شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
بورتريه خفيف لامرأتين تغرقان بصمت

بورتريه خفيف لامرأتين تغرقان بصمت

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مجاز نحن والنساء

السبت 24 يونيو 202311:48 ص

الخائف


الانعكاس، كل شيء يكمن في الانعكاس.

حينما تلاقيت مع نفسي على سطح المياة، أدركت أنني نقطة في بحر، والأمواج تتلاطم في رأسي، تجذبني... تدفعني... لكنها أبداً لا تقذفني على الشاطئ، البرّ بعيد جداً  عني ، والقلق يباغتني ألّا أصل، فأحرّك ذراعي وساقي في كل اتجاه، مجنونة تصارع البحر. تمرين أمارسه كل يوم، لكني أبقى في مكاني دون حراك. يبدو للكل بأنني ماهرة، أسبح في هدوء، لكني في الحقيقة أغرق بصوت مكتوم.

هبة... بحر هائج

" لماذا لم أتعلّم السباحة أبداً"، فكرتُ لحظتها، ثم استندتُ على النافذة منتظره إياه أن ينتهي من تفحص كاميرته التي اشتراها للتو، لكن الفكرة تردّدت في عقلي ثانية: "علينا أن ننفصل، فماذا تبقى لدينا لنحاول من أجله مجدداً؟ لا شيء".

كل الأشياء ترحل تاركة خلفها ندوباً لا تلتئم، كجرح أمي الذي طبع علامته فوق بطنها، أخبرتني أن الولادة كانت متعثرة –ولادتي بالطبع- واضطروا للجوء إلى المشرط لحل أزمتي، واستطاعوا حينها أن يجذبوني من الظلام إلى النور.

لكنهم كعادتهم، كانوا يكذبون، فلم أر النور إلا مرات قليلة وباقي لحظاتي أقبع في دائرة من الظلام لا تنفرج، على عكسها، أمي المُلقبة بـ "السيدة"، مصطلح يعني القوية، المتحمّلة، كانت الدنيا تتهاوى من حولها وهي تصحو مع كل صباح لتبني من جديد، تكافح، وتكد، وتزرع، تصنع مفروشات مطرزة بورود ملونة، وردة حمراء، وزرقاء وصفراء، إلا اللون الرمادي، لم تحبه أبداً، ودوماً كانت تتخطاه حينما تبتاع ألوان الخيوط، ثم تردد قائلة: "إنه لون اليأس"، وكم حاوطها ذلك اللون مرات عديدة لكنه لم يحكم قبضته عليها أبداً.

عليّ أن أبحث عن ملامحي، أين تركتها؟ أعلم أن الفوضى أولي صفاتي، لكني بحثتُ جيداً في زوايا جسدي ولم أجدها، ربما تركتها في مكان آخر، تحت الأغطية، داخل الأدراج، أو أخفيتها في ظلام الدولاب أو في جيوب سترتي المفضلة... مجاز

كانت تنهض ثانية وتحاربه بلونها المفضّل، الأخضر، كان سلاحها الأول، فصنعت منه قماشة تزين شعرها، وعقداً يحمي رقبتها من الاختناق، ثم قرّرت أن تحاوطنا به، في الشرفة وأسوار النوافذ وأركان البيت. رائحة النعناع والريحان والزعفران والياسمين، كانوا دروعنا التي لم تخذلنا، اختلطوا سوية وتتخللوا أنفي كروح طيبة، وحتى الصبار لم تتخلى عنه، فهو يشبهها، يقاوم من أجل الحياة، يتحمل أيام طوال دون أن يرتوي، وإذ امتدت يد تجبره على الانحناء، لا ينكسر بسهولة. وكم ردّدت على أذني كلماتها: "ربما لن نصل، لكن يكفي أن نتحمل مشقة الطريق لنهايته. واحذري، كل الطرق الجانبية لن تهديكِ إلى البر". هكذا كانت، لم تتهاون لحظة في حقها أن تعيش، وربما هذا هو السبب في عدم كوني "سيدة" مثلها. وبالتالي ذلك سبب كاف في أنه لم يعد يحبني، دائماً أتلوّن بألوان باهتة، تلتف حولي حتى تخفيني، تمحو ملامحي.

ربما لم يعد يعرفني. هكذا تتمحور الفكرة وتتردّد في عقلي، كيف له أن يحب امرأة ليست "سيدة" بما يكفي، وفوق ذلك بدون ملامح؟ إذن عليّ أن أبحث عن ملامحي، أين تركتها؟ أعلم أن الفوضى أولي صفاتي، لكني بحثتُ جيداً في زوايا جسدي ولم أجدها، ربما تركتها في مكان آخر، تحت الأغطية، داخل الأدراج، أو أخفيتها في ظلام الدولاب أو في جيوب سترتي المفضلة.

