شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!
بين الرحابنة والستاند آب كوميدي… تقلّبات جذرية في المسرح اللبناني

بين الرحابنة والستاند آب كوميدي… تقلّبات جذرية في المسرح اللبناني

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

السبت 29 أبريل 202301:29 م

"إنتِ ارتحتي، بس أنا حاسس بمسؤولية وما بقى فيي طيق الظلم"؛ قالها بربر (نصري شمس الدين)، في مسرحية "ناطورة المفاتيح"، للأخوين الرحباني، في العام 1972. تحدثت المسرحية آنذاك عن مغادرة الشعب بيوته رفضاً لظلم الملك (أنطوان كرباج)، قبل أن تلعب زاد الخير (فيروز)، دور الناطورة وتحاور الملك ليعود الأهالي إلى المملكة متحررين من الظلم.

هي واحدةٌ من مسرحيات الأخوين عاصي ومنصور الرحباني، التي انطلقت من مهرجانات بعلبك الدولية مع استعراض "أيام الحصاد" في العام 1957. اكتسبت مسرحيات الرحابنة، إلى جانب نجاحها اللبناني والعربي، رونقاً خاصاً، بكسرها التصنيفات المسرحية القائمة، إذ تحررت من المسرح الغنائي المعروف تاريخياً بـ"الأوبرا"، وتخطت المسرح الاستعراضي الذي كان والرقص عاملين لخدمة العمل لا أساساً له.

تتبلور ميزة التجربة الرحبانية بمخالفة شروط المسرح الدرامي المعروفة عالمياً أيضاً، إذ انتقت بعض عناصره فقط، وأهملت أخرى. عاش المسرح اللبناني أنماطاً وقوالب مختلفةً منذ انطلاقة المسرح الرحباني، مرّ خلالها بـ"نزلات وطلعات"، وظهرت مسرحيات تنتقد السلطة والواقع اللبناني بأساليب مختلفة، وصولاً اليوم إلى "موضة" الـ"ستاند آب كوميدي"، والنجاح الذي تحققه.

الرحابنة: "تبسيط السياسة" وحب الوطن

طغى الحبّ على أعمال الأخوين رحباني: حب الفقير، وحب الأرض، وحب الوطن، وحب النضال والعيش المشترك... اعتمدت الحبكة الرحبانية على تبسيط الصراع السياسي، وهو ما عملت على تجسيده في مسرحية "موسم العز"، من خلال عداوة جمعت أهل حبيبين في بلدتين متجاورتين. انكبابهما على العمل وانشغالهما في التحضير للأعمال الفنية، هما ما عرفه الجمهور اللبناني والعربي، تقريباً، عن شخصيتي عاصي ومنصور.

عاش المسرح اللبناني أنماطاً وقوالب مختلفةً منذ انطلاقة المسرح الرحباني، مرّ خلالها بـ"نزلات وطلعات"، وظهرت مسرحيات تنتقد السلطة والواقع اللبناني بأساليب مختلفة، وصولاً اليوم إلى "موضة" الـ"ستاند آب كوميدي"، والنجاح الذي تحققه

توجهاتهما السياسية ومواقفهما من السلطة والانقسامات والأحداث التي توالت على المنطقة، ظلّت محط اهتمام عشاق مسرحهما. قد يكون السبب خلف ذلك، محاولة الرحابنة استقطاب الشريحة الأكبر من الجمهور بمختلف الآراء والتوجهات، باعتماد الدبكة والفلكلور والعبارات اللبنانية المحببة عند الجميع. عكَس ارتباط المسرح الرحباني بلجنة بعلبك ومهرجاناتها، وتشجيع الرئيس كميل شمعون لهذه الأعمال، الرضا العام على الهوية الفنية التي اكتسبتها أعماله.

"ولأول مرة ما منكون سوا"؛ عبارة توجهت فيروز بها في أغنيتها "سألوني الناس"، ضمن مسرحية "المحطة"، إلى عاصي بعد مرضه وابتعاده عن التلحين في العام 1972. وهي من كلمات منصور الرحباني، وتوزيع الياس الرحباني. توجهت "جارة القمر" إلى عاصي الذي كان في المستشفى آنذاك. "سألوني الناس" حملت الظهور الأول للابن "المشاغب" زياد، الذي لحّن الأغنية قبل أن يبلغ الـ18 عاماً من عمره.

على عكس العديد من أبناء الفنانين الذين حاولوا استكمال مسيرة آبائهم، قرر الابن زياد نقل عالمه الخاص إلى عمله المسرحي. كلمات الأغاني وألحانها، وطبيعية الشخصية، وانتقاء الأعمال المسرحية، تضع الجمهور أمام مشهد يوحي بأن زياد "لا ابن عاصي ولا ابن الرحابنة". ابتعد زياد عن الأسس التي قامت عليها أعمال عائلته، واختار سلوك طريق النقد والسخرية البناءة القائمة على كسر الصور "الإلهية" التي اكتسبتها الطوائف والسياسة والسياسيون.

"المشاغب" زياد الرحباني

اعتمد زياد الرحباني على "نيو" مسرح لبناني. لا حاجة إلى شهادة جامعية للانضمام إلى مسرحيات زياد، بل يكفي أن يلعب كل ممثل/ة الدور المطلوب منه/ا. الثورة والتمرد من أساسيات مسرح زياد، لا الضيعة، ولا الاستطراد في العيش المشترك "الوهمي" الذي قدمته العائلة لسنوات، والتي عكست الحرب الأهلية اللبنانية عدم دقته منذ اندلاعها في العام 1975.

انتقل زياد من التاريخ إلى الحاضر، فبدّل الزيّ التقليدي الذي اعتُمد في مسرحيات الرحابنة، بثياب تعكس الواقع الذي رافق مسرحياته. لم يكتفِ بهذا الواقع فقط، بل قلق من المستقبل في مسرحيته "بالنسبة لبكرا شو"، بعدما سادت الضبابية المشهد اللبناني خلال عرضها في العام 1978. دخل في تفاصيل الحياة اللبنانية، فتحدث عن علاقة الرجل والمرأة وعن طلاب المدارس، خصوصاً الرسمية منها، ولم يكتفِ بالعناوين الفضفاضة التي طرحتها عائلة الرحباني.

إلى جانب الاختلاف الجذري في تقديم المسرحيات ومواضيعها، يتبلور التناقض بين زياد والمدرسة الرحبانية في الشخصية والمواقف. لم يخفِ شيئاً؛ أحبّ الحزب الشيوعي وآمن بمبادئه وأظهر مواقفه من القضايا كمواطن لا كممثل مسرحي عليه "الموازنة" لكسب رضا الجميع. استخدم الشتائم في مسرحياته، وحملت مقابلاته التلفزيونية والإذاعية جدلاً "من العيار الثقيل".

جورج خباز: عناق الجامع للكنيسة

متسلّحاً بعائلة فنية، وبحبه لدريد لحام والأخوين الرحباني وزياد وتأثره بشخصية شارلي شابلن، أطلّ جورج خباز على المسرح لأول مرة في العام 1996. مسيرة خباز غنية، قدّم فيها مسرحيات سنويةً وأفلاماً ومسلسلات تلفزيونيةً. "شي فاشل" (1983) لزياد الرحباني، كررها خباز في مسرحية "بالكواليس" (2016)، ومسرحية "شو القضية" (2008)، وهي عبارة عن "أنا وهو وهي" (1963)، جديدة، والتي كانت أولى المسرحيات التي ظهر فيها عادل إمام.

لعب خباز على الكلمات، أضحك وأبكى المشاهدين في ثوانٍ، "دغدغ" ذكريات اللبنانيين بالحرب الأهلية وتبعاتها عليهم/ ن، واستغل هيمنته على الإنتاج والإخراج ودور البطولة وخبرته الموسيقية... ليتحول إلى "عبقري" المسرح اللبناني، لكن من نوع آخر، بعيداً عن اللقب الذي حمله زياد. قد يكون غياب المنافسة من العوامل التي سهّلت طريق جورج، من دون إنكار فرادة أدائه وذكائه.

خباز ليس زياد الرحباني جديداً، فما يجمع الاثنين هو الذكاء في إضحاك المشاهدين ليس أكثر، برغم اختلاف "تكتيكات" الضحك. تبتعد مقاربة خباز للشؤون السياسية عن مقاربة زياد و"الستاند آب كوميدي" الذي يغزو المسرح اللبناني اليوم. اعتمد خباز النقد "الناعم" للسياسيين، ولم يحمّل الطبقة الحاكمة المسؤولية، وهو إن يهاجمها يكتفِ بالعموميات. "لبنان وردة يريد الكل قطفها"، هي مثال عما قدّمه خباز في معالجته للأزمات اللبنانية.

