إنه بالفعل أشهر حكواتي في العالم. هكذا يعرّف "حليم الحكواتي" بنفسه. يدّعي أنه يعرف كل خبايا الحياة وقصصها من كتاب صغير جداً. تقول الأسطورة إن هذا الكتاب يحتوي على كل قصة كانت موجودةً على الإطلاق، وستكون موجودةً في العالم. يخبرنا حليم بالقصص من الكتاب من خلال أدائها في الواقع. دخل "حليم الحكواتي" إلى مسرح مليء بمحبّي الروايات. صفّق لنفسه، وقرأ من كتابه الصغير جداً، ثلاث قصص، والغريب هو أن من اقترح هذه القصص هو الجمهور نفسه. "أريد أن أسمع قصةً عن "فوائد الزنزلخت". اختار حليم قصةً من بين بعض الاقتراحات، وأخبرنا عنها، ثم مثّلها وحده على المسرح.
يقدّم رافي فغالي عرضه "حليم الحكواتي"، بأسلوب ارتجالي ومنفرد. اختار فغالي أن يعود بعد 6 سنوات للأداء في لبنان، من خلال "حليم الحكواتي" في حزيران/ يونيو 2023، في مقر "لبن"، المؤسسة الارتجالية المسرحية التي أنشأها في 2009
يحدّث أحدهم عبر الهاتف من دون هاتف حقيقي، ويتكلم مع صديقته في المشهد، ثم يلعب دور الصديقة، وبعد ذلك يقود سيارةً غير موجودة. لكننا حقيقةً نرى أنها موجودة. ينجح في بعض المحاولات. لكن في كل مرة يكتشف فيها أن ليست لديه قصص العالم كلها في هذا الكتاب الصغير، يلوم الموسيقي ومهندس الصوت.
هذا الحكواتي حقيقي، فهو يشبه العديد من قاصّي القصص الذين يدّعون أنهم يعرفون الحقيقة المطلقة. ينتهي العرض من دون انتهاء القصة، ويطلب "حليم" من الجمهور مجدداً أن يصفق له كثيراً، أكثر من الموسيقي ومهندس الصوت.
ما الهدف من عرضٍ مسرحي منفرد ومرتجَل؟
يقدّم رافي فغالي عرضه "حليم الحكواتي"، بأسلوب ارتجالي ومنفرد. اختار رافي، المؤدّي المسرحي والمدرب والمنخرط في بناء السلام، أن يعود بعد 6 سنوات للأداء في لبنان، من خلال "حليم الحكواتي" في حزيران/ يونيو 2023، في مقر "لبن"، المؤسسة الارتجالية المسرحية التي أنشأها في 2009. تجربة العرض المنفرد كانت تجربةً خاضها في لاتفيا، حيث اضطر إلى أن يقوم بعرض ارتجالي وحده بسبب غياب أحد المؤدّين عن العرض.
المسرح الارتجالي هو شكل من أشكال المسرح، يرتجل فيه المرء من دون أي تحضير للمشهد أو الحوار. قد يكفي هذا التحدي وحده، إلا أن الانفراد في العرض يجعله أكثر صعوبةً. لكن ما لا نعرفه عن هذا النوع من المسرح هو أنه غير متعلق حصراً بكون الفرد خلّاقاً، إلا أنه يتطور ليصبح نمطاً من الحياة وتبادل الأفكار ومشاركتها، وهو ما يلقى عادةً سوء فهم أحياناً، خاصةً إن لم تنتهِ القصة. "يرى البعض أن المسرح الارتجالي أقل أهميةً من غيره كونه لا يتطلب إعداد نص، إلا أنه من أصعب أنواع المسرح، وهو يتطلب العديد من التمارين"؛ يقول فغالي في حديث إلى رصيف22.
هذا الحكواتي حقيقي، فهو يشبه العديد من قاصّي القصص الذين يدّعون أنهم يعرفون الحقيقة المطلقة. ينتهي العرض من دون انتهاء القصة، ويطلب "حليم" من الجمهور مجدداً أن يصفق له كثيراً، أكثر من الموسيقي ومهندس الصوت
هل يمكن التمرّن على الارتجال؟
الارتجال موجود منذ العصور القديمة، لكنه وفق الطريقة المسرحية يندرج اليوم تحت "comedia dell 'arte"، وهو مسرح كوميدي ارتجالي. في السابق كان المخرج يمنح المؤدّين عرضاً صغيراً، ثم يتم الارتجال في الحوار. لكن التمرين على الارتجال عملية طويلة جداً حوّلت المسرح الارتجالي إلى أشكال عدة. من أبرز من أطلق الارتجال المسرحي عرّاباه كيث جونستون في لندن وكندا، وفيولا سبولين في شيكاغو، في الوقت نفسه في خمسينيات القرن الماضي. يخبرنا فغالي بأن تزامن عملهما بدأ من خلال محاولات كل منهما إيجاد حل لمشكلة طوّرا من خلالها المسرح الارتجالي.
كيث كان يشاهد لعبة مصارعة حين لفته تفاعل الجمهور، ثم سأل لماذا لا يحظى المسرح بمثل هذا التفاعل والاهتمام من الجمهور؟ هكذا بدأت فكرة الرياضة المسرحيةTheatresports Institute عام 1977، التي خلقت المزيد من التفاعل مع الجمهور.
في الوقت نفسه، كانت فيولا تحاول إنشاء ألعاب لمحاولة إشراك الأطفال في المسرح. بعد فترة، استخدم ابنها بول سلس، الألعاب نفسها أمام جمهور، وأصبحت مع الوقت ألعاباً يتم استخدامها للتدريب على الارتجال، منها لعبة الأدوار وسرد القصص واللعب بالطابة وغيرها. أنشأ سلس "المدينة الثانية" The Second City، حينها في شيكاغو، إحدى أشهر مدارس الارتجال ومسارحه في العالم، ومنشأ العديد من الكوميديين المشهورين في هوليوود، مثل تينا فاي وستيف كاريل وغيرهما.
لماذا لا نرى المسرح الارتجالي في لبنان والمنطقة العربية كثيراً؟
"كان ثلاثة أشخاص يؤدون العرض، وكان عرضاً طويلاً ومرتجلاً. لم أستطع التنفس، كان أحد أجمل العروض التي رأيتها على الإطلاق. أتذكر شكل المباني والسيارات البيضاء والمنزل الذي كانوا يسكنون فيه. يمكنني أن أتخيل كل ما كانوا يفعلونه كما لو كان لديهم مسرح مزيّن ومعدّ بالكامل. في تلك اللحظة، قررت أنه من المستحيل أن ندّعي أن لبنان بلد ثقافي من دون وجود مسرح ارتجالي فيه"؛ يخبرنا رافي فغالي وهو يتحدث عن ردة فعله بعد مشاهدة أحد العروض في أمستردام عام 2009، حيث كان وزملاؤه مشاركين في مهرجان إثر تجربة عروض ارتجالية في الشارع اللبناني من دون معرفة أسس العرض الارتجالي حينها. أسس بعدها فغالي "لبن"، المؤسسة الارتجالية القائمة على المسرح عام 2009، بدافع الحاجة لأنه لم تكن هناك مساحة لإنشاء عروض ارتجالية يومية.
انطلقت بعض تجارب العروض المسرحية الارتجالية في لبنان مع "لبن"، ونشأت بعدها بعض الفرق الموجودة في العالم العربي، مثل مصر والإمارات، لكن الحضور بقي خجولاً، خاصةً لناحية إنشاء مدارس تدريبية وتعليمية للمسرح الارتجالي
انطلقت بعض تجارب العروض المسرحية الارتجالية في لبنان مع "لبن"، ونشأت بعدها بعض الفرق الموجودة في العالم العربي، مثل مصر والإمارات، لكن الحضور بقي خجولاً، خاصةً لناحية إنشاء مدارس تدريبية وتعليمية للمسرح الارتجالي. "في لبنان، قبل كل عرض كنت أؤديه، كنت أقصد الجهات الرسمية للتحدث عن العرض والحصول على الموافقة. كان يأتيني الرد بأنهم يريدون قراءة النص. ليس لدي نص، كنت أقول لهم ذلك فيرفضون الموافقة على العرض. كنت أعود بعد فترة وأشارك معهم نص 'هاملت' فيوافقون. أخبرتهم مرات عدة بعد الموافقة بأن المسرحية ارتجالية، وبأنه لا يوجد نص، كما دعوتهم ليشاهدوا العرض، لعلهم يمنعون العرض ربما، فندعو إلى تغيير قانون الرقابة في لبنان، لكنهم لم يحضروا طبعاً"؛ يضيف رافي. يعود بحسب رأيه غياب المسرح الارتجالي في لبنان والعالم العربي في جزء كبير منه إلى الرقابة بشكل عام على ما لا يكون محضّراً.
من جماليات المسرح الارتجالي أنه يناهض بكل بساطة أشكالاً مختلفةً من العروض المسرحية، لأنه لا يفرض على المشهد أي نوع من الرسائل بأي شكل.
ينطبق ذلك في العالم العربي ولبنان بأشكال مختلفة، إلا أن السبب الآخر قد يعود إلى عدم تجربة المسرح الارتجالي بشكل كافٍ في العالم العربي، مما يساهم في إساءة فهم معنى هذا النوع من المسرح. قد يحضر المشاهدون/ ات في انتظار رسالة معيّنة من العرض، والمسرح الارتجالي لا يحتوي بالضرورة على رسالة معيّنة دائماً.
