توهُّم القدرة على تطويع المستقبل، غالباً ما يرتبط بشخصية نرجسية ترفض أن تأتي الرياح بما لا تشتهي، ليورثها خلاف ذلك تخبطاً وعنفاً في أدائها، وهو ما خالط سلوك الزعيم المبشّر بالوحدة العربية، جمال عبد الناصر، إذ انشغل بالاشتباك مع الحكام العرب أكثر مما عُني بتحقيق حلم الوحدة، الذي لم يتبقَّ منه إلا الاسم: الجمهورية العربية المتحدة.
كانت خصوماته مع ملوك الدول العربية ورؤسائها وقياداتها تكاد تكون في عنفها وتطرفها خصومات شخصيةً، فلم يسلم أيّ من خصومه السياسيين من الشتم والسب في خطبه، ومن ذلك وصفه للملك سعود بن عبد العزيز بـ"ملك الجواري والحريم"، والملك حسين بن طلال بـ"الملك الصغير"، "سليل الخيانة"، "الملك الفاجر"، و"عاهر الأردن". ومن ذلك أيضاً دعمه لانقلاب فاشل على الرئيس العراقي عبد الكريم قاسم (آذار/ مارس 1959)، برغم أن الرجل كان بعيداً تماماً عن أي اتهامات كتلك التي وجهها إلى الملكين حسين وسعود وإلى الأنظمة الملكية بصفة عامة، كالرجعية وخدمة الإمبريالية.
قضى قاسم على النفوذ البريطاني في بلاده، وانسحب من حلف بغداد وأقرّ سياسة الحياد وقدّم المساعدات لحركات التحرر في العالم العربي، وعقد علاقات قويةً مع الاتحاد السوفياتي، لكن كل ذلك لم يعفِه من اتهام عبد الناصر له بخدمة المشروع الإمبريالي الصهيوني، بعدما رفض الرجل الخضوع لوصاية زعيم العروبة.
في ظل تلك العداوات التي انغمس فيها عبد الناصر على امتداد الوطن العربي، لم يتقدّم ولو درجة واحدة في اتجاه المهمتين الرئيسيتين اللتين بايعته الشعوب العربية من أجلهما زعيماً، فوأدت سياساته حلم الوحدة في سوريا، زيادةً على ما أحدثه نهجه العنيف في التصدي لمخالفيه، من فُرقة، وامتد فشله إلى المهمة الثانية وهي تحرير فلسطين. ففي ظل حكمه تلقّى الجيش المصري المنوطة به هذه المهمة الهزيمة الأقسى في تاريخه الحديث، لتنتزع إسرائيل مزيداً من الأرض؛ القدس الشرقية والضفة الغربية وغزة وشبه جزيرة سيناء والجولان.
فداحة الهزيمة لم تردع الجهاز الدعائي الناصري عن أن يحاول إبعاد مسؤولية زعيمه عنها، وذلك لأنه لم تكن لديه معرفة بوضع القوات المسلحة، وقد اعتمد على ما كان يقدّمه المشير عبد الحكيم عامر، له من معلومات تؤكد جاهزية الجيش، على الأقل لمعركة دفاعية، إلى جانب تضخيم عنصر المؤامرة إلى أوسع مدى، وبذلك يصبح مقبولاً لدى البعض جنوحه إلى التصعيد مع إسرائيل إلى حد لم يكن ليتيح أي خيار آخر غير الحرب، وبذلك أيضاً يتحمل المشير القسط الأكبر من المسؤولية، وربما هذا كان السبب الرئيسي وراء احتفاظ عبد الناصر بعامر، برغم كل الإخفاقات التي نُسبت إليه، إذ كان الأخير يتحمّلها عن عبد الناصر.
فداحة الهزيمة لم تردع الجهاز الدعائي الناصري عن أن يحاول إبعاد مسؤولية زعيمه عنها، وسردية اعتماده على ما كان يقدّمه المشير عبد الحكيم عامر عن وضع القوات المسلّحة، إلى جانب تضخيم عنصر المؤامرة
أسند ناصر دوماً إلى عامر مهمات كريهةً، لا تمتّ إلى اختصاص الجيش بصلة، ويمكن إدراجها ضمن ما سيُعرف بالـDirty work، مثل رئاسة لجان تصفية الإقطاع وتحديد الملكية والإشراف على الجمارك، كذلك الإشراف على التحقيق القضائي في قضية الإخوان عام 1965، وما اتصل بهذه المهمات من مشاعر الكراهية والسخط، خاصةً أن الكثير منها ارتبط في تنفيذه باستخدام العنف والاعتقال والتعذيب، وسمعة السجن الحربي ومديره حمزة البسيوني.
هناك أيضاً خيبة الانفصال عن سوريا التي أُلصقت بالمشير، برغم أن الجزء الأكبر من مسؤولية الانفصال يقع على ناصر وسياساته، لكن المشير المعروف باندفاعه لم يكن يوماً بحذر رجلٍ مثل عبد اللطيف البغدادي، عضو مجلس القيادة الذي رفض عرضاً من جمال بأن يكون حاكماً على سوريا، وتنبّأ بفشل أي حاكم مصري يتولّى المسؤولية في الفترة الأولى، لأنه يتقدّم إلى المجهول.
