بعد "ثورة 23 تموز/ يوليو" عام 1952، وبدء مرحلة جديدة في مصر قادها بشكل رسمي الزعيم الراحل جمال عبد الناصر، بين عامي 1954 و1970، حاول كثيرون تظهير صورة الرجل وكأنه رجل الدولة الذي لا مثيل له. قاد هذا الرأي الصحافي الراحل محمد حسنين هيكل، الذي تحايل لتكريس هذه الصورة من خلال كتابات اهتمت بتثبيت هيئة رجل الدولة أكثر مما اعتنت بتسجيل الوقائع كما جرت.
بناء تلك الأسطورة في تلك المرحلة وبعدها، ساعدتها ثلاثة عوامل بعيدة عن شخصية الرجل ومؤهلاته:
العامل الأول، نزعة رومانسية تسلّطت على وجدان الشعوب العربية قبل ظهور الرجل، إلى جانب شيوع فكرة البطولة في ظل احتلال أخضع غالبية أوطاننا، وهناك أيضاً زعامة مصر غير المتنازع عليها وقتذاك للأمة العربية، من ثم كانت هي البلد المؤهل لتحقيق حلم الوحدة بعدما حال الاحتلال دونه، أو هكذا ظنت شعوبنا في تلك الحقبة.
العامل الثاني، يتمثل في تطلّع عبد الناصر ليس فقط إلى التفرد بالسلطة بل إلى تلك الزعامة الإقليمية التي نسجها وجدان الشعوب العربية على امتداد زمن الاحتلال، آملاً بأن يحقق المبشر بها حلم الوحدة، ليتلبسها ناصر باعتباره الرجل الموعود.
أما العامل الثالث، فجسدته كفاءة تمتعت بها طبقة التكنوقراط المصرية والتي حققت الإنجاز الوحيد لنظام عبد الناصر، متمثلاً في القاعدة الصناعية المهمة، هذا إلى جانب كفاءة ميّزت الجهاز الدعائي للنظام وأظهر نماذجه بالطبع محمد حسنين هيكل.
ساعد في بناء الأسطورة نزعة رومانسية تسلّطت على وجدان الشعوب العربية، تطلّعه للتفرد بالسلطة، وكفاءة تمتعت بها طبقة التكنوقراط المصرية، وجهاز الدعاية
هذه الكفاءة كانت بعيدةً عن طريقة معالجة عبد الناصر لغالبية الشؤون التي اتصل بها بشكل مباشر، والمتعلقة بقراراته السياسية الكبرى، ومنها حساباته في ما يتعلق بقرار تأميم قناة السويس في 26 تموز/ يوليو عام 1956، وسيحاول هذا المقال الغوص في ما سجله أبرز وجوه الجهاز الدعائي الناصري وأكثرهم كفاءة، وهو محمد حسنين هيكل، ليتلقف روايته كتاب ومؤرخون وباحثون، وتمسي أقرب إلى أن تكون الرواية الرسمية. وإلى جانب كتابات هيكل، ستتم الاستعانة بمدوّنات هامشية تستمد قيمتها من أن أصحابها كانوا شهود عيان على تلك الحقبة.
قرار منفرد خلال ساعات الليل
يروي هيكل في كتابه "حرب الثلاثين عاماً... ملفات السويس"، أن البداية جاءت إثر اتصال تلفوني أجراه مع عبد الناصر صباح اليوم التالي، لسحب الولايات المتحدة عرضها بخصوص تمويل السد العالي، ليلمح الصحافي والكاتب إلى ضرورة اتخاذ إجراء يتصل بقناة السويس. وقبل أن يُكمل اقتراحه، قاطعه عبد الناصر طالباً منه الحضور لمقابلته، وحين تقابلا أعلمه الرئيس الراحل بأن تأميم القناة هو "الرد الوحيد المناسب والممكن والذي يتيح لنا بناء السد العالي بدخل مواردنا المنهوبة"، فسأل هيكل عن إمكانية ذلك، ليجيبه جمال: "أعرف أنها ستكون معركةً خطيرةً، وقد فكرت في احتمالاتها طوال الليل وهذا الصباح، وأجريت حساباتي وأظن أن فرص النجاح أمامنا عالية"، (هيكل، ص523).
يستكمل هيكل: "كان رأيه أن احتمال التدخل العسكري هو ما يجب أن نتحوط له ونتفاداه بكل وسيلة إلا التراجع عن تأميم القناة، إذا اتخذ (ناصر) القرار نهائياً".
هكذا، يوضح هيكل بكل بساطة أن قرار تأميم قناة السويس قد اتخذه عبد الناصر بصورة نهائية بعد تفكير دام طوال ساعات الليل ولم يشرك فيه أحداً، أما حساباته التي سردها على هيكل يومها، بخصوص الدول التي شاركت بعد ذلك في العدوان الثلاثي، فجاءت كالآتي:
"فرنسا لا تستطيع أن تتدخل بمفردها فهي مشغولة في حرب الجزائر ووضعها العالمي كله خصوصاً بعد هزيمة الهند الصينية لا يُمكّنها من عمل ملح حاسم ضد مصر. إسرائيل قد تفكر في التدخل عسكرياً ولكنها لا تستطيع أن تتخذ من تأميم شركة القناة ذريعةً لشن الحرب، ثم إن تدخل إسرائيل عملياً ضد مصر سوف يجعلها حرباً ضد الأمة العربية كلها وهذا يفرض على أمريكا محاولة "فرملة" إسرائيل. ثم إن إسرائيل من مصلحتها أن تنتظر لكي ترى صراع مصر مع الغرب كله يشتد ويعنف. وأخيراً فإن بريطانيا هي الطرف الذي يُخشى من تدخله فعلاً، ومن هنا فإن الموقف البريطاني هو مفتاح الموضوع كله، وإذاً كيف يمكن أن تتصرف بريطانيا وكيف يمكن أن يتصرف إيدن؟ (رئيس الوزراء البريطاني آنذاك أنتوني إيدن)".
يستطرد الصحافي القدير: "كان تقدير جمال عبد الناصر أن إيدن في موقف ضعيف، والضعف هو الذي سيغريه بالعنف... وكان تقديره أن الأخير لا بد أن يتصرف بسرعة وأن يضرب الحديد وهو ساخن وإلا فإن المناخ العام للأزمة سوف يهدأ وسوف يبرد، وكان تقديره كذلك أن احتمال التدخل العسكري ضد مصر سوف يكون محققاً بنسبة 80% خلال الأسبوع التالي للتأميم، فإذا انقضت هذه الفترة الحرجة تناقصت احتمالات التدخل. في الأسبوع الثاني والثالث من آب/ أغسطس، سوف يكون الخطر بنسبة 40%. خلال شهر أيلول/ سبتمبر سوف يكون الخطر 20%. حتى نهاية تشرين الأول/ أكتوبر سوف يكون الخطر بنسبة 20% أيضاً ثم يبدأ بالتلاشي بعد ذلك لأن الفرصة قد تكون أفلتت تماماً"، (هيكل، ص528).
يخبرنا هيكل بعدها بأن عبد الناصر كلّف المهندس محمود يونس، مسؤول هيئة البترول، بتنفيذ قرار التأميم والاستيلاء على مقار شركة قناة السويس لدى إلقاء جمال خطبة الاحتفال بعيد الثورة في 26 تموز/ يوليو في الإسكندرية، وفي صباح هذا اليوم دعا إلى اجتماع مشترك بين أعضاء مجلس الثورة السابقين ومجلس الوزراء بكامل هيئته، ليُعلمهم بما نوى عليه، أي أن مسؤولي الدولة لم يناقشوا القرار الخطير الذي جلب على مصر الويلات أو يعلموا به إلا صباح يوم الإعلان عنه!
الإعلان عن التأميم ورواية هيكل
لا تقف عبثية المسألة عند هذا الحد، حيث ينقل لنا هيكل من بين ما نقله من ملاحظات الحضور وتعليقاتهم، حين أعلمهم عبد الناصر بقراره؛ مداخلة للدكتور عبد المنعم القيسوني، وزير الاقتصاد حينها، عن أرصدة مصر المالية في الخارج، عندها طلب منه عبد الناصر أو سأله "ما إذا كان يستطيع تحريك بعضها بسرعة"؟، فقال له القيسوني إنه سيبذل كل جهده، وبالطبع وضع الرئيس الراحل بذلك أرصدة مصر في بنوك إنكلترا وفرنسا رهينةً لدى البلدين، وهي إشارة تنضم إلى سابقاتها لتدلل على طابع المقامرة الذي غلب على القرار، فلم يدرسه المعنيون ولم يناقشوا تبعاته أو تُترك لهم مساحة حتى يتخذوا إجراءات تقلل من خسائره.
أخطأت حسابات عبد الناصر. خلافاً لكل توقعاته، أتت مقامرته على كل شيء. بدأ العدوان الإسرائيلي على سيناء، وسهّل مهمته أن المواقع المصرية كانت شبه خالية، ما مثّل "إغراءً شديداً لإسرائيل"
هنا التعليق لا يستهدف مناقشة وجاهة القرار من عدمه تحت زعم رآه معارضوه، بأن مصر كانت ستتسلم إدارة القناة بعدها بسنتين، بل يتعلّق بالكيفية التي عالج بها عبد الناصر المسألة الخطيرة، في نهج سيتابعه في جميع قراراته الكبرى، ليدفع الوطن ثمنها فادحاً.
وقف ناصر بعدها يلقي خطابه في الإسكندرية ليدوي التصفيق والتهليل باتساع ميدان المنشية الشهير، بل باتساع مصر والوطن العربي كله، وهو ما كان الرجل يتوقعه بالطبع، لكن خلافاً لتوقعاته الأخرى، بدأ العدوان الإسرائيلي على سيناء في 29 تشرين الأول/ أكتوبر من العام نفسه، وسهّل مهمته أن المواقع المصرية كانت شبه خالية، ما مثّل "إغراءً شديداً لإسرائيل"، سجّله الجنرال إلم بيرنز، كبير مراقبي الهدنة في تقريره لسكرتير الأمم المتحدة.
بحسب ما ذكر هيكل، استبعد ناصر أن تقترب إسرائيل من هذا الإغراء في سبيل محافظتها على صورتها أمام الرأي العام العالمي، حتى لا ينظر إليها باعتبارها تابعة للدولتين الاستعماريتين، إنكلترا وفرنسا.
يصوّر لنا هيكل بعد ذلك الرئيس الراحل في أثناء قيادته المعركة، بعدما هرع إلى مقر القيادة العامة للقوات المسلحة ليقف خطيباً في مواجهة مقترح قدّمه صلاح سالم، عضو مجلس قيادة الثورة السابق، بأن يستسلم ناصر، لكن الأخير وجه في ثبات حديثاً إلى سالم: "إنه لو كان يعرف أن المعركة هي شخصه لابتعد بأي وسيلة عن مسرح الحوادث، ولكن المستهدف هو مصر وشعبها وإذا لم يقف الشعب المصري في هذا الموقف ويخوض المعركة دفاعاً عن وطنه ومستقبله، فإن مصير الأمة العربية كلها يصبح معرضاً للضياع"، (هيكل، ص613).
يصحبنا هيكل بعدها إلى مكتب رئيس هيئة الأركان، حيث عقد عبد الناصر اجتماعاً آخر اقتصر على عدد محدود من القادة العسكريين والمستشارين السياسيين وبعض أعضاء مجلس الثورة ووزير الخارجية محمود فوزي، ليقترح ناصر خطته العسكرية لمواجهة الموقف والتي اقتضت انسحاب الفرقة الرابعة من شبه جزيرة سيناء، واعترض عبد الحكيم عامر ولم يقتنع بمبررات عبد الناصر، ليقرر الأخير تحمّل المسؤولية ويصدر قراراً بالانسحاب من سيناء، و"وصل به الأمر إلى حد أنه اتصل بنفسه، على خطوط الاتصال العسكرية بعدد من قادة الكتائب ليخبرهم بأن الخطة المصرية للحرب يجب تعديلها بعد أن أصبح نزول الإنكليز والفرنسيين محققاً... كانت بقية خطة جمال عبد الناصر في المواجهة تقضي بإبعاد الطيران المصري تماماً عن المعركة..."، (هيكل، ص614، 615).
رواية أخرى... "أنا ضيّعت البلد"
هذه الرواية التي يقدّمها هيكل تتناقض بشكل كامل مع رواية دفع بها عضو مجلس قيادة الثورة وواحد ممن حضروا الاجتماع الذي أشار إليه هيكل، وإن لم يشهده بنفسه، هو عبد اللطيف البغدادي في مذكراته (الجزء الأول)، حيث يروي خلافاً لما ذكره هيكل أن عبد الناصر حتى بعد توجيه الإنذار البريطاني الفرنسي المطالب بوقف القتال، لم يرد سحب القوات من سيناء، ليضعها هذا بين فكي كماشة إذا ما قامت إنكلترا وفرنسا بإنزال قواتهما في مدن القناة وهو ما حدث بالفعل، ويردف البغدادي أن ناصر لم يعتقد بجدية الإنذار الذي وجهته القوتان العظميان برغم كل المظاهر التي تبدت وقتها و"صورة الجدية في تحريك إنكلترا وفرنسا لقواتهما إلى جزيرتي مالطة وقبرص، ومواقفهما من الحلول السلمية المختلفة"، (البغدادي، ص338).
خلافاً لرواية هيكل، يروي البغدادي أن ناصر لم يرد سحب القوات من سيناء، ليضعها هذا بين فكي كماشة إذا ما قامت إنكلترا وفرنسا بإنزال قواتهما في مدن القناة وهو ما حدث بالفعل
ظل ناصر على موقفه حتى 31 تشرين الأول/ أكتوبر، ولم يلتفت إلى تخوف أبداه رفاقه، زكريا محيي الدين وكمال الدين حسين والبغدادي من إنزال الإنكليز والفرنسيين قواتهما في منطقة القناة بهدف عزل القوات الموجودة في سيناء، حيث أصرّ جمال على استبعاد هذا الاحتمال، ولم يتراجع إلا بعد أن أغار سلاح الجو البريطاني على القاهرة وشارك الطيران الفرنسي في المعارك الجوية في سيناء. هنا فقط لم يبقَ سوى اتخاذ قرار الانسحاب، إثر انكشاف التنسيق بين دول العدوان الثلاث، ليصدر عبد الحكيم، وليس جمال مثلما ذكر هيكل، الأمر بذلك.
وفي مسألة الاستسلام، يذكر البغدادي أن الفكرة راودت عبد الناصر قبل أن يقترحها صلاح سالم، لأن "الاستمرار في المعركة سيترتب عليه تدمير البلاد وقتل الكثير من المدنيين، والشعب سيكره النظام والقائمين عليه، وأنه يُفضل تفادياً لهذا التدمير أن نطلب إيقاف القتال"، (البغدادي، ص344).
وعلى النقيض مما ذكره هيكل أيضاً، يسجل البغدادي في مذكراته أنه في تاريخ 3 تشرين الثاني/ نوفمبر، اشتكى عبد الناصر أنه لا يعلم شيئاً عما يقوم به الجيش، وأن "القوات العسكرية انتشرت في شوارع القاهرة وتركت منطقة القناة برغم الاتفاق على سحبها من سيناء للدفاع عن تلك المنطقة، ومن أنه منعزل تماماً عن القيادة العسكرية، ولا تصله أي معلومات عن أوامر العمليات أو تحركات القوات أو خطة الدفاع"، (البغدادي، ص350).
وحين واجه عبد الناصر عبد الحكيم بشيء من هذا، أخبره عبد الحكيم بأنه ليس لديه مانع من أن يتولى القيادة العسكرية بنفسه، وكان رد جمال أنه لا يطلب القيادة بل يريد أن يكون على علم بما يجري وأن يؤخذ برأيه، وبعد نقاش حاد تكلم عبد الناصر فيه بعصبية، خلافاً لعبد الحكيم الذي كان متمالكاً لأعصابه، اتفقا على أن يقوم عبد الحكيم بإرسال ضابطي اتصال إلى مكتب عبد الناصر حتى يكون على علم بالخطط العسكرية.
يسجل البغدادي أيضاً أنه تأثر تأثراً بالغاً بحال عبد الناصر، حين كان الاثنان يقيمان في مبنى قيادة الثورة في أثناء الأحداث، ومن بين هذه المواقف التي حرّضت البغدادي على التعاطف مع جمال، أنه دخل عليه حجرته في صباح يوم 4 تشرين الثاني/ نوفمبر، ليسأله عن حاله، فأجابه عبد الناصر بأنه بكى في الليل و"أنه على ما يظهر قد أضاع البلد"، لهذا السبب أصرّ البغدادي على مصاحبة جمال حين قرر السفر إلى بور سعيد في اليوم نفسه دعماً للمقاومة هناك.
انتصار رغم أنف عبد الناصر
على طريق الإسماعيلية-بور سعيد، شاهد الاثنان عربات عسكريةً كثيرةً إما مدمرةً أو مقلوبةً، والدبابات منها المتروك ومنها المحروق ومنها المعطل، ليردد جمال بمرارة، أنها بقايا جيش محطم... I was defeated by my army، لقد هُزمت بواسطة جيشي! متحسراً على مئة وثلاثة ملايين من الجنيهات أُنفقت على تسليح الجيش لتضيع هباءً.
