لطالما اجتاز الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، العديد من الأزمات طوال حياته في العمل العام، بما في ذلك أحكاماً بالسجن واحتجاجات جماهيريةً ومحاولة انقلاب، استطاع أن يحوّلها كلها إلى فرص لتوطيد سلطته وإجراء تغييرات جوهرية في تركيا.
في أعقاب فوز صعب في الانتخابات الرئاسية، في أيار/ مايو الماضي، أعلن أردوغان عن بداية رؤية "القرن التركي"، التي قد تكون تحدياً لإرث مؤسس الدولة التركية مصطفى كمال أتاتورك. وتتضمن هذه الرؤية وضع دستور جديد يضمن فيه التغييرات كافة التي أجراها في البلاد طوال السنوات الماضية.
ما يساعد أردوغان، أن البرلمان التركي شهد هذا العام دخول حزبَين إسلاميَين محافظَين، هما حزب الرفاه الجديد وحزب الدعوة الحرة "هدى بار" الكردي، المرتبط بمنظمة حزب الله التركية، وكلاهما متحالفان مع حزب العدالة والتنمية الحاكم.
يسعى الحزبان إلى تغييرات اجتماعية من شأنها عكس ملامح تركيا العلمانية، منها الدعوة إلى سياسات مخالفة لما اعتادته البلاد، مثل الفصل بين الجنسين في المدارس، وخفض سن الزواج القانوني للفتيات، وضمان حرية ارتداء الحجاب في الدستور، وتجريم الزنا وإلغاء قانون الاغتصاب وحظر الإجهاض.
في أعقاب فوز صعب في الانتخابات الرئاسية، في أيار/ مايو الماضي، أعلن أردوغان عن بداية رؤية "القرن التركي"
20 عاماً في تغيير تركيا
لم يصل أردوغان إلى تحدّي إرث أتاتورك وتغيير تركيا من خلال طرح رؤية جديدة، إلا بعد طريق طويل من تحوّلات كبيرة نفّذها على مدار 20 عاماً، في الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية.
كانت "السنوات الذهبية" في حكم أردوغان من 2005 إلى 2010، فترة انفتاح نسبي. رحّب الليبراليون والأكراد بالحقوق الثقافية للأقليات والإصلاحات التشريعية التي حدّت من السلطة السياسية للجيش.
على سبيل المثال، في تلك الفترة، تم تنظيم بعض المؤتمرات حول الإبادة الجماعية للأرمن التي وقعت في 1915-1916، في بعض الجامعات العامة والخاصة، وهو إنجاز لا يمكن تصوّره قبل ذلك أو بعده.
يتحدث الزميل الأقدم في المجلس الأطلسي، ديميتار بيشيف، في كتاب "تركيا في عهد أردوغان: كيف تحولت دولة من الديمقراطية والغرب"، كيف أطلق أردوغان في بداية عهده "يني تركيا" (تركيا الجديدة). وفي عام 2004، ألقى خطاباً بعنوان "لماذا يحتاج الاتحاد الأوروبي إلى تركيا، تعهد فيه بجعل القيم الأوروبية قيم أنقرة".
في رأي بيشيف، كان خطاباً يبعث على الأمل، إذ بذلت تركيا بالفعل قصارى جهدها لإجراء إصلاحات ديمقراطية، ومواجهة أشباح الماضي المضطرب للبلاد، وتحسين حقوق الإنسان وتحقيق النمو الاقتصادي.
لكن في عام 2007، بدأت محاكمات "أرغينيكون"، أو ما يُسمى بـ"الدولة العميقة"، فشرع أردوغان في تطهير كامل وملاحقة واسعة لقادة في الجيش وصحافيين ورؤساء عصابات إجرامية وغيرهم من الشخصيات النافذة في الدولة.
ومن المفارقات، أن زعيم حركة فيتو التركية فتح الله غولن وأنصاره، كانوا مستفيدين من هذا التطهير، ودعموا أردوغان في هذه الخطوة، وحاولوا تعيين أعضائهم، لكن فقدوا حظهم في ما بعد واستخدم أردوغان الأساليب نفسها ضدهم، بعد اتهامهم بمحاولة انقلاب فاشلة في عام 2016.
