ يقول: "أذكر دائماً أن أسباب شهرة بعض أسماء الكُتَّاب الأتراك في العالم العربي ارتبطت بأسباب إيديولوجية، مثلما حدث مع انتشار اسم الشاعر ناظم حكمت، والروائي يشار كمال، والكاتب عزيز نيسين، في زمن المدّ اليساري، أو لأسباب تتعلق بالجوائز، كحالة الروائي أورهان باموق الحاصل على جائزة نوبل، أو إليف شفق القادمة إلينا من الغرب وليس ككاتبة من الأناضول".
يستطرد زكرياً متحدثاً عن خياراته بالترجمة، ويقول إنه حاول قدر المستطاع أن يقدم أسماء جديدةً وجيدةً، بطبيعة الحال، ولم تُترجم إلى العربية من قبل، محاولاً أن ينوّع في خياراته ما بين الأسماء التي تنتمي لتيارات أدبية مختلفة في تركيا ولا يعرفها القراء العرب. لكنه يتأسّف مضيفاً: "الكثير من القُرَّاء، بل والكُتَّاب أيضاً، يطلبون منّا تقديم أسماء جديدة، لكنهم لا يلتفتون إلا للأسماء المعروفة بالنسبة لهم. وقد لاحظتُ أن أكثر الترجمات التي لاقت اهتماماً في العالم العربي هي ترجمة كتاب (ثلاث سنوات ونصف مع ناظم حكمت) لأورهان كمال، و(الدنيا قِدرٌ كبير وأنا مِغرفة: رحلة مصر والعراق") لعزيز نيسين، الذي حصلتُ به على جائزة ابن بطوطة لأدب الرحلة فرع الريبورتاج الصحافي المترجم، مناصفةً مع ملاك دينيز أوزدمير، وأعتقد أن هذا الاهتمام يرجع فقط لمعرفة القراء بأسماء أورهان كمال وعزيز نيسين".
ما نعلمه عن الفاشية التركيّة
صرح أحمد زكريا مرة أنه يتجنب ترجمة النصوص التي ينتجها "كتاب فاشيون"، فنحن أمام موقف سياسيّ من النص، لكن سؤالي له كان: ما هو كم هذا النتاج "الفاشي"، وما هي الحجج التي يسوقها؟ والعقلية التي ينطلق منها؟ سألتُ زكريا حول هذا الشأن لأن العديد من الكتاب الذين تُطلَق عليهم هذه التهمة كالفرنسي ميشيل هولونيك، يترجمون للعربية، ونقرأ عبرهم ما يدور في خلد اليمين الأوروبي. يعلق زكريا على أسئلتي قائلاً: "نعم. ذكرتُ من قبل أنني أتجنب ترجمة الكُتَّاب الفاشيين، ولكن هذا مرتبط بسياق محدد. باختصار، لا أحب تسليط الضوء على هؤلاء في هذه المرحلة الحرجة مع تصاعد موجة العنصرية ضد العرب في تركيا، والجنون الإعلامي لبعض الأنظمة العربية ضد تركيا، لكنني لستُ ضد ترجمة هذه النصوص بالتأكيد، إنما هي ليست ضمن أولوياتي".
يضيف قائلاً أن الحجج التي يسوقها هؤلاء "الفاشيون" هي نفس الحجج القديمة والصور النمطية حول العرب من قبل الراديكاليين من القوميين الأتراك، فمن المعروف أن الخلافات بين العرب والأتراك ليست حديثة، فقد نشأت منذ انهيار الدولة العثمانية، وتصاعدت خلال الحرب العالمية الأولى.
