تعيش الصحافة العراقية اليوم، مرحلةً هي الأخطر على مستوى الحريات الصحافية في العراق، كما تشخّص منظمات معنية بالدفاع عن حقوق الصحافيين، إذ تشير الإحصائيات المحلية والدولية إلى ارتفاع متصاعد في أعداد الضحايا من الصحافيين وكذلك الانتهاكات المستمرّة التي يتعرض لها الصحافيون والمؤسسات الصحافية لا سيما عقب أحداث احتجاجات تشرين الأول/ أكتوبر 2019.
قاب قوسين من الموت
لم يكن الصحافي أحمد، يعلم بأن تأدية عمله في تغطية تظاهرات تشرين الأول/ أكتوبر، ستقوده إلى الخطف والتعذيب من قبل جهات مسلّحة تسرح وتمرح وتهدد الصحافيين وتضيّق عليهم من دون رقيب في العاصمة بغداد. إلى اليوم هو لا ينسى تلك اللحظات المرعبة التي لا تفارق مخيلته، فبعد عودته من العمل في تغطية الاحتجاجات إلى المنزل تفاجأ بوجود مركبة تقلّ أشخاصاً ملثمين ومسلحين تنتظره بالقرب من منزله لتخطفه بقوّة السلاح إلى مكان مجهول.
يقول أحمد إن "الجهة التي اختطفته كانت أقوى من الدولة، إذ كنا نمرّ على أكثر من نقطة تفتيش أمنية تابعة للقوى الأمنية وكنت أسمع الطرفين يتبادلان السلام ويظهر ترحيب العناصر الأمنية بمن في المركبة والسماح لهم بالمرور من دون أي تدقيق أو سؤال. كنت معصوب العينين ووضعوني في صندوق السيارة وكنت أستمع إلى ما يدور حولي".
تذيّل العراق الدول العربية في مؤشر حرية الصحافة الذي تصدره منظمة مراسلون بلا حدود، وجاء في المركز 172 من أصل 180 دولةً شملها المؤشر ليتراجع 9 مراكز عن العام الماضي
يضيف: "وصلنا أخيراً إلى مكان مجهول. في بادئ الأمر كان كلامهم معي باحترام ثم طلبوا مني تعهداً بعدم تغطية الاحتجاجات بعد الآن، وعندما رفضت، بدأوا يضربونني ويشتمونني. مع الوقت استسلمت وقلت في نفسي إذا كانت هذه الورقة تنجيني من الموت، إذ لا وجود للعدالة هنا، فليس أمامي سوى أن أوقع على هذا التعهّد لأنقذ نفسي، لكني لم أنسَ ذلك الموقف ودائماً ما أقول إني كنت قاب قوسين أو أدنى من الموت، وحتى اليوم لم ينتهِ الاستهداف والتهديد لكل من يكتب كلمةً تعارض إرادة المسلحين".
احتفال تنغّصه الحسرة
يحتفل العراق خلال هذا الأسبوع بذكرى مرور مئة وثلاثة وخمسين عاماً على تأسيس أول صحيفة عراقية، هي الزوراء، وبهذه المناسبة احتفل الصحافيون العراقيون بعيدهم الوطني للصحافة داخل أروقة نقابة الصحافيين العراقيين، وهم يستذكرون تحوّلات عدة حصلت في واقعهم الصحافي، أشدها ما عاشوه عقب تغييرات عام 2003، إثر فقدانهم مئات الصحافيين، على أمل أن يشهد العام القادم اتساعاً في مساحة حرية الرأي والتعبير كما تقول نقابة الصحافيين.
يشير مؤيد اللامي، نقيب الصحافيين العراقيين، إلى أن النقابة والصحافيين يحتفلون هذا العام وهم يتطلعون إلى مستقبل أفضل وبيئة آمنة للعمل الصحافي على الرغم من فقدان أكثر من 500 صحافي قُتلوا بعد عام 2003 حتى اليوم، مطالباً جميع المؤسسات الرسمية وغير الرسمية بأن تعمل بالتعاون مع النقابة في سبيل حماية الصحافيين وتوفير مجال أوسع لحرية الرأي والتعبير في البلد، كذلك "سنتعاون مع البرلمان في سبيل أن تكون هذه البيئة موجودةً".
العراق في آخر القائمة
وتذيّل العراق الدول العربية في مؤشر حرية الصحافة الذي تصدره منظمة مراسلون بلا حدود، إذ جاء في المركز 172 من أصل 180 دولةً شملها المؤشر ليتراجع العراق 9 مراكز عن العام الماضي، حين حل في المركز 163، فيما تقول المنظمات المعنية بالدفاع عن الصحافيين، إن حرية الصحافة تعيش أخطر مراحلها في الوقت الحاضر عبر كم الانتهاكات التي تعرضت لها على مختلف الأصعدة.
وتوثّق جمعية الدفاع عن حرية الصحافة أكثر من 230 حالة انتهاك وقعت في حق صحافيين ومؤسسات صحافية خلال العام الماضي فقط، ويبيّن رئيس الجمعية مصطفى ناصر أن "مستوى الحريات الصحافية التي يُفترض أن تكون مكفولةً بموجب الدستور العراقي، بدأت تضيق شيئاً فشيئاً"، موضحاً أن "هناك تضييقاً حقيقياً على الحريات الصحافية وهذا التضييق هو عمليات ممنهجة في واقع الحال".
كُل صحافي عراقي عرضة للخطر، خاصة إذا مارس عمله بشكل مهني ونقل ما يحصل في العراق من فساد وخرق للقوانين، في ظل استسهال التعرض لهم من قبل الميليشيات التي لا يبدو أن القوى الأمنية لها القدرة في كبح جماحها في ملاحقة الصحافيين وقتلهم، بل هي في مكان ما تكون متواطئة معها
يتحدث ناصر عن "تهميش كبير تواجهه الصحافة هذه الأيام، هو الأخطر من قبل السلطات الثلاث الحاكمة في البلاد (القضائية، التشريعية، والتنفيذية)، في وقت لم يصل العمل النقابي إلى مستوى النضوج الذي يمكّنه من الدفاع عن الصحافيين أو الوقوف حائط صدٍّ إزاء الانتهاكات التي يتعرضون لها"، ويستشهد بحادثة وقعت مؤخراً وتابعها الرأي العام وتمثلت في إيقاف برنامج المحايد على القناة الرسمية، بناءً على تصريحات ضيف صحافي في البرنامج انتقد السلطات الدينية والقضائية في البلاد، مبيّناً أن النقابة وقفت مع الخصم ضد الصحافي، وهذا يظهر تماهيها مع السلطة.
برأيه، "الواقع لن يتغير ولا يتأمل كثيراً بأن يكون العام القادم أو الذي بعده في أحسن حال، بل بالعكس سيكون أسوأ وفق المعطيات الموجودة والوضع السياسي القائم".
أخطر التحولات
عاشت الصحافة العراقية منذ قرابة العقدين، عقب تغيير النظام الحاكم في العام 2003، ظروفاً صعبةً وتراجعاً كبيراً بلغ أشده عقب تغطية احتجاجات تشرين الأول/ أكتوبر من العام 2019، فعقب تلك الاحتجاجات، وما بين العامين 2020-2021، ووفقاً لتقارير مرصد الحريات الصحافية وجمعية الدفاع عن حرية الصحافة في العراق، فقد سُجل أكثر من 500 انتهاك طال صحافيين ومؤسسات صحافية وإعلامية من ضمنها الخطف والتغييب والاعتداء على المقرّات وكانت على النحو التالي:
89 حالة منع وتضييق، 87 حالة احتجاز واعتقال، 32 حالة اعتداء بالضرب، 234 ملاحقةً قضائيةً، مقتل 9 صحافيين، تسجيل انتهاك واعتداء وغلق وهجمات مسلحة على مقرات 17 قناةً ومؤسسةً إعلامية.
وبلغت وتيرة الاعتداءات والانتهاكات في حق الصحافيين ذروتها عقب الاحتجاجات، بينما حمّلت الجهات المدافعة عن حقوق الصحافيين الحكومة والجهات الأمنية المسؤولية في التقصير والتهاون مع مرتكبيها، كما يوضح إبراهيم السراجي، رئيس الجمعية العراقية للدفاع عن حقوق الصحافيين، والذي ينبّه إلى وجود تهاون من قبل الأجهزة الأمنية عقب تلك الاحتجاجات وحتى اليوم، قائلاً: "الاعتداءات تمر والانتهاكات تحدث بشكل مستمر ويسمح بسهولة لمن يتورط فيها بالإفلات من العقاب من دون محاسبة بالرغم من وجود الكثير من الأدلة التي تشير إلى تورط جهات وأفراد معينين في تلك الانتهاكات التي تحصل في وضح النهار".
التماشي مع الوضع العام
بلغت وتيرة الاعتداءات في حق الصحافيين ذروتها عقب الاحتجاجات، وتُحمّل الجهات المدافعة عن حقوق الصحافيين الحكومة والجهات الأمنية المسؤولية في التقصير والتهاون مع مرتكبيها
وفي ظل أزمة سياسية واقتصادية خانقة تعيشها البلاد، ترى منظمات صحافية أن الحريات الصحافية مرتبطة بالوضع العام للبلاد، فمع كل أزمة سياسية وتصارع بين القوى الحاكمة، تشهد الحريات الصحافية تراجعاً ملحوظاً وتطالها انتهاكات واعتداءات كثيرة، كما يشرح هاد حلو مرعي، رئيس المرصد العراقي لحقوق الصحافيين.
وينبّه إلى أن الأزمات التي تعيشها البلاد سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، تلقي بظلالها على واقع الحريات الصحافية، مشيراً إلى أن الصحافة في العراق واجهت تحديات ومعوقات كبيرةً منذ تأسيسها، لكنها حالياً تتعرض لكل أشكال الانتهاك".
يؤكد حلو أن "هناك مشكلات كبيرة تواجه الصحافيين ومخاوف كبيرة من الرأي ومن التعبير بلغت أشدّها"، مستدركاً أن "نقابة الصحافيين لا تتحمل المسؤولية بمفردها، وهي قدّمت كل ما يمكنها في ظل هذا الجو المشحون وتقدم كل ما يمكنها لتخفيف الضغوط التي يعاني منها الوسط الصحافي في العراق".
أمنيات ضائعة
وبينما يحتفل الصحافيون بعيدهم الـ153، لا يرى كثيرون منهم أن تغييراً كبيراً سيحصل على مستوى الحريات الصحافية وسط تراجع مستمر يحصل، ويرون فيه واقعاً مغايراً لما كانوا يتأملونه عقب التحول إلى النظام الديمقراطي الجديد، أو ما اعتقدوه كذلك.
يصف رئيس تحرير صحيفة العالم الجديد الإلكترونية، منتظر ناصر، تلك الأمنيات الضائعة بالقول: "كنا حقيقةً نمنّي النفس أن نشهد صفحةً جديدةً وعهداً جديداً من حرية الصحافة وحرية التعبير ولكن للأسف الشديد عادت تلك الخطورة بمظهر وشكل آخرين إذ تم اختطاف واغتيال مجموعة من الصحافيين والناشطين وحتى المدوّنين وطبعاً لأسباب عديدة وهذا للأسف الشديد أدخل العراق في نفق مظلم".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...