عرض بلا رسالة
من جماليات المسرح الارتجالي أنه يناهض بكل بساطة أشكالاً مختلفةً من العروض المسرحية، لأنه لا يفرض على المشهد أي نوع من الرسائل بأي شكل. "فلتأخذ/ ي ما تريد/ ين". يأخذ المشاهدون/ ات ما يريدونه من العرض، وهو أجمل أنواع الفن برأي فغالي. الارتجال يفرض عليك عدم استملاك الفن، أو تفسيره، فهو ما يترك المشاهد يأخذ الانطباع المفضّل لديه/ ا. وإن كان العرض بلا رسالة معيّنة، فهو بحد ذاته نمط عيش للمؤدّي/ ة يتخطى اللحظة الآنية على المسرح وأمام الجمهور.
يتفرد المسرح الارتجالي أولاً بكونه متاحاً للجميع من الناحية الفنية، "يمكن لأي شخص أن يتعلم الارتجال. يمكن لأي شخص ممارسة أي نوع من أنواع الفن برأيي، لكن الفن الارتجالي يجعل القدرة على الخلق في متناول الجميع. يمكن تشبيه الفن الارتجالي بما فعله موقع يوتيوب في صناعة الأفلام؛ 90% من مقاطع الفيديو على يوتيوب قد تكون غير جيدة، إلا أن 10% منها قد تكون عظيمةً. مثل اليوتيوب، المسرح الارتجالي مخصص للأشخاص الذين لم يتمكنوا أبداً من صناعة العروض المسرحية الكبيرة لأسباب مادية أو إنتاجية مثلاً"، يقول فغالي. أما من الناحية الحياتية، فإن المسرح الارتجالي مفيد للمساعدة في خلق مهارات حياتية مثل مهارات قيادة الجامعات والمرونة والاستماع والتواصل. "أعرف بعض الأشخاص الذين يمارسون تدريبات الارتجال لتحسين حياتهم المهنية والشخصية من دون استخدام هذه المهارات على المسرح"؛ يضيف فغالي.
لعل أجمل ما يغني المسرح الارتجالي هو أنه يعيد تفسير الفن ببساطته، تماماً كما بدأ، أي أن "حليم الحكواتي" قد يخطئ على المسرح من دون أن يبالي كثيراً، أو أنه قد يبدأ حكايةً ما من دون أن ينهيها، إلا أن المشاهدين/ ات بدورهم/ نّ عليهم/ نّ ألا ينتظرون/ ن نهايةً دائماً، وهو ما يتطلب إعادة استيعاب لمرونة العقل وأهمية ارتباط المسرح بالواقع اليومي. قد تكمن الرسالة الأساسية في هذا الرفض والتجاوز لما هو تقليدي، ولنظرية الخوف من الخطأ. لذا نرى المؤدي/ ة لا يخاف من الخطأ بينما يتمرن، "بل يمارس رياضة تقبّل أفكار زملائه المؤدّين والإضافة إليها" يشرح فغالي.
لعل أجمل ما يغني المسرح الارتجالي هو أنه يعيد تفسير الفن ببساطته، تماماً كما بدأ، أي أن "حليم الحكواتي" قد يخطئ على المسرح من دون أن يبالي كثيراً، أو أنه قد يبدأ حكايةً ما من دون أن ينهيها...
يقول كيث جونستون: "هناك من يفضّل أن يقول 'نعم'، وهناك من يفضّل أن يقول 'لا'. أولئك الذين يقولون 'نعم' يكافؤون بالمغامرات التي يخوضونها. أولئك الذين يقولون 'لا' يكافؤون بالأمان الذي يحصلون عليه". رياضة التعديل والإضافة والخروج عن النص أمام جمهور كبير هي نوع من أنواع تقبّل الحياة بكل أشكالها، بعيداً عن دعوة الجمهور إلى أهداف اجتماعية سياسية واضحة.
إلا أن أداء هذا النوع من الفن في عالمنا العربي قد يبقى تحدياً في وجه أنواع الرقابة والمنع التي قد تخاف من عدم انتهاء الرواية أو تأخذ منحى في اختيار روايتنا عنّا. يقول فغالي: "أدركت خلال عروضي الأولى حول العالم أنك إذا أتيت من العالم العربي أو من لبنان على وجه التحديد، لا يمكنك خلق محتوى من دون أن يأخذ منحاً سياسياً. كل شيء في حياتنا ونضالنا اليومي سياسي. لم يكن لدي أي مفرّ من ذلك أحياناً".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...