يبدو أنه لم يكن الوقت الأنسب لطلب نصيحة صديقي الشاعر الموهوب، الذي يكبرني بعدّة سنوات، والذي كان قد حقّق بكلماته نجاحاً بارزاً في "سوق" الغناء، فقد اقترح عليّ الشاعر آنذاك، أي قبل أكثر من عشرين عاماً، تعديل بعض كلمات قصيدتي الغنائية لتصير "أبسط"، متبعاً نصيحته بنصيحة أخرى أكثر واقعية ،أو إيلاماً: "اعتبر أنك تكتب لثلاثمئة مليون ساذج في الوطن العربي"!.
هل اكتسب مطربو تلك الفترة "ألوانهم" من الواقع أم أن الواقع قلّدهم؟
في الواقع، استخدم صديقي كلمة أكثر قسوة من "ساذج"، لكن المعنى واحد على أية حال؛ إياك أن تعتمد على "ذكاء" المستمع، اعثر على أكثر الكلمات بساطة، ثم قُمْ بتبسيطها أكثر، لتلائم المستمعين.
لحسن الحظ أن صديقي نفسه لم يتبع نصيحته المُغرقة في الإحباط، صحيح أنه لم يصبح -لأسباب كثيرة- في نجومية شعراء غنائيين آخرين، على غرار أيمن بهجت قمر أو مدحت العدل، إلا أنه كتب العديد من الأغنيات فائقة الجمال لعدد غير قليل من نجوم الغناء، وكان منهم أحد أبرز نجوم المرحلة التي خضنا فيها حوارنا ذاك؛ أي علاء عبد الخالق.
كان ذلك في الفترة بين ألبوميّ "طيارة ورق" الذي حققت فيه الأغنية التي حمل الألبوم عنوانها نجاحاً بارزاً، وألبوم "هتعرفيني" الذي حققت أغنيته "داري رموشك" والفيديو كليب الذي صوّر لها، نجاحاً لا يقلّ عن نجاح "طيارة ورق". نتحدّث إذن عن الفترة بين أوائل ومنتصف تسعينيات القرن الماضي، أو بين الألبومين الخامس والتاسع لعلاء عبد الخالق، منذ ترك فرقة الأصدقاء التي أسّسها - في عصر رواج الفرق الموسيقية – الموسيقار عمار الشريعي، لتضم إضافة إلى الصوتيين الرجاليين، علاء وعمّار، صوتين نسائيين – اعتزلا فيما بعد - هما حنان ومنى عبد الغني.
لا ألقاب كالعندليب أو الملك، وإنما أصوات، وحتى أسماء عادية كأنها مأخوذة من وثائق السجل المدني، كـ هشام عباس وإيهاب توفيق، أصوات اكتسب معظمها نجاحه من اللمسة السحرية لتوزيع حميد الشاعري، ومن كلمة "شبابية" التي أضفت على أغنية ذلك الزمن كل ما يخصّها
كانت تلك أيضاً فترة الأصوات التي تبدو عادية، لا مواهب صوتية كبرى على غرار عبد الحليم وأم كلثوم، ولا حتى في المستوى "الطربي" للأجيال التالية، كـ عمر فتحي وعماد عبد الحليم ومحمد منير وعمرو دياب. لا ألقاب كالعندليب أو الملك، وإنما أصوات، وحتى أسماء، عادية كأنها مأخوذة من وثائق السجل المدني، كـ هشام عباس وإيهاب توفيق وحسام حسني، أصوات اكتسب معظمها نجاحه من اللمسة السحرية لتوزيع حميد الشاعري، ومن كلمة "شبابية" التي أضفت على أغنية ذلك الزمن كل ما يخصّها، من أغنيات قصيرة وملابس غير رسمية و"تنطيط" على المسرح أو في الأغاني المصوّرة، و"إفيهات" من قبيل "دباديبو" لـ مصطفى قمر، والكثير من الألوان البرّاقة في الصور وأفيش الألبومات والكليبات، الكثير من الأصفر والبرتقالي والفسفوري.