نجح خباز في استقطاب اللبنانيين لسنوات، وحققت مسرحياته أرقاماً قياسيةً ليتحول إلى الرقم الصعب في مجاله. إن صحّت المقاربة، خباز هو صورة مستحدثة للرحابنة إذ يكتفي في مسرحياته بسرد العموميات، بأسلوب ذكي، مع الإبقاء على أهمية "عدم التعرّض" لزعماء الأحزاب وللعيش المشترك و"الحب المسيحي الإسلامي". لجأ خبّاز إلى خطاب شبيهٍ بـ"كليشيه" بعض المسؤولين اللبنانيين من خلال ترقيع الواقع اللبناني بصورة الجامع الذي يغمر الكنيسة.

"الستاند آب": لكل بيئة كوميديّوها

"الظروف الصعبة التي نمر بها أوقفتني قسراً"؛ قال جورج في مقابلة صحافية في أيلول/سبتمبر الماضي. قد تكون الظروف الصعبة، وما يرافقها من انحدار نحو الهاوية للمجتمع اللبناني، سببين في تراجع الإقبال على مسرح خباز وآخرين غيره. في المقابل، المسارح اللبنانية التي تقدم المحتوى الناقد الساخر "مفولة"، والحجز قبل أسابيع أو أشهر.

الكوميديا اللبنانية، أو ما يُعرف بالـ"ستاند آب كوميدي"، ليست ظاهرةً جديدةً، لا على المسرح ولا في مختلف الإنتاجات الفنية. شخصيات كماريو باسيل، وفادي رعيدي، وطوني بو جودة، وعادل كرم... هي أسماء مألوفة لبنانياً. ارتكزت معظم عروضهم، والتي نجحت في جذب فئة من الجماهير، على "النكتة الثقيلة" القائمة على الإيحاءات والعبارات الجنسية، وفشلت في جذب فئات أخرى، كصغار السنّ ومن لا يتقبّلون "المزحة الثقيلة" التي تُبنى هذه العروض عليها، بالإضافة إلى كبار السن.

لا ينكر أيّ من اللبنانيين، أو سائر المتابعين للمسرح، أنّ الأخوين الرحباني ساهما في انتشال الفن اللبناني في مرحلة ما، إلا أنّ الضوء يبقى مسلّطاً على أغانيهما التي طغت على مسرحياتهما

قد تكون انتفاضة 17 تشرين الأول/أكتوبر، الحدث السياسي الأبرز في لبنان منذ أحداث 2005، وخروج الجيش السوري. النظرة إلى الطوائف والأحزاب التقليدية وقضايا النساء والفئات المهمشة... بات لها منظور جديد لدى كثيرين/ ات. من هنا انطلقت "النيو ستاند آب كوميدي" القائمة على تأثيرات 17 تشرين الأول/أكتوبر.

نجحت شخصيات كنور حجار وحسين قاووق وشادين فقيه في جذب المؤمنين/ ات بلبنان المتحرر من أي قيد: من السياسة والطوائف والعنصرية القائمة على أساس الجنس والجنسية، والأهم المتحررة من الكادرات الدينية. تحولت هذه الشخصيات، من دون حصر، إلى ناقدة للذات. كلٍّ واحد منهم "يتهكم" على بيئته وخصوصيتها بأسلوب ذكي يمزح بين "النكتة" والرسائل الظاهرة والمبطنة.

استقطبت هذه المجموعات المغتربين/ات اللبنانيين/ات المنتشرين/ات في دول الاغتراب. فعروضها باتت في باريس وأمستردام ولندن ومختلف العواصم التي هُجّر إليها الشباب والشابات. ولم تسلم من حملات مناهضة من أبناء بيئتها تحت ذريعة "المس بالمقدّسات"، كما حصل مع قاووق ومحمد الدايخ عندما انتقلا إلى عرض برنامج خاص بهما على الشاشة الصغيرة.

تتالى على المسرح اللبناني سيناريوهات عدّة منذ أن تصاعد وجوده، وكثر الممثلون فيه. لا ينكر أيّ من اللبنانيين، أو سائر المتابعين للمسرح، أنّ الأخوين الرحباني ساهما في انتشال الفن اللبناني في مرحلة ما، إلا أنّ الضوء يبقى مسلّطاً على أغانيهما التي طغت على مسرحياتهما. ومع تتالي الأزمات واحدةً تلو الأخرى، وجد اللبناني نفسه غير مبالٍ لـ"كليشيهات" المسرح القديم، ولا للتعايش المشترك المستهلك بكثرة، لأنّه أمر سياسي بحت. تتّجه الأنظار اليوم، لا سيّما أنظار الفئة الشبابيّة، إلى المسرح التفاعلي، أو الارتجالي، الذي يحاكي واقعاً يُضحك شخصاً على نفسه وبيئته.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image