بعض المترجمين من العربية للتركيّة، يختارون نصوصاً عربية ترتبط بالحرب أو مواضيع اللجوء باعتبارها قضيةَ تضامنٍ، بغضِّ النظر عن جودة هذه الأعمال
ويستطرد قائلاً: "التُّهم متبادلة بين النخب العربية والتركية. الأتراك يرون أن العرب تخلوا عنهم في الحرب، وثاروا عليهم (في إشارة لثورة الشريف حسين)، والعرب يرون أن العثمانيين هم سبب (تخلفهم). ووصلت هذه الخلافات إلى حدِّ القطيعة بعد تأسيس الجمهورية التركية. مع هذه الخلفيات التاريخية، هناك أسباب حالية يسوقها هؤلاء في خطابهم وكتاباتهم، وهي الأعداد الكبيرة للعرب في تركيا، وخصوصاً السوريين. ولكن في رأيي هذه أسباب مرتبطة في المقام الأول بسوء الأوضاع الاقتصادية في تركيا في العامين الماضيين. والدليل على ذلك أن هذه الأصوات العنصرية لم نكن نسمع بها من قبل حتى في ظل الوجود العربي في تركيا. وبالنسبة لحجم النتاج الفاشي في تركيا اليوم فهو قليل في رأيي في الأدب، ولا يكاد يُذكر مقارنةً بالخطاب السياسي الفاشي لبعض أقسام المعارضة التركية".
محمد حقي صوتشين والنقل من العربية إلى التركيّة
سألت زكريا عن حركة الترجمة من العربية إلى التركيّة، فأجاب دون تردد أن هناك حركةً ترجمة قوية من العربية إلى التركية في السنوات الأخيرة، ومن أبرز الأسماء في هذه الحركة هو المترجم والأكاديمي التركي محمد حقي صوتشين أستاذ اللغة العربية وآدابها في جامعة غازي بأنقرة، إذ قدَّم الدكتور صوتشين أكثر من ثلاثين كتاباً عربياً إلى المكتبة التركية. كما قدّم تلاميذه أيضاً العديد من الأسماء العربية المهمة. ويرى زكريا أن أهم ما يميز هذه الحركة أنها متنوعة، فقد كانت الترجمة من العربية إلى التركية تقتصر خلال العقود السابقة على ترجمة الكتب الدينية والتراثية، لكن صوتشين وتلاميذه اتجهوا إلى ترجمة الأدب أيضاً، القديم منه والحديث؛ فقد ترجم صوتشين مثلاً "المعلقات السبع"، و"طوق الحمامة" لابن حزم، و"حي بن يقظان" لابن طفيل، كما قدّم أسماء حديثة مهمة مثل يحيى حقي وأدونيس ومحمود درويش، وأسماء معاصرة كعدنية شلبي، إذ ترجم لها رواية "تفصيل ثانوي"، والتي صدرت بثلاث طبعات حتى الآن، إلى جانب اشتغاله على أسماء معاصرة أخرى.
ويضيف: "بالنسبة لاعتبارات الترجمة عند صوتشين وتلاميذه فأتصور أنها جمالية في المقام الأول. المشكلة هنا، في رأيي، أن بعض المترجمين الآخرين من العربية إلى التركية لديهم اعتبارات سياسية في المقام الأول، فيقومون باختيار نصوص لبعض العرب، وخصوصاً السوريين، المرتبطة مثلاً بالحرب أو مواضيع اللجوء، باعتبارها قضيةَ تضامن، بغض النظر عن جودة هذه الأعمال".
ما لا تلتقطه الترجمة
يتكرر اسم المستعربة ملاك دينيز أوزدمير في ترجمات أحمد زكريا، التي يصف آلية العمل معها: "نقوم بالترجمة على مراحل، ونتبادل عملية التحرير حسب اللغة المُتَرجَم عنها. فإذا كانت الترجمة من التركية إلى العربية، أكون أنا المسؤول عن تحرير العمل، وإذا كانت من العربية إلى التركية، تتولى هي عملية التحرير النهائية، لأنها لغتها الأم".
سألت زكريا إن كان هناك ما لا يمكن ترجمته أو ما استعصى نقله من العربية إلى التركية أو العكس، فأجاب: "لم نجد صعوبة حتى الآن في ما ترجمناه من الشعر والرواية والتاريخ، ولكن مثلاً وجدنا صعوبةً في ترجمة الشعر المكتوب بالعامية. فعندما عرَّفتُ دينيز على الشاعر المصري عبد الرحمن الأبنودي، أُعجبتْ كثيراً بديوانه المعروف (جوابات حراجي القط)، وحاولت ترجمته وقمتُ بمساعدتها، لكننا، للأسف، لم نستطع نقلَ روحِه وتعبيراته إلى التركية حتى الآن".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع