بعد سنوات من التوتر والهجوم المتبادل وحرب المنابر بين السعودية وتركيا، والتي وصلت إلى حد القطيعة شبه الكاملة بين الطرفين، بسبب خلافات حادة بينهما على عدد من الملفات السياسية في المنطقة، وكذلك ملف مقتل الصحافي السعودي جمال خاشقجي في قنصلية بلاده في إسطنبول، حطّ الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بطائرته في مدينة جدة جنوب غرب السعودية، للقاء الملك السعودي سلمان بن عبد العزيز.
وهذه هي الزيارة الثانية للرئيس التركي إلى منطقة الخليج خلال أقل من عام، وكلا الزيارتين كانتا إلى خصوم أنقرة في المنطقة، الإمارات والسعودية.
تأتي هذه الزيارة في توقيت حساس لجميع الأطراف بفعل الأزمات السياسية والاقتصادية الدولية الناتجة عن تبعات الغزو الروسي لأوكرانيا وجائحة كورونا، والسياسات الأمريكية تجاه المنطقة، كما تأتي في وقت يحاول فيه حزب العدالة والتنمية تحقيق أكبر قدر ممكن من المكاسب الاقتصادية قبل الانتخابات الرئاسية والبرلمانية في صيف 2023، في ظل ارتفاع التضخم عالمياً والتراجع الذي شهدته قيمة الليرة التركية، والاقتصاد التركي خلال العام الماضي 2021.
هذه هي الزيارة الثانية للرئيس التركي إلى منطقة الخليج خلال أقل من عام، وكلا الزيارتين كانتا إلى خصوم أنقرة في المنطقة، الإمارات والسعودية
وإن كان الرئيس التركي يدرك أهمية عودة علاقات بلاده مع الإمارات والسعودية، فالأخيرة تدرك هذه الأهمية بالنسبة إليها أيضاً، خاصةً في ظل التقارير المتكررة التي تتحدث عن العلاقة السيئة بين الرياض وواشنطن، إلى حد دعا صحيفة "وول ستريت جورنال الأمريكية" إلى وصفها "بالمهددة بالانهيار" خلال الأسبوع الماضي، وهو ما يدفع الرياض للبحث عن حلفاء جدد قادرين على دعمها أمنياً على الأقل.
أسباب الانفتاح
سبق زيارة أردوغان إلى جدة بيوم واحد، اجتماع جمع وزيري المالية التركي والسعودي، وهو أمر له دلالاته حول طبيعة الزيارة وأغراضها والنتائج المتوقعة منها أيضاً. وفي حين تطمح تركيا إلى تقوية علاقاتها الاقتصادية مع السعودية، على غرار ما فعلت مع الإمارات قبل أشهر قليلة، فإن للسعودية أسبابها للتوجه نحو المصالحة مع أنقرة.
يرى أستاذ العلاقات الدولية في جامعة ابن خلدون التركية، الدكتور برهان كرا أوغلو، في حديثه إلى رصيف22، أن الانفتاح التركي على الخليج جاء بوجود إرادة مقابلة للانفتاح على تركيا، كما مبادرة الإمارات على سبيل المثال، ويضيف: "السبب الأساسي لهذا الانفتاح هو وجود تحديات مشتركة تدفع الأطراف جميعها للصمود أمام المشكلات الأمنية والحروب وعدم الاستقرار في دول جوارها، كاليمن ولبنان وسوريا".
إلا أن هذا الانفتاح لا يتعلق فقط بالتحديات المشتركة، إذ إن السعودية دولة لها ثقلها في المنطقة بطبيعة الحال، بالإضافة إلى تأثيرها العالمي كونها أحد أكبر مصدري النفط في العالم.