هل اكتسب مطربو تلك الفترة "ألوانهم" من الواقع أم أن الواقع قلّدهم؟ لا يزال أبناء جيلي، مواليد أواخر السبعينيات، وهم ربما الأكثر تأثراً بخبر رحيل علاء عبد الخالق، يتذكّرون بالتأكيد أن الألوان الفاقعة كانت "موضة" ذلك الزمن، حتى أن أكثرها دكنة كان مزيج الأصفر مع الأسود، وقصّة الشعر المرتفعة "البانك" مع تقصير جانبي الرأس، بالتوازي مع تسريحة "الأسد" النسائية وفساتين الثمانينيات/التسعينيات التي "تزغلل" الأبصار من فرط شيوع الألوان فيها، نظرة سريعة على كليبات لطيفة التونسية أو هدى عمار، كفيلة بأن تنعش تلك الذاكرة اللونية.
ليس علاء عبد الخالق استثناء من تلك الألوان، يصوّر كليب "طيارة ورق" في حقل أصفر من زهور عباد الشمس، مع "فلتر" برتقالي، ويبرق اللون الأصفر في فستان جيهان نصر بطلة كليب "داري رموشك"، بالتوازي مع الألوان الفسفورية في "تيشيرتات" علاء في الأغنية نفسها، بنفس الدرجة التي يطغى اللون البرتقالي على غلاف ألبومه "وياكي".
كانت للأغنيات – التي طالما انتُقدت في زمنها – معانٍ لا تشترط بالضرورة مستمعاً ساذجاً، حتى وإن توسّلت إليه بغلالة باهرة من الألوان، بقيت في الذاكرة كعلامة على زمن انقضى، مهما حاولت استعادته النوستالجيا
هل كانت تلك الألوان، في عدسات الكاميرا والملابس والأحذية والحقول هي إحدى وسائل هذا الجيل للفت الانتباه، هل كانت وسيلة تلك الحقبة (الراكدة؟) برمّتها لمقاومة النسيان؟
لم تكن الصورة على أية حال – و لا "التنطيط" على المسارح – وحدها وسائل الاختلاف، فعلى الرغم من نصيحة "البساطة" المحبطة من صديقي الشاعر الموهوب، كانت كلماته، وكلمات مجايليه من الشعراء، علامات توقف بعدها تقريباً حضور الفن الشعري في كلمات الأغنية "الشبابية"، التي تحوّلت معظم "قصائدها" فيما بعد إلى مجرّد جسر لغوى لمعاني محدودة، غابت عنها الصورة الشعرية والمجاز لمصلحة "خناقات" غنائية مستمدة من عالم الراب، أو كلمات غزل كسول مطعّم بأطنان من أوصاف الفواكه والحلوى، تذوّق فجّ لا علاقه له مثلاً بصورة تذوّق الندى في "طيارة ورق" (كلمات أحمد مرزوق): "دوقني طعم الندى يا ابو قلب كله خَضار/ صوت الغريب ابتدى وبقاله أهل ودار"، ولا يعرف حكمة الغناء في كلمات مجدي نجيب: "الفرح له صاحب والحزن له صاحب/ وأنا ع الوعد متصاحب" من "مرسال"، وهو أول ألبومات علاء المنفردة.
هل كانت تلك الألوان، في عدسات الكاميرا والملابس والأحذية والحقول هي إحدى وسائل هذا الجيل للفت الانتباه، هل كانت وسيلة تلك الحقبة (الراكدة؟) برمّتها لمقاومة النسيان؟
كانت أمثال هذه الكلمات، وموسيقى ألحانها (مدحت الخولي/ أحمد منيب)، هي أول ما تذكّره الناس حين عرفوا بموت علاء عبد الخالق، حين كانت للأغنيات – التي طالما انتُقدت في زمنها – معانٍ لا تشترط بالضرورة مستمعاً ساذجاً، حتى وإن توسّلت إليه بغلالة باهرة من الألوان، بقيت في الذاكرة كعلامة على زمن انقضى، مهما حاولت استعادته النوستالجيا.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...