في 2008، قررت المحكمة الدستورية رفض دعوة حظر حزب العدالة والتنمية، لتقويضه المبادئ العلمانية للجمهورية التركية. بعد هذا الحكم قرر أردوغان تأمين حزبه عبر القيام بإصلاح في القضاء وتعديل الدستور لتجنب احتمال فرض حظر آخر في، المستقبل.
تم تقديم هذه الإصلاحات على أنها ديمقراطية. كان من المفترض أن يستهدفوا "دستور المجلس العسكري"، وأن يزيلوا العقلية العسكرية من جهاز الدولة التي تعادي الأحزاب المحافظة وخلقت دولةً عميقةً، لكنها أدت إلى إضعاف أو فقدان استقلال القضاء، وهذا أول تغيير جذري في البلاد. إذ رأى أردوغان أن الإصلاحات التي جرت عام 2010، جعلت تركيا أقرب إلى الديمقراطيات الأوروبية وانفصلت عن ماضيها العسكري، لكن أعطت حكومته المحافظة سيطرةً أكبر على الجيش والمحاكم، وأمّنت له الفوز بولاية ثالثة كرئيس للوزراء عام 2011، وفقاً لبيشيف.
شرع أردوغان في ذلك العام، في رفع الحظر عن غطاء الرأس للنساء في مكاتب الدولة، وشجّع على بناء المساجد، مثل مسجد ميدان تقسيم في إسطنبول.
السياق الواضح والمدروس
في عام 2013، اندلعت مظاهرات حديقة "جيزي"، بسبب الاستياء من العديد من القضايا، بما في ذلك الانجراف نحو السياسات الإسلامية والفساد المستمر. شكلت هذه الاحتجاجات نقطة تحول أخرى، إذ أدت إلى نفور الليبراليين والعديد من حلفاء أردوغان السياسيين، فاتجه إلى إنشاء تحالفات جديدة، لا سيما مع القوميين.
مع اقتراب فترة ولايته من نهايتها، واجه أردوغان مشكلةً: قواعد حزبه منعته من الترشح لولاية جديدة كرئيس للوزراء. في عام 2014، فترشح بدلاً من ذلك لمنصب آخر، وهو رئاسة الجمهورية، ليصبح أول رئيس منتخب شعبياً في تركيا.
الرؤية عبارة عن "تمنيات وأحلام" أكثر من كونها خطةً يمكن تحقيقها على أرض الواقع، فأردوغان سبق وأطلق "رؤية 2023"، أوشكت على الانتهاء، دون أن يتحقق الكثير منها
روّج في حملته الانتخابية في ذلك الوقت لرؤية تركيا 2023، وانتقل إلى تعظيم سلطاته، التي تضمنت حق نقض التشريعات والقدرة على تعيين القضاة.
بعد الانتخابات، تحالف حزب العدالة والتنمية مع حزب الحركة القومية في 2015، وهو حزب قومي متطرف كان غائباً عن البرلمان منذ عام 2002، ولم يتمكن من تجاوز عتبة الـ10% للفوز بمقاعد. أصبح التيار القومي الآن لاعباً رئيسياً في الحياة والمشهد السياسي التركي بفضل أردوغان.
في رأي بيشيف، أدى هذا التحالف مع القوميين إلى تدمير أي آمال في حل الصراع مع الأكراد خلال هذه الفترة. واندلع صراع مسلح جديد مع الجيش التركي ما تسبب في فراق بين الأكراد وأردوغان.
كاد حكم أردوغان أن ينتهي في عام 2016، بسبب انقلاب من قبل بعض أعضاء الجيش وحلفائه السابقين من التيار الإسلامي في حركة فتح الله غولن. وقد استغله للقضاء على جماعة الأخيرة.
في غضون عام، رتّب أردوغان استفتاءً آخر للناخبين، وكان حول إلغاء منصب رئيس الوزراء، ونقل السلطة إلى الرئيس، وكذلك منحه المزيد من السلطات. ونجح في تمرير هذه الإصلاحات وجرى تنصيبه في 2018، رئيساً للبلاد في ظل نظام رئاسي.