ولكن مهلاً. كيف لي أن أبحث عن نفسي وسط أشياء صُنعت من جماد؟ فكرتُ لحظتها: أهذا يعني أنني جماد؟ فمنذ وقت طويل وأنا أشعر بثقل يكتم على صدري، وكنت في صغري أجمع أحجار الطريق كهواية أمارسها، ولكن من المحتمل أنني أخطأت وجمعتهم بداخلي، فتحجّر قلبي. يراودني الندم دوماً، يا ليتني سألت جدتي ماذا فعلت حينما مات ابنها الأول؟ هل تصالحت مع الموت أم رفضت الحياة؟ لكني كنت أراها سيدة عجوز لا تغلق باب بيتها أبداً، وفي الفجر تخبز خبزاً من النوع "الشمسي"، يشبهها بابتسامتها التي تنير وجهها، اعتادت أن توزعه على ساكني الأرصفه، فتبتهج وجوههم من أثر طعمه الطيب في أفواههم، كطعم قبلتها التي طالما طبعتها فوق جبيني، وهي تردد: "الله جميل. وكل هباته طيبة"، ولهذا أسمتني أمي "هبة"، ولكني هبة لمن؟ لنفسي؟ له؟ لا أعرف.

الأفكار دائماً تباغتني، تحاوط رأسي، تتجاذب وتتعارك وتعلو أصواتها، فأتراجع تاركة لهم ساحة المعركة، وأنا أتساءل: أي منهم سيقتلني اليوم؟ أغلق عيني وأحاول جاهدة أن أتنفّس، فأنتبه إلى يده التي وضعها فوق كتفي وهو يسألني: " أين أنت. غارقة في أفكارك كالعادة. انظري لي. صورة واحدة لا أكثر"،  أنظر له سريعاً فيلتقط الصورة، ثم أرى شفاهه تتحرك بكلمة "أحبك"، لكن تراودني الفكرة للمرة المليون: "أتراه يحبني حقاً؟".

جميلة... أمواج متردّدة

"وكيف لي أن أعرفك؟ هل عليّ أن أبحث عن امرأة جميلة تجلس في زاوية المقهى؟".

تلك كانت آخر كلمات قالها صوته الحاد عبر سماعة الهاتف، ومن يومها وأنا أنتظر في المقهى، أراقب شرفته عبر الزجاج، أترقّب مروره صدفة، أتمنى مجيئه ليجلس في أي زاوية وتدور عينه بحثاً عنى. لعل صمتي وقتها هو السبب، هروبي حينما سمعت كلمة "جميلة". لم أعرف أبداً إذا كنت جميلة أم لا؟ ربما ما عرفته حقاً هو ما أخبروني به "أعني. أنت نحيفة أكثر من اللازم": قالتها ابنة عمى ونحن نعبر الطريق. توقفت قلقة بضع لحظات ثم لحقتُ بها، وأذكر ذلك اليوم حينما أكملت عامي الواحد والعشرين وأخذت أتأمل لون شعري في المرآة الذي صبغته للتو.

ربما أنا أشبه عمّي فعلاً، فحينما سألتني: "هل أنت جميلة؟"، شعرت بالخوف أن أبكي أمامك، فضلتُ الصمت وغلق الهاتف، لن أقترب أكثر. خوفاً من أن تبتعد. سأختفي في زاوية المقهى وأنتظر... مجاز

"لون شعرك يجعلك غريبة الأطوار. ماذا فعلت؟": قالها أبى وهو يمر خارج غرفتي، يلتهم تفاحة في نهم، ثم يرحل غير مبال على الإطلاق، أو ربما حين عدت من المدرسة منهارة من البكاء، وأخبرت أمي أن أحد الطلاب نظر لي طويلاً، وبعدها مال على صديقه وهمس له في أذنه ثم عاودا النظر إليّ وأخذا يضحكان بشدة.

شعرت أننى وحيدة وخائفة، وفي الليل سمعت أمى تخبر أبى: "لعلها ورثت ذلك الخوف من عمّها، هل تذكر بكاءه وهو شاب؟"، وأخذت تضحك وأبى يعنّفها. فهمت لحظتها السبب وراء عدم بكاء عمي حينما توفي ابنه ذو الخمس سنوات، كان وجهه جامداً، وعيناه زائغتين، وجسده ثابتاً، لكنه في نهاية اليوم أخذ يتحرّك بخطوات بطيئة حتى وصل غرفته، ثم أغلقها خلفه بالمفتاح، تسللتُ خلفه بحذر، ووضعت عينى في جزء الزجاج المكسور من الباب، لأرى عمي يضمّ جسده فوق السرير ويبكي مثل الأطفال.

ربما أنا أشبه عمّي فعلاً، فحينما سألتني: "هل أنت جميلة؟"، شعرت بالخوف أن أبكي أمامك، فضلتُ الصمت وغلق الهاتف، لن أقترب أكثر. خوفاً من أن تبتعد. سأختفي في زاوية المقهى وأنتظر.

*****

وهكذا اعتدت الغرق. كل شيء يعود لانعكاس صورتي داخلي، أتوه وسط البحر وتتلاعب الأفكار بعقلي. أغطس وأطفو. أختنق وأتنفس. أمتلك مهارات خاصة، وأنتقل من بحر إلى آخر، تتغير أسمائي وتتبدل ملامحي، لكني في النهاية، أحلم بيوم جديد، أعلو فيه فوق الأمواج وأنتصر ولو مرة واحدة... على نفسي.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

ثورتنا على الموروث القديم

الإعلام التقليديّ محكومٌ بالعادات الرثّة والأعراف الاجتماعيّة القامعة للحريّات، لكنّ اطمئنّ/ ي، فنحن في رصيف22 نقف مع كلّ إنسانٍ حتى يتمتع بحقوقه كاملةً.

Website by WhiteBeard
Popup Image