الكتاب رقم صفر
بعد نومٍ طويل الأكمام، أتفقّد خيرات نفسي في المرآة، أتفحّص جسدي العاري وجمالياته البديعة وثماره الناضجة التي ستذبل يوماً إن لم يقطفها أحد. لا يخيفني أن أخرج بقصائد أبدو فيها عاريةً، ولا أختبئ خلف الخوف كأنني أواجه البشر كما لو كانوا المرآة، أخرج بقصائد صادمة وأتركها لأسمع الشهقة من ذهول القراء.
"في السرير
أراقب الربيع وأنذهل
لمن تنضجين يا حبات الخوخ؟"
في إحدى ليالي طفولتي، التي ربما لم تقتصر على ليلة واحدة، كانت هناك ليلة نحن فيها، أنا وإخوتي، نتشارك نفس السرير في غرفة النوم المطلة على كوّة صغيرة. سردت في رأسي الصغير آلاف القصص التي حرّكت عتمته وسكونه المخيف. كنت أمضي في فداحة الكوابيس التي لم يخبرني بها أحد، لكنني وجدتها تتمشّى في رأسي ككرة صوف تغزل كل مرة قطعة، ثم سرعان ما تعاود الفكرة في غزل حكاية أخرى وقطعة جديدة بعد أن فككتها بنهاية ما تخيلت، حينما اجتاح الليل رأس طفلة امتلأ بالحكايا فكبرت قبل الأوان. طفلة وصل جسدها للنضوج قبل ثمار الشجرة كلها، ثم أخذت تحاور جسدها بحكايا نبوءتها النَديّة.
لطالما تربيت على إخفاء مشاعري، وممارسة الوأد كأسلوب حياة، خوفاً من أن تؤول شجاعة امرأة قوية إلى سجن مرير ـ شباك افتراضية باسم العادات والتقاليد وأعراف القبيلة والعشيرة العربية التي ولدت تحت رايتها بلا اختيار. القبيلة التي تحثّني على الخوف من البوح أولاً، ومن التعبير خشية خروجي من الوأد المجتمعي لكل ما هو مؤنث.
كتبت ولا أخاف من إظهار فضيحة كتاباتي عن حليب الغواية ونشوة الذكرى، وعن لذة النشوة، وعن الشامة التي على ظهري ولم يقبّلها أحد، وعن نعش اللذة وعن جوع نهود العاهرات للأمومة... مجاز
كبرت في بيت شاعري وجميل وهادئ، يختلف عن بيوت العوائل في الأردن، حيث عملت أمي كإحدى النساء في صفوف الشرطة النسائية في أواخر الثمانينيات من القرن الماضي، وعانت من أقسى أنواع العنف العائلي نتيجة اضطهادها ووصفها بصفات شنيعة من العائلة الكبيرة التي تنتمي لها، نتيجة انضمامها آنذاك لصفوف الأمن العام والشرطة النسائية، فتزوجت أمي من معلم يملك من الشاعرية والأدب ما جعله يورّثنا من مائه عذوبة الشعر والإبداع.
حليب الغواية
في الليلة التي لحقت حفل توقيع كتابي الشعري "حليب الغواية"، الذي كتبت فيه عن نبوءة أبي الذي ارتشف الكتاب مرة واحدة وهو يقرأ لأمي منه مرة، ليقولا معاً: "خايفين عليك يا رنيم من الحياة. أنت كسرتي تابوهات المجتمع بكل قوة وشجاعة". أتذكر بأن أبي وضع كتبي تحت السرير وقال: أبدعت.
لن أحكم إلا نفسي وسأعلّم الجميع أن يفعل ذلك، صحيح أن وحدة الطريق متعبة لكنها أقل وطأة عليك من ثقل سجن عادات المجتمع والقبيلة، عندما تشعر بأن هذا الهواء لك، هذا الفضاء لك، وهذه البقعة من الأرض لك، أجمل من ثقل القيود. أن تحلق نحو ذاتك الخاصة.
لكن الصفعة الأولى كانت عندما عملت في أول وظيفة بعد تخرجي من الجامعة، وفي أحد الصباحات، أي بعد فترة وجيزة قد تعرفت خلالها على العاملين، وتبادلنا وسائل الاتصال، استيقظت على رسائل طويلة وروابط لمنشورات سابقة لي في مجموعة العمل على واتساب، تساءلت حينها إن كنت قد صحوت أو ما زلت في كابوس، لكنني قد صحوت ووجدت بأن كابوس القبيلة والعيب والعادات أكثر رعباً من كوابيس النوم. مديرتي الصيدلانية العظيمة طردتني من العمل بعد قراءتها ومضة صغيرة على حسابي في فيسبوك، تركتها قبل أن أنام: "فيض في البانيو، يَفوح جسد الصبية طعم الغبار".
كان ردّي على الموقف بطريقة مغايرة، حيث أرسلت لها عدة نصوص أخرى وقلت لها: "هذه طلقة في وجهك ووجه العادات والتقاليد يا عزيزتي".
أليست المومس نتاج مجتمع الذكور؟ عليه أن يرى نتيجة أفعاله. فانشغلت منذ اليوم الأول لي في غابة الشعر المليئة بالألغام أن أتنقل بين المحرمات وأفصح عنها وأكتب بتجرّد محض للنقمة... مجاز
كتبت ولا أخاف من إظهار فضيحة كتاباتي عن حليب الغواية ونشوة الذكرى، وعن لذة النشوة، وعن الشامة التي على ظهري ولم يقبّلها أحد، وعن نعش اللذة وعن جوع نهود العاهرات للأمومة، لينهال عليَّ الجوعى من الرجال وكأنني تركت عبارة صريحة وواضحة جداً لممارسة الجنس معهم،ن تحوّل صندوق الرسائل لوعاء مرعب، بدءاً من رسائل التهديد والقتل لأنني تجرّأت على العادات والتقاليد، حتى صور الأعضاء التناسلية وكأنها مدعاة للفخر، ومنهم من يقول تعالي لحضني.
"أكتب الشعر ممدّدة على سرير الوحدة
أكتب حاجتي لحضن
حاجة الثمار للماء
حاجتي لأن يثقل جسدي شيء ما"
صوتي ضمير الكثرة، وصوتي جهور للخوف الذي قال الحقيقة بصوت إنسان لا يخاف. أريد أن أوجه العالم والبشر والأجيال نحو حقيقة الإنسان. أنا إنسان وهويتي هي التي خرجت من طريق القطيع وأخذت مسارها الخاص، فطريقي لا يشبه طريق أحد، سأتلو رسالتي وأعلم ما لدي وأطلق كل روح نحو حريتها.
المومس صناعة ذكورية
"تحت اللحاف
أتفقد جسدي العاري المتعفن هجراً،
وأتساءل: من أين تشترى الأرواح؟"
وماذا لو دنّسنا "طهر" القصيدة بدماء الدورة الشهرية ورائحة حليب امرأة نفساء وشبق عاهرة... مجاز
جئت في حالة خنوع وتسليم بما هو كائن، ورغم حالة القنوط ووجود القمع والرقيب، إلا أنني أصرّيتُ على التمرّد وعلى أن أطلق هذه الصرخة في مجتمع الذكور. فحالة التمرّد لا تقتصر على الحديث عن نفسي، وعن الذات فحسب، بل تتعدّى إلى (أحقر النساء بنظر المجتمع/ المومس)، فأصرّيت على مواجهة المجتمع الذكوري بالمومس، التي أقدّمها كضحية تجلس في ليلة عيد الحب وحيدة، ويوم عيد الأم لا يقبّل يدها أحد، لن تكون أماً ولن تقع الجنة تحت أقدامها.
"بائعات الهوى في الصباح
أسمى أمانيهن:
صباح الخير"
كل ما أريده أن يرى الرجل نفسه فيها، أليست المومس نتاج مجتمع الذكور؟ عليه أن يرى نتيجة أفعاله. فانشغلت منذ اليوم الأول لي في غابة الشعر المليئة بالألغام أن أتنقل بين المحرمات وأفصح عنها وأكتب بتجرّد محض للنقمة، التمرّد لا التردد هو طريقي لأن أخرج عن القطيع، لأن أخرج عن المألوف، لأن أزحف إن قصوا أجنحتي، لأن أهرب من سجن الغباء والموروثات غير المدروسة التي نرثها كعقد في أعناقنا.
عقدة سندريلا
لا أملك عقدة سندريلا التي تنتظر فيها الفتيات الفارس ليحقق أحلامهن، لكن أعترف أن عقدة الذكورة تثقل كاهلي، فما قدمته من تمرّد كان من المفترض أن يؤثر إيجابيّاً على الآخرين (الذكور) لكنهم في سبات، وهذا ما استفزّني كشاعرة اختارت رسالتها الشعرية، ما جعل بعض القراء والذئاب الوحوش البشرية الجائعة للجنس تبدأ بالترصّد لي ولنصوصي، فهم لا يبحثون عن الفكرة بل يترصدون ويجترّون الجسد/ الشهوة. يفتحون أفواههم فقط لذكري عباراتٍ خادشة للمجتمع، كالدورة الشهرية أو منديل البكارة أو نص لنهد مبتور اغتالته شهوة سرطان الثدي، وينهالون مستائين بالعبارات التي تعيب تربيتي كامرأة، وتعاتبني لأنني سأخرب عقل بنات جيلي بأفكاري الفاضحة.
