شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
العصبية والقلق وحدّة المزاج... ضريبة الابتعاد عن المساحات الخضراء

العصبية والقلق وحدّة المزاج... ضريبة الابتعاد عن المساحات الخضراء

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

بيئة ومناخ نحن والبيئة

السبت 29 أكتوبر 202212:19 م

لم تجد دنيا كامل، المرأة الأربعينية، راحتها إلا في مسقط رأس والديها، ملاذها الآمن الذي اعتادت قضاء إجازة الصيف فيه طوال سنوات الدراسة وقبل الزواج، فالمساحات الواسعة للحقول وظلال الأشجار تخلق لها حيزاً هادئاً سرعان ما يتبدد عند عودتها إلى الإسكندرية حيث يقطن والداها وعائلتها.

بالرغم من توجه صديقاتها إلى الساحل الشمالي وغيرها من المناطق السياحية، لقضاء العطلات، تميل دنيا إلى غروب الشمس بين الأوراق الخضراء، وكذلك يجد أبناؤها ضالتهم في القرية الريفية الواقعة في مركز إيتاي البارود في محافظة البحيرة، حيث المساحات الواسعة للعب الكرة، والأبواب المفتوحة، والحقول الخضراء، والفواكه والخضروات الطازجة. تستحوذ الطبيعة عليهم فيرفضون العودة مرةً أخرى إلى مدينتهم، إلا أن الاضطرار إلى متابعة الدراسة يضع حداً لأحلامهم.

في تقرير نشرته مجلة "وقائع الأمم المتحدة"، ذكرت أهمية المساحات الخضراء في تحسين الصحة العقلية، وخفض الاكتئاب، ومعدلات الإصابة بأمراض القلب والأوعية الدموية والوفيات الناجمة عنها، بالإضافة إلى السمنة وداء السكري.

العيش في مناطق ذات مساحات خضراء أكبر يُقلل من معدلات الأمراض والوفيات.

ويتفق ذلك مع ما توصلت إليه دراسة لباحثين من جامعة "آرهوس" الدنماركية، تفيد بانخفاض احتمال إصابة الأطفال الذين يكبرون وسط مساحات خضراء بأمراض نفسية عن أقرانهم الذين ينشأون في محيط خالٍ من الخضرة، وذكرت الدراسة أن خطر الإصابة بالاضطراب النفسي يتراجع تدريجياً كلما كان الإنسان محاطاً منذ ولادته حتى سن العاشرة بمساحات خضراء.

كما ذكرت دراسة طبية نُشرت في دورية الجمعية الطبية الأمريكية "جاما"، أن العيش في مناطق ذات مساحات خضراء أكبر يُقلل من معدلات الأمراض والوفيات، ويرتبط ذلك بتقليل وقت البقاء في المنزل، ومدة الجلوس على الكراسي، وتالياً زيادة النشاط البدني، وهو ما ينعكس على الصحة النفسية والعقلية.

"علبة كبريت"

نشأ أحمد مدكور (41 عاماً)، في بيئة ريفية، واضطر إلى مغادرتها قبل 13 عاماً، فلم يترك له والده أرضاً زراعيةً أو إرثاً يُبقيه في بيئته المحببة إليه. انتقل بشكل جزئي للعمل، ثم للزواج وتكوين الأسرة. يقول في حديثه إلى رصيف22، إنه يفتقد الهدوء وراحة البال، وإن انتقاله بعيداً عن المساحات الخضراء أصابه بحدة في المزاج، فلم يعتد على العيش في شقة مغلقة حتى إن كانت مساحتها تزيد عن 130 متراً، فمنذ صغره يعيش في منازل كبيرة عالية الأسقف ومفتوحة الأبواب تمتد أمامها المساحات الخضراء، ويشبّه حياته الحالية بالاحتجاز في عُلبة كبريت.

يحاول مدكور سرقة بضع ساعات كل فترة في محاولة لإعادة شحن هدوئه، مشيراً إلى أن المزاج الحاد والعصبية الشديدة لا يقويان على مجابهة لحظات الصفاء التي يمتزج فيها لون السماء بخضرة الأرض المملوكة لأحد أقاربه، فقبل الرحيل كانت سهرة "الغيط" تُمثل طقساً يومياً يشارك فيه أبناء عمومته فيعود إلى منزله خالي البال ورائق المزاج.

يفتقد أحمد ما وصفه بـ"الفضا"، والذي يُمثل في معتقده عكس ما يعيشه حالياً من العمل لفترات طويلة وسط الزحام، وإهدار وقته في طرق طويلة تمتلئ بالكتل الإسمنتية وأصوات السيارات، وغياب المساحات الواسعة للمناطق الزراعية، لكن الحاجة إلى العمل والتزامه تجاه أسرته يجبرانه على الاستمرار في الحياة الضاغطة.

الهروب إلى المزرعة

التشبّه بالمدينة، والتخلص من كل ما هو ريفي، سلوك أصاب كثيرين من سكان الأرياف في مصر، فالرغبة في الوظيفة الثابتة ذات الدخل المضمون مقابل التخلص من المساحة الخضراء والبناء عليها لتوفير وحدات سكنية لزواج الأبناء، صورة تتكرر دائماً، في الوقت الذي تشهد فيه القاهرة حملات لإزالة الأشجار مما يقلل من فرص تنقية الهواء، ويتسبب في ارتفاع درجات الحرارة وما يُصاحبها من شعور بالاختناق.

بالرغم من توجه صديقاتها إلى الساحل الشمالي وغيرها من المناطق السياحية، لقضاء العطلات، تميل دنيا إلى غروب الشمس بين الأوراق الخضراء، وكذلك يجد أبناؤها ضالتهم في القرية حيث المساحات الواسعة للعب الكرة، والأبواب المفتوحة، والحقول الخضراء، والفواكه والخضروات الطازجة

لم يتحمل محمد منير، الحاصل على ماجستير في الشريعة والقانون من جامعة الأزهر، الاستمرار في البيئة المُنهكة، حسب وصفه لرصيف22، فقرر العودة إلى بيئته الأصلية بعد إتمام دراسته الجامعية. يقول إن عقله رفض بشكل تلقائي عودة الاختلاط في الأماكن المزدحمة والسريعة التي عانى منها كثيراً في أثناء الدراسة.

شارك منير ذو الثلاثين عاماً، أشقاءه في مشتل لزراعة نباتات الزينة بالقرب من منزل الأسرة في قرية ريفية في محافظة الجيزة، مضحّياً بسنوات الدراسة وفرصة العمل الأكاديمي لقاء العيش في بيئة يطمئن إليها وتحقق له ما يصبو إليه من سلام نفسي، ويوضح أن وجوده في المدينة وبعيداً عن المساحات الخضراء كان يضعه في ضغط دائم، فضلاً عن شعوره بأنه مطالب بالركض بأقصى سرعة حتى يتمكن من ملاحقة إيقاع الحياة السريع للقاهرة، من دون أي فرصة للتروّي الموجود في بيئته الأصلية، وهو ما جعله مُنهكاً دائماً وغير قادر على مواصلة الحياة.

بيئة صحية حسب الدخل

أينما التفتّ، تظهر إعلانات المدن السكنية الجديدة أمام عينيك، تداعبك بمساحتها الخضراء، ويجوب أرجاءها فنّانُك المُفضل الذي يقارن بين حياته السابقة في وسط المدينة بما فيها من زحام وما تسببه من ضغوط، وحياته الحالية بعد انتقاله إلى المدينة الجديدة ذات المساحات الخضراء الشاسعة، ولا يقتصر الأمر على الإعلانات التلفزيونية، فترى صوراً تُثير رغبتك في الراحة والاسترخاء بينما تجلس على مقعد داخل الحافلة في طريقك إلى العمل.

بتصفح بعض المواقع الخاصة بالعقارات في مصر، يلاحَظ ارتفاع أسعار الوحدات السكنية التي تحتوي على مساحات خضراء عن أسعار غيرها، ففي الإسكندرية يبلغ سعر الوحدة في مشروع جديد في منطقة سموحة، 11 مليوناً ونصف مليون جنيه مصري (ما يقارب 586 ألف دولار )، وفي العاصمة الإدارية الجديدة تروّج إحدى الشركات لمشروعها المقام على مساحة 840 كيلومتراً، خُصصت 22.5% فقط للبناء، والباقي للمساحات الخضراء، والمرافق العامة ووسائل الرفاهية.

وتختلف أسعار العقارات ضمن هذه المشاريع. "التاون هاوس"، وهو ثلاثة منازل مشتركة مع حديقة، يبلغ سعره 4.2 مليون جنيه (230 ألف دولار)، و"التوين هاوس" وهو منزلان متطابقان على مساحة واحدة بحديقة مشتركة ومداخل منفصلة سعره 5.4 ملايين جنيه، في حين يبلغ سعر الفيلا 11.3 ملايين جنيه.