يقول الباحث في العلاقات الدولية والشؤون التركية، طه عودة أوغلو، لرصيف22، إن الزيارة "إشارة واضحة إلى القناعة التركية بأن السعودية تُعدّ من أهم دول الخليج التي تسعى تركيا إلى تطبيع العلاقات معها، وهذا بالتأكيد يعود إلى عوامل كثيرة أهمّها أنها تُعدّ المحرك الأول للدول الخليجية وخسارتها لا تعني فقط خسارة الرياض، بل كذلك خسارة دول إقليمية أخرى، بالإضافة إلى كونها أكبر بكثير من نظيراتها، وأكثر تنوعاً سياسياً واقتصادياً منها، إلى جانب مكانتها الفريدة في العالم الإسلامي".
تحاول تركيا الانفتاح على دول الخليج لا سيما السعودية والإمارات في بحث جدي عن مخارج لأزمتها الاقتصادية، فيما تُرحب الرياض بهذا الانفتاح وهي تحاول تحصين نفسها لاسيما بعد التباعد الكبير الحاصل مع أمريكا
وهذا الواقع لا يعني بالضرورة أن تركيا فقط هي التي تحتاج إلى السعودية، إذ إن الأخيرة لديها مشكلاتها مع الولايات المتحدة وفي اليمن، وأسباب أخرى قد تكون ساهمت في دفعها نحو البحث عن حلفاء جدد، ويرى كرا أوغلو، أن "كلاً من السعودية والإمارات لديهما مشكلات مع الولايات المتحدة ، وكذلك الأمر بالنسبة إلى تركيا".
ويضيف: "قد تُمهّد العلاقات الجديدة بين تركيا والإمارات والسعودية إلى تشكيل جبهة أمام الإملاءات الأمريكية في رسم شكل المنطقة الجديد وتقوية الميليشيات، سواء "PKK" (تضعه أنقرة على قوائم الإرهاب)، أو الميليشيات الإيرانية. وعليه، سيكون هناك جبهة أمام هذه السياسات الأمريكية التي لا تشاور فيها أحداً".
قضية الخاشقجي
وبالرغم من أن العلاقات بين الطرفين، السعودية وتركيا، لم تنقطع تماماً بالرغم من الحرب الإعلامية بينهما وتحديداً منذ بدء الأزمة الخليجية في 2017، ثم أزمة مقتل خاشقجي في 2018، إلا أن الطرفين حافظا على الحد الأدنى من العلاقات بينهما، وجرت العديد من الاتصالات خلال العام الماضي على مستوى وزراء الخارجية على الأقل.
ويرى طه عودة أوغلو، أن "تركيا لديها حساباتها الخاصة للسعي إلى تطبيع علاقاتها مع السعودية، فأنقرة تدرك أن علاقات قوية مع دول الخليج وثابتة ومستقرة، لا يمكن أن تبقى كذلك من دون مصادقة المملكة. وبناءً عليه، فإن التحالف معها هو هدف إستراتيجي لأنقرة في ظل المتغيرات في المنطقة والعالم، خاصةً مع انفتاح تركيا على مبدأ تجاوز الخلافات والبناء على نقاط الاتفاق وفتح صفحة جديدة مع كل دول المنطقة".
ويربط طه عودة أوغلو، بين الانفتاح التركي السعودي وقضية خاشقجي، والتي أصدر فيها القضاء التركي قراراً بنقلها إلى القضاء السعودي خلال الشهر الحالي. ويقول: "على ما يبدو، إن قضية الصحافي السعودي أحدثت شرخاً واسعاً وعميقاً بل قطيعةً دبلوماسيةً لم يسبق لها مثيل في تاريخ العلاقات بين البلدين، إذ إن الرياض شعرت بإهانة كبرى جراء التصريحات والمواقف الشديدة التي تمسكت بها أنقرة طوال الأعوام الثلاثة الماضية، وتحركاتها ومحاولاتها المضنية لمحاسبتها قانونياً، سواء على أرضها أو على المستوى الدولي".