نشر أردوغان في ذلك الوقت مرسوماً من 143 صفحةً، غيّر طريقة عمل كل إدارة حكومية تقريباً. قام بفصل 18،000 موظف حكومي، وبالعديد من التعيينات الرئيسية، وعيّن صهره وزيراً للمالية. كان المرسوم مجرد علامة على المدى الذي قطعه أردوغان في تغيير تركيا، على الطريق نحو حكم الرجل القوي. لكن في عام 2019، فقد حزبه رئاسة بلدية أكبر مدن تركيا، إسطنبول وأنقرة، في علامة واضحة على بداية صعود المعارضة.
خيبة أمل اقتصادية
تضاعف الناتج المحلي الإجمالي أكثر من ثلاثة أضعاف بين عامي 2001 و2013، ووصل إلى مستوى مرتفع بلغ 957 مليار دولار. ازدادت تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر من 982 مليون دولار إلى 19.2 مليار دولار، بين عامي 2000 و2015. وازدادت الصادرات أربعة أضعاف بين عامي 2001 و2008، لتتجاوز 130 مليار دولار في عام 2008.
في عام 2011، وضع رئيس الوزراء آنذاك رجب طيب أردوغان أهدافاً اقتصاديةً طموحةً "رؤية 2023"، الذكرى المئوية لتأسيس الجمهورية، بهدف جعل تركيا من أكبر عشر اقتصادات في العالم بإجمالي ناتج محلي يبلغ 2 تريليون دولار، ونصيب الفرد فيها من الناتج المحلي الإجمالي 25،000 دولار.
لكن ولّت هذه المعجزة الاقتصادية منذ عام 2015، وفقد الاقتصاد ديناميكيته، بسبب القرارات الاقتصادية الخطأ والتوتر السياسي مع أوروبا والولايات المتحدة ودول الشرق الأوسط والأزمات الداخلية.
ثم بدأ الاقتصاد التركي بالتعثر منذ عام 2018، إذ بدأت الليرة التركية تعاني من تضخم جامح وأزمة لا تنتهي في أسعار الصرف الأجنبي، وانخفاض نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي في تركيا بنسبة تصل إلى الثلث وأكثر.
ولّت المعجزة الاقتصادية منذ عام 2015، وفقد الاقتصاد ديناميكيته، بسبب القرارات الاقتصادية الخطأ والتوتر السياسي
القرن التركي
في 23 تشرين الثاني/ نوفمبر المقبل، سيكون قد مرّ قرن كامل على تأسيس الجمهورية التركية في 1923، على يد زعيمها مصطفى كمال أتاتورك، الذي أقام العلمانية فيها، وعليه، يريد أردوغان وضع رؤية جديدة للقرن المقبل، لدولة تحافظ على هويتها الإسلامية وليحاول أن يبقي إرثه قرناً آخر بعد نهاية ولايته في 2029.
تتكون رؤية القرن التركي من 17 مبدأً؛ تشمل الاستدامة والعلوم والتكنولوجيا والسلام والاستقرار والقوة، وبناء منظور موجه نحو المستقبل يعزز التحول الاستباقي محلياً ودولياً، لكن جوهرها عمل تغيير جذري في الدستور يضمن فيه التغييرات التي أجراها، خاصةً ضمان حرية الحجاب وبناء المساجد.
تم تقديم الرؤية في البداية من قبل أردوغان، في 28 تشرين الأول/ أكتوبر 2022، خلال خطاب أمام حشد كبير في العاصمة أنقرة، حيث أعرب عن رغبته في بداية قوية للقرن الجديد للجمهورية التركية.
يقول المحلل السياسي والباحث التركي فراس رضوان أوغلو، لرصيف22، إن "هذه الرؤية ستكون استمراراً لما بدأه أردوغان بدايةً من استقلالية تركيا، وترسيخ النظام الرئاسي، ووضع دستور جديد، وجعل بلاده من أفضل الاقتصادات في العالم، وتحقيق شبه اكتفاء ذاتي، وتطوير البنية التحتية، والتركيز على تطوير الصناعات الدفاعية محلياً".
من جانبه، يقول رئيس مركز شرقيات للبحوث في إسطنبول، محمد زاهد جول، إن رؤية القرن التركي تأتي ضمن وعود الحملات الانتخابية التي اعتاد عليها حزب العدالة والتنمية الحاكم، منذ عام 2002.
ويضيف في حديثه لرصيف22، أن هذه الرؤية عبارة عن "تمنيات وأحلام" أكثر من كونها خطةً يمكن تحقيقها على أرض الواقع. مشيراً إلى أن أردوغان أطلق رؤيةً في عام 2009 و2011 اسمها "رؤية 2023"، أوشكت على الانتهاء دون أن يتحقق الكثير منها.
ويردف زاهد جول: "في الحقيقة، لا يوجد فرق بين الرؤيتين بل هناك تراجع كبير في الوعود في الرؤية الجديدة، فهناك ملمح آخر يفيد بأن هذه الرؤية تنموية، ولا يوجد فيها الكثير من العمل السياسي، لذلك فهي غير مكتملة عكس رؤيتهم 'تركيا الجديدة' في 2002، التي كانت تنمويةً وسياسيةً".
إرث أتاتورك العلماني
يظل السؤال الأبرز حول مدى إمكانية تحدي رؤية أردوغان الجديدة لإرث أتاتورك ورؤيته العلمانية وضمان بقاء إصلاحاته قرناً آخر.
في رأي المحلل السياسي التركي بركات كار، فإن رؤية "القرن التركي" التي يقصدها أردوغان ستكون بديلاً لرؤية أتاتورك، وتقوم على التباهي بمشاريع ضخمة كصناعة المسيّرات، لكن لا تتضمن أي مبادرة نحو سلام حقيقي في البلاد كما فعل أتاتورك.
ويضيف كار لرصيف22: "هذه الرؤية لا علاقة لها بالحريات ولا بحقوق الإنسان والعدالة والقضاء المسيّس. لا حديث فيها عن أي حل للقضية الكردية التي تُعدّ أساساً لأي تطوّر يتعلق بالسلام والديمقراطية في تركيا".
خلال حكم أردوغان سقط "الجدار الناري" بين الدين والدولة، حتى أن المعارضة العلمانية ايضاً تبنّت نهجاً تخلّت فيه عن هذا الجدار، لكن هل يكفي هذا الأمر للقيام بانقلاب كامل على أرث أتاتورك؟
في المقابل، يرى زاهد جول، أن أردوغان يظهر أنه يلتزم بـ"العلمانية المحافظة"، ولا يمكن القول إن هذه الرؤية معاكسة لـ"رؤية أتاتورك العلمانية" التي كانت مكتملةً وشاملةً، سواء اقتصادياً أو سياسياً أو اجتماعياً، بدليل أنه في يوم تنصيبه زار ضريح مؤسس الجمهورية، وكذلك في خطاب النصر وضع صورةً كبيرةً له على قصر الحكم، ويضيف أن رؤية أتاتورك كانت صادقةً ومجمعاً عليها من كل الفرقاء في السياسة، لذلك ظل قرناً كاملاً.
من جانبه، يؤكد رضوان أوغلو، أن تركيا ستبقى على "العلمانية السياسة"، ولن يكون هناك تغيير في الخطوط العريضة لعلمانية الدولة. وأقصى ما ستفعله الرؤية الجديدة أنها ستحاول أن تقلل "سلطوية العلمانية" ولن تمحوها أو تمسّ بها.
لم يغيّر أردوغان بشكل جذري في الطبيعة العلمانية للمؤسسات السياسية أو العسكرية في البلاد، بل أقسم في التنصيب على الحفاظ على علمانية الدولة، كذلك لم يؤسس خلال حكمه أي مجلس ديني ذي سلطة كما هو الحال في إيران، أو يعيّن رجال دين في مناصب مهمة في الرقابة الوطنية أو السلطة السياسية.
في رأي رضوان، خلال حكم أردوغان سقط "الجدار الناري" بين الدين والدولة، حتى أن المعارضة العلمانية ايضاً تبنّت نهجاً تخلّت فيه عن هذا الجدار، وتحالفات في الانتخابات مع أحزاب ذات خلفية إسلامية ورشحت على قوائمها سيدات محجبات، ويضيف: "المجتمع التركي أقسام؛ هناك من يدعم علمانية الدولة، وهناك من يقف ضدها، لكن أظن أن العلمانية ستبقى، ولو تم إجراء استفتاء عليها، فستكون النتيجة لصالح بقائها".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...