تركت إيمان محمد (42 عاماً)، منزل أسرتها في قرية في محافظة الجيزة، وتزوجت قبل 20 عاماً لتعيش في منطقة المقطم. لم تنسَ بيئتها الريفية وما رسّخته من ارتباط بالمساحات الخضراء، فقررت تبنّي مشروع لترميم الحديقة المقابلة لشرفتها، وبالرغم من تبعيتها للحي، رفضت اللجوء إلى الطريق الروتيني الذي قد يؤخر ما ترغب فيه، وأقنعت سيدات شارعها بجمع مبلغ مالي لزراعة الحديقة، وبناء سور يحيطها لتكون متنفساً لهم ولأبنائهم وقتما يشاؤون.

شارك منير ذو الثلاثين عاماً، أشقاءه في مشتل لزراعة نباتات الزينة بالقرب من منزل الأسرة في قرية ريفية في محافظة الجيزة، مضحّياً بسنوات الدراسة وفرصة العمل الأكاديمي لقاء العيش في بيئة يطمئن إليها وتحقق له ما يصبو إليه من سلام نفسي

بعد سنوات، وتحديداً في بداية العام الحالي، قررت العائلة الانتقال إلى منزل جديد في منطقة التجمع الخامس. تقول السيدة لرصيف22، إن رحلة البحث استغرقت شهوراً عدة، لاختيار المساحة والسعر الأنسب لدخلهم وما ادّخروه طوال سنوات زواجهم، وكان شرطها الأساسي أن تحظى بمساحة خضراء خاصة تجلس فيها وأبناءها وترعى زراعتها، موضحةً أنها رفضت الحصول على فيلا صغيرة بسعر 4 ملايين ونصف مليون جنيه، مقابل شقة دور أرضي مع حديقة صغيرة بالسعر ذاته.

مليون جنيه مصري كان ثمن المساحة الخضراء التي تبلغ 40 متراً تقريباً، وترى فيها إيمان مساحتها الخاصة لتصفّي ذهنها من ضغوط الحياة، فكأنما قررت دفع ما ادّخرته في مساحة تعينها على الاستمرار بسلام نفسي أكبر.

الشعور بالارتياح

للمساحات الخضراء تأثير رائع على الصحة النفسية والعصبية، إذ تزيد رؤيتها نسبة السيراتونين في الجسم وهو الهرمون المسؤول عن الشعور بالسعادة، بالإضافة إلى هرمون الدوبامين، وهو من الناقلات العصبية في الدماغ، ويعمل على تنظيم المزاج والسلوك والإدراك، حسب حديث الدكتور جمال فرويز، استشاري الطب النفسي، إلى رصيف22.

ويوضح فرويز، أن المساحات الخضراء تسبب بشكل تلقائي الشعور بالسعادة والارتياح والانطلاق في الحديث وزيادة الانتباه والتركيز، والعيش في أماكن قاتمة مثل تلك الموجودة في المدن، والتي تقلّ فيها الأماكن الخضراء بنسبة كبيرة، وتؤدي إلى نقيض الحالة الطبيعية التي يخلقها اتساع الحقول والأراضي الزراعية والحدائق، فتزداد نسبة الإصابة بالاكتئاب وغيرها من الأمراض، بينما تكون فرصة الاستجابة للعلاج النفسي أكبر في الأرياف، ذلك إلى جانب التأثر بشكل حقيقي في النشأة الصحية للأطفال منذ ولادتهم وحتى سن العاشرة.

الخروج من دائرة المباني والألوان القاتمة، وقضاء بعض الوقت في الحدائق العامة والتعرض للشمس، نصيحة فرويز لمن لا يمكنهم تغيير بيئتهم بشكل نهائي، موضحاً أن التواجد في المساحات المفتوحة يُساعد على الحركة وزيادة النشاط البدني مما يقي من الإصابة ببعض الأمراض.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel

البيئة هي كل ما حولنا، وهي، للأسف، تتغير اليوم باستمرار، وفي كثير من الأحيان نحو الأسوأ، وهنا يأتي دورنا كصحافيين: لرفع الوعي بما يحدث في العالم من تغييرات بيئية ومناخية وبآثار تلك التغييرات علينا، وتبسيط المفاهيم البيئية كي يكون الجميع قادرين على فهمها ومعرفة ما يدور حولهم، وأيضاً للتأكيد على الدور الذي يمكن للجميع القيام به لتحسين الكثير من الأمور في حياتنا اليومية.

Website by WhiteBeard