بالإضافة إلى ذلك، يمكن للقارئ إذا شاء أن يعتمد، في إطار هذه الفرضية، اختيار عبد الناصر لأجهزته الأمنية سيئة السمعة قيادات من بين رجال المشير، إذ عيّن مديرَي مكتب عامر، صلاح نصر وعباس رضوان، الأول رئيساً لجهاز المخابرات، والثاني وزيراً للداخلية.
مذكرات محمد فوزي ودلالاتها
في مسألة الجيش وحرب 67، كان المشير هو قائد الجيش الذي امتلك زمام الأمور، لكن معرفة عبد الناصر بحقيقة أوضاع القوات المسلحة ربما فاقت ما كان يعلمه عامر. وبقدر غرابة هذا الادّعاء بقدر ما يجد أسانيد قويةً في شخص رئيس أركان الجيش قبل حرب 67 ووزير الحربية بعدها، الفريق محمد فوزي، وما سجله في مذكراته، التي ينبهنا من خلالها إلى أنه اعتمد في كتابتها على مدوّنته اليومية.
كان معروفاً أن فوزي رجل عبد الناصر داخل الجيش، وهو أمر لا يداريه فوزي الذي سجّل في مذكراته أن تعيينه في منصب رئيس الأركان لم يكن "تخطيطاً من القيادة العسكرية، بقدر ما كان ترضيةً لرغبة عبد الناصر" (محمد فوزي، حرب الثلاث سنوات 1967ـ1970، ص42). ويؤكد القائد العسكري في موضع آخر أنه صبر على سحب اختصاصاته وسلطاته من قبل المشير، "لثقة وأمل الرئيس عبد الناصر" في شخصه.
وعليه، في حين كانت معلومات عبد الناصر عن الجيش وأوضاعه مصدرها عسكري رفيع مثل محمد فوزي تولى مهمة إعادة بناء الجيش بعد الهزيمة وقاد حرب الاستنزاف، كانت معرفة عامر مصدرها قياداته المسؤولة عن الهزيمة، والتي حرصت على إمداده بتقارير مضللة مثلما بيّن فوزي في يومياته.
في هذه المذكرات، يرصد فوزي وضع الجيش قبل الحرب، ويقول إنه كان أقرب إلى "قوات أمن للثورة"، منه إلى جيش احترافي، وتأكيداً لهذا المعنى، يبيّن القائد العسكري أن المشير واستجابةً لنصائح شمس بدران و"أصدقائه من ضباط القوات المسلحة"، أصدر أوامره بتسليح وحدات الصاعقة بأسلحة ثقيلة "وهي أبعد ما تكون عن تنظيمها الأصلي، بل غير مطلوبة في مهامها القتالية، ثم أعلن بعد ذلك أن هذا التسليح لأغراض الأمن..." (فوزي، ص42).
أمر المشير كذلك خلال تلك الفترة بـ"تمركز وحدة مدفعية ميدان مضادة للدبابات ثقيلة العيار في مكان ما في ألماظة، خارج تشكيلها الأم، وتعديل أسلوب السيطرة عليها لتكون تحت القيادة المباشرة لمدير المدفعية، لأغراض الأمن أيضاً، وضد احتمال قيام وحدات دبابات من معسكر قريب بأعمال مضادة لنظام الحكم، وهكذا تدنّى مفهوم القوات المسلحة نتيجةً لهذه الظروف والحوادث إلى مفهوم قوات مسلحة لأمن الثورة، أكثر منها قوات مسلحة تجيد القتال الحديث قيادةً وتنظيماً وتدريباً، وحلّ أمن الثورة مكان رفع القدرة والكفاءة القتالية" (فوزي، ص42).
ويبيّن فوزي ما هو أخطر، إذ يقول: "لم يتم تدريب أي لواء من الجيش في سنوات ما قبل 1967، إذ لم تنفَّذ الخطط التدريبية التي كان يضعها بسبب طلب قادة الألوية المقربين من المشير عدم إتمام خطة التدريب حتى لا يحاسَبوا أو يعاقَبوا، لتخوّفهم من ظهور نتائج سيئة"، ويستكمل أن تقارير ضرب النار و"هي تدريبات غاية في الأهمية، وتُرتب عليها القيادة العليا قياساً معيناً لدقة الإصابة، كثيراً ما كانت تأتي غير صحيحة، ومدوّن بها بيانات زائفة، وهي أخطر ما وصل إليه حال التدريب القتالي الفردي والجماعي في القوات المسلحة" (فوزي، ص45).
بلغت نسبة الطيارين إلى الطائرات لدى العدو 3 طيارين لكل طائرة، أما النسبة لدى سلاح الجو المصري فبلغت 0.8 طيار لكل طائرة
تأكيداً على تلك الحال المزرية التي بلغتها قوات الجيش المصري، يسجّل فوزي ملاحظات من قبيل أنه "لم تطلَق طلقة واحدة من أي دبابة داخل تشكيلات المشاة عن العام التدريبي 1965-1966" (فوزي، ص46)، كما يذكر رئيس الأركان عاملاً رآه "وحده كفيلاً بقيد الدولة في عدم قبول أي صراع مسلح مع إسرائيل كلياً، وهو أنه بينما بلغت نسبة الطيارين إلى الطائرات لدى العدو 3 طيارين لكل طائرة، فإن النسبة لدينا بلغت 0.8 طيار لكل طائرة" (فوزي، ص49)، وهذا كان سبباً "في أن الطائرات المقاتلة الحديثة كانت توضَع فور وصولها في المخازن ولمدة كبيرة قبل أن تُستخدَم، مثلما حدث في بقاء سرب طائرات سوخوي 7 كاملاً في صناديقه، فلم تُفتح، ولم تُركَب، ولم تشترك في قتال معركة حزيران/ يونيو 1967" (فوزي، ص49).
كانت تلك الصورة محجوبةً عن أعين الجماهير التي لم ترَ غير استعراضات عسكرية مهيبة مع كل ذكرى للثورة، استهدفت "السيطرة على الشعب المصري"، وإبراز القوات المسلحة "على أنها معجزة من ناحية العدد والتسليح، بينما كان التدريب الحقيقي على استخدام أسلحة القتال، والتدريب المشترك على مستوى التشكيلات الكبرى مظهرياً، كما أن القوات المسلحة حتى عام 1967 لم تمارس عملياً أسلوب وإدارة العمليات المشتركة وأسلوب تنظيم التعاون بين التشكيلات المختلفة أو الأسلحة المعاونة، ولكنه كان يُدرَس نظرياً في المعاهد العسكرية العليا فقط" (فوزي، ص34).
صورة الجيش... وحقيقته
تكبّدت الدولة في سبيل هذه "المظهرية"، ثروات طائلةً امتدت إلى الإيهام بقدرة الجيش على صناعة أسلحة مثل الصواريخ والطائرات النفاثة، وكان يجري استعراض صواريخ القاهر والظافر والرائد... إلخ، التي أعلن عبد الناصر أن مداها يبلغ مئات الكيلومترات، وأنها قادرة على بلوغ تل أبيب، ليتباهى دوماً بأن الجيش المصري هو الأقوى بين جيوش منطقة الشرق الأوسط.
كانت هذه الصواريخ مصدراً للتساؤل بعد هزيمة 67: لماذا لم يكن لها أي دور في الحرب؟ لكن لم يحصل أحد على إجابة، ليكشف لنا حقيقتها، بعد عقود، رئيس أركان الجيش المصري (خلال حرب تشرين الأول/ أكتوبر)، الفريق سعد الدين الشاذلي، إذ سجل في شهادته أن هذه الصواريخ كانت أقرب إلى "مجانيق العصور الوسطى"، وأن الدولة تكبدت مئات الملايين التي أنفقتها على إقامة مصانع لإنتاج تلك الصواريخ أو "المجانيق"، ومثلما استفاد النظام من هذه الاستعراضات في خداع شعبه، تدعيماً لحكمه، استفادت إسرائيل منها في ابتزاز مزيد من المعونات وصفقات السلاح من الولايات المتحدة.
تبقى زاوية مهمة بخصوص حالة الجيش المصري، وهي تلك المتعلقة بحرب اليمن، والتي كانت أحد أسباب الهزيمة. ينفي الفريق فوزي ما كان يُشاع في دوائر السلطة وجهازها الدعائي من أن تواجد تلك القوات في اليمن جاء بمثابة تدريب وتأهيل لها على خوض المعركة الرئيسية ضد العدو الإسرائيلي، فخلافاً للتقارير الرسمية للقادة العسكريين، لم يخُض الجيش المصري أي معارك في اليمن "إذ إن المعركة الحربية يلزم لها طرفا نزاع أو صراع، بينما ما حدث في اليمن هو صراع من جانب واحد فقط، خصوصاً إذا علمنا أن رجال القبائل المضادين لم يملكوا أي دبابة أو مصفحة أو مدفع ميدان أو طائرة" (فوزي، ص19).
في هذا السياق، يبيّن قائد المنطقة المركزية الشرقية ثم مدير أكاديمية ناصر العسكرية قبل 67، الفريق صلاح الدين الحديدي، في مذكراته، أنه لا يمكن عدّ الاشتباكات المسلحة التي خاضتها القوات المصرية آنذاك في اليمن "عمليات حربيةً بالمعنى المعروف، ولكنها أقرب إلى العمليات البوليسية، فلم يكن العدو الذي تقاتله القوات المصرية جيشاً نظامياً... يتبع في أساليب قتاله أبسط قواعد الحرب، وفي علاقاته أبسط قواعد الانضباط، بل كان شرذمةً من رجال القبائل في ملابس رثة، معظمهم حفاة، ومسلحون أساساً بالبنادق التي استُخدمت في الحرب العالمية الأولى..." (صلاح الدين الحديدي، شاهد على حرب 67، دار الشروق، ص42).
انعكست هذه الأوضاع على الجيش بصورة مدمرة، إذ ارتبط الأمر بتغيير في طبيعة القوات المسلحة، التي عملت في ظروف هي وفق تعبير الحديدي "قاتلة لجيش حديث يعدّ نفسه أساساً لقتال الجيش الإسرائيلي العصري في تسليحه وفي تفكيره وأسلوب قتاله" (الحديدي، ص49).
كانت تلك العوامل سبباً في أن يطلب قائد القوات العسكرية المتواجدة في اليمن، الفريق أنور القاضي (بدءاً من تشرين الأول/ أكتوبر 1962 حتى تشرين الثاني/ نوفمير 1963)، من عبد الناصر في أيار/ مايو 1963، حسب ما يذكر المشير عبد الغني الجمسي في مذكراته، سحب القوات من هذا "الفخ" بعدما بيّن له حقيقة الوضع، لكن ناصر رفض بحجة أن هذا الانسحاب سيؤثر بالسلب على الثورة اليمنية، فألحّ عليه القاضي بضرورة التفاهم مع السعودية ليعده عبد الناصر بتسوية الأمر مع الملك سعود قبل نهاية عام 1963، لكن القوات ظلت هناك حتى وقوع الهزيمة (عبد الغني الجمسي، مذكرات الجمسي... حرب أكتوبر 1973، مكتبة الأسرة، 2001، ص31).
حال القوات المتواجدة في اليمن هذه، دفعت الفريق فوزي بصفته رئيس أركان القوات المسلحة في عام 1966، إلى كتابة دراسة تتضمن تحليلاً إستراتيجياً عسكرياً حملت خلاصته توصيةً واضحةً: لا ينبغي التورط مع إسرائيل في أي عمليات عسكرية ما دامت قواتنا منغمسةً بهذا الحجم في اليمن.
خمس سنوات قضاها الجيش المصري في اليمن، كان لها أبلغ الأثر على نتائج حرب 67، فقد تسببت هذه الفترة الطويلة في أن جعلت القوات "غير مُعَدّة إطلاقاً للحرب الحديثة، ناقصة التدريب، منخفضة المستوى، كفاءتها القتالية ضعيفة جداً، فاقدة للانضباط العسكري، ومعداتها التي استُخدمت في اليمن غير مصانة"، وبالطبع فهذا الوضع انسحب على الجيش بأكمله.
وفي ظل غياب تلك القوات الضخمة عن أرض المعركة الرئيسية (يسجّل فوزي أن تعدادها بلغ 70 ألفاً حتى 1964، أي ما يقرب من ثلث الجيش)، حشدت القيادة العسكرية على عجل قوات الاحتياط، قبيل الحرب، ويذكر رئيس الأركان أن هذه القوة لم تتلقَّ أي تدريب عسكري منذ عام 1956، كما "لم يوضع أي فرد سبق له أن عمل في وحدة ما، في نفس المكان الذي كانت له خبرة سابقة فيه".
قيادات القوات المسلحة، وقيادات المناطق والاتجاهات والمحاور، اعتادت ألا تنفذ أمراً ما، إلا إذا شاهدت توقيع المشير شخصياً، فكيف ساهم عبد الناصر في تثبيت هذا الواقع؟
أما عن قيادة الجيش فلم تكن هناك قيادة موحدة، إذ لم تتوفر للقادة مراكز تمكّنهم "من خلال أجهزتها المتخصصة والمختلفة، من تنفيذ ومتابعة توجيهات القائد العام إلى التشكيلات والوحدات الميدانية والإدارية والفنية بالقوات المسلحة" (فوزي، ص41)، ووصل الحال إلى درجة "أن قيادات القوات المسلحة، وقيادات المناطق والاتجاهات والمحاور، اعتادت ألا تنفذ أمراً ما، إلا إذا شاهدت توقيع المشير شخصياً في شؤون العمليات وفي التدريب، أو إمضاء شمس بدران في الشؤون الأخرى لهذه القوات، أما الأوامر والتعليمات التي تصدرها رئاسة الأركان لمختلف فروع القوات المسلحة، فكانت موضع عدم ثقة" (فوزي، ص41).
هذه الصورة كان يعلم بها عبد الناصر، وصنع الجزء الأكبر منها؛ لأسباب عدة، منها انشغال عامر وقياداته بمهام لا تدخل ضمن اختصاص الجيش، إلى جانب مسؤوليته عن قرار إرسال القوات المسلحة إلى اليمن وما نتج عن استمرارها هناك لسنوات طويلة من آثار مدمرة، جعلت القوات المسلحة غير قادرة على الاشتراك في أي معركة مع جيش حديث، وفق ما أفاد القادة العسكريون.
عبد الناصر كان يعلم
برغم كل هذا، ذهب الرجل في تصعيده إلى حدٍّ لم يدع خياراً آخر غير الحرب، وما كان أحد يتصور حتى ممن لم يُلِم بحال الجيش، كما سجّله فوزي، أن يقدم على ذلك، فقد كان مشهد الجنود بـ"الجلاليب" فوق المدرعات، كما رصده مراد غالب، يشي بأننا أمام تظاهرة عسكرية، لا تعبئة عسكرية.
جاءت البداية بعد سلسلة من التهديدات الإسرائيلية بهجوم وشيك على سوريا لإسقاط الحكم فيها، تحت ذريعة سماحها بانطلاق عمليات المقاومة الفلسطينية من الأراضي السورية، وكانت تلك الجبهة لا تكاد المناوشات تهدأ فيها مع الجيش الإسرائيلي، خلافاً لنظيرتها المصرية، المستقرة تماماً بعد الانسحاب الإسرائيلي في عام 1957، وذلك بفضل قوات الطوارئ الدولية.
واكب هذا ورود معلومات مصدرها الاتحاد السوفياتي تفيد بأن هناك حشوداً عسكريةً إسرائيليةً على الجبهة السورية. هنا قررت القيادة المصرية إيفاد رئيس الأركان محمد فوزي إلى سوريا في 14 حزيران/ يونيو، للتحقق من صحة المعلومات التي وردت من كل من دمشق وموسكو، غير أن فوزي لم يجد أي دليل يؤكد حشد إسرائيل لقواتها، بعدما شاهد صوراً فوتوغرافيةً جويةً للجبهة الإسرائيلية خلال يومي 12 و13 حزيران/ يونيو، وعاد فوزي في اليوم التالي إلى القاهرة ليقدّم على الفور تقريره نافياً وجود أي حشود إسرائيلية على الجبهة السورية.
ويذكر رئيس المخابرات الأسبق أمين هويدي، في مذكراته، أنه في التوقيت نفسه الذي سافر فيه فوزي إلى سوريا، التقى برئيس الشعبة الثانية السورية (جهاز المخابرات) عبد الكريم الجندي، خلال رحلة إلى دمشق ضمن وفد رسمي، ليخبره الجندي بأنه لا توجد أي حشود إسرائيلية "بل تساءل في دهشة: لماذا كل هذه الضجة التي تثيرونها في القاهرة؟" (أمين هويدي، أضواء على أسباب نكسة 1967 وعلى حرب الاستنزاف، دار الطليعة، الطبعة الأولى، ص20).
لم تكن مسألة الحشود على الجبهة السورية إذاً هي السبب وراء قرار عبد الناصر سحب قوات الطوارئ الدولية المنتشرة على الحدود المصرية الإسرائيلية، فالطلب المقدَّم إلى الجنرال "ج. أ. ريكي" قائد قوة الطوارئ الدولية، جاء بتاريخ 16 حزيران/ يونيو، أي بعد التأكد من عدم وجود أي حشود إسرائيلية على الجبهة السورية.
يبيّن محمد فوزي أن الرغبة في سحب قوات الطوارئ رغبة قديمة لدى عبد الناصر وعامر معاً؛ بسبب المزايدات المتبادلة مع كل من السعودية والأردن، إذ كانت إذاعتا البلدين تسخران من ناصر، على امتداد سنوات طويلة، بأنه سيحرر فلسطين بالخطب والشعارات بينما هو يختبئ من إسرائيل وراء قوات الطوارئ، وازدادت حدة الهجوم الإعلامي إثر الاعتداء الإسرائيلي على قرية السموع الأردنية آنذاك (تقع في مدينة الخليل) في تشرين الثاني/ نوفمبر 1966، هذا إلى جانب المناوشات المستمرة على الجبهة السورية والتي ازدادت وتيرتها في الفترة نفسها، لهذا أكد فوزي أن سحب القوات الأممية "لم يفارق تفكير كلٍّ من الرئيس جمال عبد الناصر أو المشير عبد الحكيم عامر يوماً ما بعد حدوثه عام 1957" (فوزي، ص56).
أعلن خلال زيارته لإحدى القواعد الجوية بتاريخ 22 أيار/ مايو؛ عن نيته منع السفن الإسرائيلية من المرور في مضيق تيران
سردية النظام
في هذه النقطة، نشر هيكل ما بدا أنه الخطاب الذي وجهه فوزي إلى "ريكي" لسحب قوات الطوارئ، لكن الكاتب الناصري يؤرخ الوثيقة بتاريخ 14 حزيران/ يونيو، خلافاً لما سجله فوزي (وآخرون) في مذكراته، كذلك سجّل هيكل مهمة فوزي خلافاً لما ذكره صاحبها، فكتب أنها جاءت "لإخطار القيادة هناك بما تقرر اتخاذه من إجراءات وللتنسيق العملي إزاء احتمالات تصاعد الموقف"، ثم تجاهل تماماً أي ذكر لتقرير فوزي الذي أفاد بعدم وجود حشود على الجبهة السورية، حتى يحافظ على سردية أن عبد الناصر أخذ قراره دفاعاً عن سوريا، لا بسبب المزايدات مع الحكام العرب.
يتناول هيكل أيضاً القصة الشهيرة حول رسالة التحذير التي بعث بها عاهل الأردن الملك حسين إلى عبد الناصر مع الفريق عبد المنعم رياض، في الأول من أيار/ مايو، وأفادت الرسالة بأن هناك فخّاً تعدّه إسرائيل لمصر وأن سوريا هي الطعم وأن موعد التنفيذ سيكون قريباً، ليؤكد الملك في رسالته أنه برغم كل ما بينه وبين عبد الناصر قرر أن يحذّره؛ لأن النار إذا اشتعلت في المنطقة لا شك ستطال مملكته.
وفق روايته، لم يتح بحسب هيكل، لعبد الناصر الاطّلاع على الرسالة المهمة، بسبب إهمال المشير عامر لها، بعدما بعثها له رياض؛ إلا في يوم 14 أيار/ مايو، وهو اليوم الذي أرّخ به -خلافاً للتاريخ الفعلي (16)- إرسال محمد فوزي خطابه إلى قائد قوات الطوارئ بغرض سحب القوات الأممية، وبذلك لا تكون هناك أي فرصة لأن يراجع عبد الناصر قراره، بينما لو كانت رسالة الملك قد تأخر إطلاع ناصر عليها بالفعل، كما ذكر هيكل حتى يوم 14، فإن الفرصة كانت متاحةً لعبد الناصر لأن يتراجع عن قراره، فخطاب فوزي لم يُكتب إلا في يوم 16 كما سجّل الرجل في مذكراته، وكان تقريره الذي نفى فيه وجود أي حشود على الجبهة السورية يدعم تحذير الملك، لكن ناصر تجاهل التقرير والتحذير معاً.
على الأرجح، اتخذ عبد الناصر قراره حتى يرفع الحرج عن نفسه في مواجهة المزايدات العربية، فلم يكن سحب قوات الطوارئ ليمثّل أي ضغط على إسرائيل بسبب إدراكها الكامل لتفوقها على جيوش دول المواجهة مجتمعةً، وهو المعنى نفسه الذي سجّله وزير خارجية عبد الناصر، محمود رياض، إذ كتب يقول إن القرار جاء "متسرعاً ويفتقد أية قيمة عسكرية ولا يشكل أي ضغط على إسرائيل" (محمود رياض، مذكرات محمود رياض... البحث عن السلام والصراع في الشرق الأوسط، دار المستقبل العربي، الطبعة الثانية، ص47).
واكب طلب سحب قوات الطوارئ رفع درجة استعداد القوات المسلحة إلى درجة الاستعداد الكامل للقتال، لتتحرك التشكيلات العسكرية إلى مواقع تمركزها في سيناء في استعراض عسكري ضخم شمل القاهرة وعدداً من المدن الكبيرة، وكان حديث وسائل الإعلام المحلية والعربية والعالمية.
يأتي بعد ذلك القرار الأخطر، الذي صدر بتاريخ 23 أيار/ مايو، والمتعلق بغلق خليج العقبة في وجه الملاحة الإسرائيلية، في ما يشبه إعلان حرب، وهو ما سجله هيكل خلال مناقشة القرار وقتها في بيت عبد الناصر، من أن غلق الخليج أمام الملاحة الإسرائيلية يرفع نسبة مخاطرة إشعال الحرب إلى 100%، ورجح ذلك كثيرون حينها منهم البغدادي مثلما ذكر في مذكراته.
الغريب أن عبد الناصر لم يكن راغباً في الحرب، حسب ما أظهر للجميع، وذلك خلافاً لعبد الحكيم عامر، ففي حين تلهف الأخير إلى معركة خاطفة تعوضه عن إخفاقاته السابقة (وفق شهادة الفريق محمد فوزي)، وزيّن له هذه الفكرة ما كان يتلقاه من تقارير رجاله الثقاة التي أكدت جاهزية القوات المسلحة؛ كان جمال يعلم تماماً بحقيقة أوضاع الجيش، وأنه ليس مؤهلاً لدخول المعركة، اعتماداً على ما كان يزوّده به رجله رئيس الأركان محمد فوزي، هذا بالطبع إلى جانب غياب ما يقرب من ثلث قوات الجيش في اليمن، والتي رفض ناصر نصيحة الفريق القاضي بضرورة عودتها، وغياب أيضاً ألوية مدرعة أرسلها إلى العراق لتدعيم حكم عبد السلام عارف.
في ظل هذه المقدمات، كان على عبد الناصر أن يخفف من غلوائه وألا يذهب بعيداً في تصعيده، لكنه خلافاً لما كان ينبغي، أعلن خلال زيارته لإحدى القواعد الجوية بتاريخ 22 أيار/ مايو؛ عن نيته منع السفن الإسرائيلية من المرور في مضيق تيران وكذلك السلع الإستراتيجية، بما فيها البترول، حتى لو كانت محملةً على سفن غير إسرائيلية.
ألقى جمال بعدها كلمةً أمام اجتماع لمجلس قادة "العمل العربي"، في 26 أيار/ مايو 1967، أعلن خلالها "أننا سندمّر إسرائيل إذا هي بدأت بالعدوان..." (عبد اللطيف البغدادي، مذكرات عبد اللطيف البغدادي، الجزء الثاني، المكتب المصري الحديث، ص270). وفي مؤتمر صحافي بتاريخ 28 أيار/ مايو، أكد المعنى نفسه، ونبّه البغدادي إلى أن لهجته في هذا المؤتمر كانت أكثر تشدداً، ليبدي ناصر استعداده لملاقاة إسرائيل، موضحاً أنه كان يعدّ نفسه منذ عشر سنوات لهذا اللقاء (البغدادي، ص 271-272)، وحتى قبل يوم من الهجوم الإسرائيلي أي في 4 حزيران/ يونيو، صرّح عبد الناصر لدى الإعلان عن عقد اتفاقية للدفاع المشترك مع العراق "أننا ننتظر المعركة على أحرّ من الجمر".
مثل هذه التصريحات لم تشغل بال القادة الصهاينة، لكنها أثارت ذعر الشعب الإسرائيلي، فقد تكتمت الحكومة على أي معلومات تعكس ميزان القوة الحقيقي، لتغذّي "صوت العرب" إلى جانب إذاعة مصرية أخرى ناطقة بالعبرية، حالة الذعر تلك، حيث كانت تتوعد الإسرائيليين في بياناتها بالفناء والتدمير، واستخدمت إسرائيل كل ذلك للترويج دولياً بأنها مهددة بالفعل، لتخرج، دعماً لها، التظاهرات في العواصم الأوروبية.
القيادة والخلاف والاندفاع نحو المجهول
في ظل تلك الصورة التي تشي بحرب وشيكة، كان لا بد للجانب المصري أن يستطلع موقف الاتحاد السوفياتي، واستدعى هذا سفر وزير الدفاع شمس بدران ليلتقي رئيس الوزراء السوفياتي أليكسي كوسيغين، الذي أدلى بملاحظات عدة حملت قدراً كبيراً من الأهمية، وسجّلها السفير المصري مراد غالب، منها:
• وجود قوات بهذا الحجم وبهذا التسليح على طرفي الحدود قد يؤدي إلى اندلاع الحرب في أي وقت، ولا يستطيع أي طرف منهما الادّعاء بأنه لم يكن البادئ بالحرب، لأن الأمر لا يتطلب أكثر من شرارة بسيطة.
• لا بد أن تتخذوا خطوات عمليةً تثبت عدم رغبتكم في الحرب، ومعنى هذا الكلام، بحسب غالب، سحب القوات المتواجدة على الحدود (كرر المعنى نفسه نائب وزير الخارجية سيميونوف، مشيراً إلى أن إغلاق مضيق تيران خطأ واستند المسؤول الروسي في حديثه، كما يفيد غالب، إلى علوم التخطيط العسكري والقانون الدولي).
ويحكي السفير المصري أن من بين ما أفضى به كوسيغين إلى بدران، ما يفيد بأن الاتحاد السوفياتي لن يتدخل في الحرب، وكانت هذه النقطة الأكثر أهميةً التي أُوفد بدران من أجل استطلاعها، لكن في أثناء توديع المارشال غريتشكو، شمس بدران، على سلم الطائرة، قال له تطييباً لخاطره ما معناه اصمدوا ونحن معكم، وحتى لا يكون هناك أي لبس، استوضح غالب بعدها من المارشال قصده من هذه الكلمة الأخيرة، فأخبره بأنه رغب في أن يرفع من روح بدران المعنوية لا أكثر، وأن كل ما أراد السوفيات إيصاله قاله رئيس الوزراء كوسيغين (مراد غالب، مع عبد الناصر والسادات... سنوات الانتصار وأيام المحن، مركز الأهرام، الطبعة الأولى).
أذاع شمس بدران هذه العبارة مستدلاً بها على أن الاتحاد السوفياتي سيساند مصر في حربها مع إسرائيل، وهو ما اعتمده المشير عامر، وما كان يروّج له عبد الناصر أيضاً في جلساته، حيث يذكر البغدادي في مذكراته أنه سأل ناصر عن موقف الاتحاد السوفياتي، فأخبره بمضمون ما قاله بدران.
مرةً ثانيةً، ضلل رجال المشير قائدهم، فقد اعتمد عامر ما أخبره به بدران، لكن جمال لم يكن صادقاً مع البغدادي، فمرةً أخرى كان يعلم حقيقة الموقف السوفياتي من سفيره مراد غالب الذي عيّنه ناصر برغم رفض المشير عامر، بعدما رغب الأخير في تعيين أحد رجاله في هذا المنصب المهم، إذ أرسل غالب إلى عبد الناصر محضراً تفصيلياً لما جرى في اجتماع بدران ورئيس الوزراء السوفياتي.
لا أحد حتى ممن ضمّتهم دوائر السلطة، يعلم بصورة أكيدة على ماذا اعتمد عبد الناصر في اندفاعه المحموم نحو الحرب، برغم معرفته بحقيقة وضع جيشه غير المؤهل لخوض المعركة، فعلى ماذا راهن؟
يبدو مما تقدّم، وكأن الحديث عن عبد الناصر وعبد الحكيم حديث عن جزيريتين منعزلتين لا عن رئيس دولة وأحد مسؤوليه، وهو ما كان إلى حد بعيد؛ فالعلاقة بين الرجلين قد ساءت بصورة واضحة إثر الانفصال عن سوريا، وإلقاء عبد الناصر اللوم على عامر في ما جرى، لتتأثر العلاقة بشكل كبير ويمسي الرجلان أكثر حذراً من بعضهما البعض.
ويذكر غالب في هذا الصدد أنه استمع بالصدفة في أثناء زيارة للمشير إلى موسكو، حديثاً بينه وبين مدير المخابرات صلاح نصر وثلاثة من قادة القوات المسلحة يُشتمّ منه تآمر على ناصر، في المقابل كان الأخير لا يُخفي رغبته في سحب صلاحيات واسعة من المشير كان قد اختصه بها.
في الفترة نفسها، كانت إسرائيل تضع اللمسات الأخيرة لمعركة أعدّت لها منذ سنين طويلة صدقاً وفعلاً، لا على مستوى الخطب والتصريحات الإعلامية، بينما اكتفى ناصر بإشعال حماسة المصريين والشعوب العربية قاطبةً عبر تصريحاته النارية؛ لتوفّر غطاء سياسياً رجّح إرادة المتشددين في إسرائيل الذين حرّضوا على خوض المعركة ورأوا في الأوضاع المصرية وقتها فرصةً لن تتكرر، وذلك مقابل جبهة للرفض لم تكن متحمسةً للحرب.
لا أحد حتى ممن ضمّتهم دوائر السلطة، يعلم بصورة أكيدة على ماذا اعتمد عبد الناصر في اندفاعه المحموم نحو الحرب، برغم معرفته بحقيقة وضع جيشه غير المؤهل لخوض المعركة، وبلغت هذه الحيرة حدّ أن ناقش رجل من رجاله المخلصين، هو مراد غالب، مدير مكتبه للشؤون الخارجية وسفيره لدى الاتحاد السوفياتي، فرضية أن يكون قد "زجّ بالقوات المسلحة في حرب وهو يعرف مسبقاً أنها ستقضي على القوة الرئيسية في الجيش، وبذلك تسنح الفرصة للتخلص من المشير عامر ورجاله وسيطرتهم على الجيش وتهديدهم لعبد الناصر نفسه، وعصيان أوامره وإظهار أنهم القوة الحقيقية وليس عبد الناصر" (غالب، ص124).
ويتماهى غالب مع هذا السنياريو، إذ يشير إلى كون ناصر ربما تصوّر أن الحرب ستتوقف إثر التدخل الدولي الذي لن يسمح باستمرارها، وستكون حينها قد قضت على مكانة القيادة العسكرية وهيبتها، مما يُسهّل التخلص منها، مع ذلك لم يغلّب غالب هذا التصور فقد رآها "مغامرةً غير محسوبة بدقة وخطرها مدمر"، لكنه في الوقت نفسه لم ينفِها بالمطلق، ليرجّح عليها فقط أن عبد الناصر ربما "خُدع من أمريكا وإسرائيل، كما وقع ضحية لأخطاء السوفيات..." (في إشارة إلى رسائل السوفيات عن الحشود الإسرائيلية على الجبهة الإسرائيلية).
كانت الحقائق واضحةً أمام عبد الناصر عند اتخاذ قراره بسحب قوات الطوارئ الدولية، إذ علم أن هناك "فخّاً" يجري إعداده، وأن سوريا ستكون الطعم، ولم يكن التحذير من "الفخ" الإسرائيلي مقتصراً على الملك الأردني، فبحسب هيكل، سبقته مؤشرات واكبت الأيام الأخيرة من سنة 1966، مفادها أن الولايات المتحدة قد أطلقت حرية العمل لإسرائيل، وأن قراراً قد صدر بالتخلص من عبد الناصر، كذلك أكد له رجلاه فوزي وهويدي، أن لا حشود على الجبهة السورية، وهو ما تماهى مع تحذير الملك، لكن كل ذلك لم يحجز ناصر عن تصعيد الأمور إلى حد الحافة.
أبت نرجسيته التي أثارتها المزايدات العربية أن يحتكم إلى ما كان متاحاً لديه من حقائق تؤكد عدم جاهزية جيشه، وربما اعتقد أن تعمل الأقدار مرةً أخرى لصالحه بصورة سحرية، وفي ذهنه سنياريو 56، حين تحولت الهزيمة العسكرية المؤكدة إلى نصر سياسي باهر، أصبح على إثره زعيماً لكل العرب، وربما لهذا السبب أصرّ على ألا يبادر بالضربة الأولى بعد تحذير الدول الكبرى، لكن القدر كان قد اكتفى من مغامراته، لتكون هزيمة 67 مغامرته الأخيرة التي خسر فيها كل شيء.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.