نعم، تمنيت في بعض نصوصي والومضات التي وضعني القراء إثرها تحت لواء التسويات، تمنيت لو كان الإله امرأة،لما خلقت الموت ولا الحرب ولا الجوع، لكانت أنصفت النساء. تمنيت لو أعاد الإله صياغة القصص بما ينصف النساء على وجه العموم. لا أرى بأنها كانت ستترك رجلاً قاسياً.
"يشهد الدم
كل شهر
قصة وحدتي
لا داعي
أن أذكر نفسي بذلك"
"السرطان ذئب بأنياب حادة
يغتال كل مرة جمال امرأة
ويصهل كلما تعرت امرأة جميلة بنهود طيبة"
تابوه الدين
في جلسة مع صديقات لي، عبرت إحداهن عن استغرابها لما أكتبه وقالت لي: "ابوكي عندك على فيسبوك؟" وأخرى ردّدت: "مين بدو يتزوجك يا هبلة، انحرق كرتك. الشباب بدهم بنت مغمضة عيونها مش بتجاكر وبتطلب وبدها تحرّر القدس"، وأكملت: "لا يكون بدك تحرّري القدس بالشعر إللي بتكتبيه؟".
تمنيت لو كان الإله امرأة، لما خلقت الموت ولا الحرب ولا الجوع، لكانت أنصفت النساء. تمنيت لو أعاد الإله صياغة القصص بما ينصف النساء على وجه العموم. لا أرى بأنها كانت ستترك رجلاً قاسياً... مجاز
ودوماً لن أقول إن العصفور غادر القفص لأن صاحبه أطلق سراحه، بل سأقول قد كسر باب القفص ليغادر نحو الحرية، مع إصابات طفيفة ستشفى، وتساءلت: لِمَ لم يُخلق آدم من ضلع حواء وليس العكس؟
"هذه قذارتي الشعر
لا تقلدوه
وأنتم على طهر"
قالت: لا/ لماذا؟ لأنك امرأة
نجحت القبيلة في تربيتنا
قالت للحب لا
للأمل لا
للتعليم لا
للقوة لا
للصمود لا
لكن وحدها أوامر الرجال نعم
نجحت القبيلة في خداعنا
تدربنا على الموت على قيد الحياة
والسكوت في حضرة الآهات
لا الوجع له صوت
ولا الفرح له ضحكة
وعورة النساء أصواتهن
وأنفاسهن
وأجسادهن
علمتنا القبيلة كل هذا وعلمتني أمي ضد كل ما ذُكر
حتى أصبحت بكل هذا النضوج
شاعرة"
شعر ولذة إيروتيكية
لمَ الخوف من أن يتحول الشعر إلى رحلة شهوانية إيروتيكية ترويه المرأة الشاعرة كما يرويه الرجل، وماذا لو دنّسنا "طهر" القصيدة بدماء الدورة الشهرية ورائحة حليب امرأة نفساء وشبق عاهرة، لمَ تمّ تأطير الشعر في وظيفة تربوية يرى الجميع أن الخروج عن مألوفه مصيبة مروعة، ولمَ يعدّ الجنس مصيبةً، ولمَ تعدّ دورتنا الشهرية حدثاً لا يجب الإفصاح عنه وفعلاً خادشاً للحياء، علينا أن نعاني منه بصمت وأن نبكي بعيداً في عتم السر، ولمَ عليَّ أن أخبئ معاناتي وكأنها خطيئة؟
تتصارع المجتمعات العربية مع ذاتها لأنها لا تؤمن بتنوع الأفكار فتعيش داخل عقل القبيلة أو العشيرة، ويعدّ المساس بالعادات والتقاليد السائدة تعدياً على القيم الاجتماعية، لا تحليلاً ونقداً ومحاولة تطوير.
فيعيش البشر وتتكاثر القبائل على الوهم الجماعي، فلا حقيقة فردية داخل هذه الجماعات "القبائل"، فمحاولة أي شخص للخروج عن الموروثات قد توصله إلى محاكمات طويلة نتيجة ما فعل، فالجماعات دوماً تحارب الاختلاف كذنب لا غفران له، وتعدّ كلَّ مَن فكّر خارج نطاق المعتاد مجرماً يعاقب بالتهميش والإقصاء.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...