وصل الاثنان إلى الإسماعيلية فجراً، ليجدا كمال الدين حسين عضو مجلس قيادة الثورة السابق والذي كان يشرف على المقاومة الشعبية في حالة معنوية جيدة بخلافهما. في هذه الليلة استعرض البغدادي ما وصل إليه حال عبد الناصر من يأس، ليردد وهو يتقلب في فراشه: أنا تعبان، فيحاول البغدادي التخفيف عنه.
ومن ملاحظات عضو مجلس الثورة المهمة أيضاً، ما سجله عن بسالة شعب بور سعيد وأفراد الشرطة والجيش المنتظمين تحت قيادة المقاومة الشعبية، كذلك حالة الهدوء والثقة التي كان عليها أهل الإسماعيلية، وأن هذا رفع من معنوياتهما، وأنهما رجعا بعدها إلى القاهرة ولم يستكملا رحلتهما إلى بور سعيد إثر نصيحة من عبد الحكيم عامر، بعدما استطاع الإنكليز القيام بإنزال قواتهم في المدينة.
تراجع عبد الناصر عن محاسبة أي من قادة الجيش بعد رفض عبد الحكيم التام مجرد نقل رئيس هيئة أركان القوات الجوية صدقي محمود، إلى وظيفة إدارية، وبدلاً من أن ينتهز جمال الفرصة ويقبل الاستقالة، تصافى مع صديقه
وإمعاناً في التناقض مع رواية هيكل، دوّن البغدادي في يومياته أنه في يوم 19 تشرين الثاني/ نوفمبر، انفجر عبد الناصر في حضور علي صبري، مدير مكتبه بـ"بعض الكلمات الجارحة" عن الجيش، معدداً مآخذه عليه وعلى تصرفات عبد الحكيم، ومديناً روح الاستسلام التي انتابتهم والشلل الذي أصابهم لدى اشتراك الإنكليز والفرنسيين في المعركة، وفوق كل ذلك "عدم إطاعة الجيش لأوامره برغم تكرار الاتصال بهم"، (البغدادي، ص395).
كانت نتيجة هذه الصورة العبثية دماراً شاملاً لحق بمدن القناة وسقوط آلاف القتلى والجرحى من المدنيين والعسكريين، وتدمير شبه كامل للقوات الجوية، فضلاً عما سجله عبد الناصر على أداء الجيش بصفة عامة من غلبة "روح الاستسلام والشلل"، ومن عدم إطاعة الأوامر، لكن هل تحمّل أحد أي مسؤولية عما جرى؟
تراجع عبد الناصر عن محاسبة أي من قادة الجيش بعد رفض عبد الحكيم التام مجرد نقل رئيس هيئة أركان القوات الجوية صدقي محمود، إلى وظيفة إدارية، إذ غضب عبد الحكيم مقدماً استقالته، وبدلاً من أن ينتهز جمال الفرصة ويقبل الاستقالة، فالرجل كان في مقدمة من استحقوا المحاسبة بسبب إدارته الكارثية للمعركة حسب ما سجل البغدادي، أعرض عن الفرصة وتصافى مع صديقه عبد الحكيم.
ذهب الرئيس الراحل إلى أبعد من ذلك، فأعفى كمال الدين حسين، من قيادة جيش التحرير، بعدما قاد الرجل المقاومة الشعبية بنجاح وكانت تلك هي الصفحة الوحيدة المجيدة في حرب 56، واتخذ ناصر قراره ذاك مجاملةً لعبد الحكيم الذي اعترض على استمرار عضو مجلس قيادة الثورة السابق في منصبه.
هذه الهيئة المرتسمة في يوميات عبد اللطيف البغدادي، لا تتعرف على أي من ملامحها في كتاب هيكل، حيث تبصر هيئةً أخرى رُسمت بعناية تمجيداً للزعيم الراحل، في نموذج لنهج لطالما انتهجه هيكل في كتاباته عن عبد الناصر، لكن لم يكن الصحافي المحنّك وحده، هذه المرة، من اعتنى بهيئة بدا عليها ناصر، فبرغم ما حاصرها من هزيمة ويأس وعجز، جاء الإنذار الأمريكي فأحال الهزيمة إلى نصر، واليأس إلى بُشرى والعجز إلى قدرة، وقدّم الرجل الذي طاشت جميع حساباته ووقف عاجزاً حتى عن تحريك قواته في أثناء المعركة، إلى منصة البطولة زعيماً أوحد للأمة العربية بعدما انتصر برغم أنفه على العدوان الثلاثي، ليحرضه هذا على المضي في المقامرة بمقدرات بلد بأكمله.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.