بالرغم من أن العلاقات بين الطرفين، السعودية وتركيا، لم تنقطع تماماً بالرغم من الحرب الإعلامية بينهما وتحديداً منذ بدء الأزمة الخليجية في 2017
ويضيف: "الانعطافة التركية في قضية خاشقجي جنباً إلى جنب مع استمرار تحرك أنقرة بهذا الزخم في تبنّي مسار جديد لترميم العلاقات مع السعودية، يُمكن أن تعجّل من معالجة الأزمة الراهنة وتعيد الأمور إلى وضعها الطبيعي في الأسابيع المقبلة".
ويمكن لانفتاح أنقرة والرياض وحل مشكلاتهما، أن يساعدا الرياض على حل مشكلاتها الأمنية أيضاً من خلال تسهيل صفقات الأسلحة الدفاعية التركية بما فيها الطائرات المسيرة (بيرقدار)، إذ كشف الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، خلال العام الماضي 2021، عن تقديم الرياض طلباً لأنقرة لشراء هذه الطائرات.
صيف تركي ساخن
ينتظر الأتراك صيفاً ساخناً للغاية مع حلول موعد الانتخابات الرئاسية والبرلمانية في صيف 2023، وهي ربما أصعب انتخابات يواجهها حزب العدالة والتنمية الحاكم منذ وصوله إلى السلطة في عام 2002.
ويدرك الرئيس التركي أن الأوضاع الاقتصادية ستلعب دوراً حاسماً في الانتخابات المقبلة، وهو أمر أشار إليه مرات عدة ولو بشكل غير مباشر في حديثه عن التضخم في البلاد، والذي وصل إلى مستويات غير مسبوقة منذ وصول الحزب إلى السلطة.
وتفتح زيارة أردوغان إلى السعودية الباب أمام استثمارات محتملة للرياض في تركيا، في تكرار للاتفاقيات التي جمعت بين أنقرة وأبو ظبي في مجالات عدة.
كان مقتل الخاشقجي في 2018 في سفارة بلاده في اسطنبول محل خلاف وتصعيد كبيرين بين الدولتين، فيما يبدو أن القضية التي كانت تُقاتل تركيا من أجل التحقيق فيها ومحاسبة المتورطين صارت هامشية اليوم
وتبلغ عدد الشركات التركية العاملة في السعودية نحو 200 شركة تقريباً، وهي الدولة الخليجية الثانية بعد قطر والسابعة في العالم على صعيد حجم الأعمال التي ينفذها المقاولون الأتراك، بحسب الموقع الرسمي لوزارة الخارجية التركية، فيما يُقدَّر حجم الاستثمارات السعودية في تركيا بنحو ملياري دولار، ويتخطى حجم التبادل التجاري حاجز الثلاثة مليارات دولار.
يقول المستشار الاقتصادي، جلال بكار، في حديثه إلى رصيف22، إنه يمكن أن تكون هناك انعكاسات إيجابية مباشرة على صعيد العلاقات الاقتصادية بين الطرفين، وخاصةً على صعيد القطاع السياحي، مشيراً إلى وجود فائدة للطرفين وقيمة مضافة في حال تحسنت العلاقات، على صعيد الملفات السياسية والاقتصادية.
من جهته، يقول كرا أوغلو، إنه "يمكن للسعودية أن تستثمر في العديد من القطاعات في تركيا، كالزراعة والعقارات والتكنولوجيا، وهو أمر سينعكس على الاقتصاد التركي وأدائه".
ويبدو أن المنطقة ككل تتجه نحو واقع جديد في ظل الغزو الروسي لأوكرانيا والمخاوف الاقتصادية والسياسة الأمريكية، وهو ما يدفع الدول إلى البحث عن حلفاء جدد لمواجهة التحديات، وهذه التحالفات ستنعكس على العديد من الملفات في المنطقة بشكل أو بآخر، سواء الملف السوري أو الملف اليمني.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ 3 ساعات??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 23 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون