حياكة الكلام
مشهد 1 "ليلي- داخلي" مسرح كبير
يقف شاب في العشرينات من عمره، بشرته سمراء اللون، شعره مجعد، يرتدى بنطلون جينز وقميصاً أبيض اللون، يمسك الميكرفون في يده. جموع الجمهور يهتفون: "حليم... حليم" رغبة منهم في سماع أغنية لعبد الحليم حافظ. يبتسم الشاب في خجل، ثم يبدأ في الغناء غير عابئ بما يريدون. دقائق ويسود هرج ومرج. يبدأ الجميع في الهجوم على الشاب الذي يجري مسرعاً ليخرج من المسرح، ويستمر في الجري حتى يختفي...
مشهد 1 A "نهاري- خارجي" إحدى قرى النوبة
درجة الحرارة 53 رغم تأكيدات الحكومة أنها لم تتجاوز ال 40 درجة. الشمس حارقة للغاية. هرج ومرج يسود القرية. يجرى الجميع في اتجاهات مختلفة هرباً من الفيضان. مشهد مصغر من طوفان نوح.
يجرى طفل صغير لم يتجاوز العاشرة، يضرب الأرض الساخنة للغاية بقدميه، حتى يصل للقطار الذي يصدر صوتاً عالياً ويبدأ في الحركة. يقترب الفتى وتمتد يد إليه لتساعده على الصعود إلى القطار. ينظر الفتى وراءه، يرى المدينة تتلاشى. يلقى عليها نظرة أخيرة ثم يدخل إلى القطار .
_قطع _
مشهدان مختلفان من مراحل مختلفة لحياة محمد منير، الذي إذا أردنا ان نضع جملة تعريفية لحياته، ستكون النوبي الذي يعدو دائماً. فمنذ ولد، كل شيء حوله يتحرك بسرعة. من دولة غيرت نظام حكمها، إلى حروب متتالية أنهكت جيشها، إلى سد عال هجره وأهل قريته إلى مأوى آخر. كل شيء حول منير كان يتحرك بسرعة: الموسيقى، الحياة، الدولة، وهو أيضاً كان يواكب التطور سريعاً. كان يجري ولا يقف، حتى أصبح الكينج الذي يجري مسرعاً من كل شيء وإلى كل شيء.
البدايات أيضاً سريعة
مشهد 2 "نهاري- داخلي – خارجي" أحد بيوت النوبة – الشوارع
رجل في الأربعينيات من عمره يتم إيقاظه ليخبروه أن زوجته تلد. يجري الرجل مسرعاً، حافي القدمين، ليجلب الداية. لم يأخذ الأمر وقتاً طويلاً. دقائق بعدها وتم سماع صوت الولد. أسماه أبوه محمد، بعدما ابتسم وقبله ليصبح فرداً آخر في العائلة.
_قطع _
لم تنم مواهب الولد منذ صباه، أو كان ذا موهبة منذ ولادته، بل كان طفلاً طبيعياً يعيش مع أسرته التى تراقب الوضع السياسى والاجتماعى المتخبط، من السد العالي، لحروب الدولة، للتغيرات السياسية للتأكيد على أهمية أهل النوبة، ثم إهمالهم، ثم الطامة الكبرى: التهجير مع تأكيدات العودة مستقبلاً حينما يتم الانتهاء من السد. رحل منير مع أسرته إلى أسوان. كيلومترات قليلة تفصلهم، ولكن الفرق كبير بين النشأة والجذور. واكب منير التطور. تعامل مع الوضع السريع من حوله حتى التحق بكلية الفنون التطبيقية، ليبدأ العدو في محافظة أخرى وعلى نطاق أوسع.
أسوان - القاهرة. عدواً
مشهد 3 "ليلي– خارجي" أحد شوارع القاهرة
شاب في أواخر العشرينيات، طويل وعريض المنكبين، بجواره شاب صغير ورفيع، وشعره مجعد، يجريان بأقصى سرعة. يبدوان في عدوهما كأنهما جزء من القطار الذي يجري، ولكنهما يسرعان بأقصى جهد لهما، حتى يلحقا هدفاً يعرفانه بمفردهما فقط.
_قطع _
كل شيء حول منير كان يتحرك بسرعة: الموسيقى، الحياة، الدولة، وهو أيضاً كان يواكب التطور سريعاً. كان يجري ولا يقف، حتى أصبح الكينج الذي يجري مسرعاً من كل شيء وإلى كل شيء... مجاز
أخذ فاروق أخاه منير إلى فسحة حلوة كما قال له. الفسحة كانت تتضمن الذهاب إلى بيت بليغ حمدي، ليس من أجل منير، ولكن من أجل فاروق الذي أراد أن يستمع إليه بليغ، فأخذ منير معه حتى يرفه عن نفسه قليلاً، ولكن شيئاً أعظم كان في انتظار منير، فبمجرد غناء فاروق لفترة، طلب بليغ منهما أن يتوقفا وأن يغنى منير بمفرده. البداية كانت هنا. صوت بدا لوناً جديداً ومختلفاً. نسخة ليس لها مثيل بدلاً من محاولات التكرار الكثيرة المتمثلة في هاني شاكر ومحمد الحلو، وحتى علي الحجار الذي أرادوا منهم نسخة أخرى من عبد الحليم، ولكن منير كان نسخة ليست كمثلها شيء. نسخة حديثة من عصر أصبح فيه كل شيء مختلفاً.
في تلك الفترة، قدم منير أول ألبوماته "علموني عنيكي". لم يحقق الألبوم النجاح المرجو. موسيقى غريبة يستمع إليها الجمهور، ومطرب ذو بشرة سمراء يتراقص مع الموسيقى. كل هذا جعل الجمهور يتعجب مما يستمع إليه. لم تيأس الشركة، وراهنت على منير. أكمل منير مع نفس الفريق، في مقدمتهم هاني شنودة، وعملا سوياً في ألبوم "بنتولد" الذي حقق نجاحاً نسبياً أكثر من الأول، ورغم أنه كان بداية النجاح، إلا أنه كان نهاية التعاون مع هانى شنودة، وبداية مرحلة أخرى لمنير مع يحيى خليل.
الثمانينيات... الكون كله بيدور
مشهد 4 "ليلي _داخلي" مسرح كبير
يقف شاب في العشرينيات من عمره، بشرته سمراء اللون، شعره مجعد، يرتدى بنطلون جينز وقميصاً أبيض اللون. يمسك الميكرفون في يده. جموع الجمهور يهتفون: "حليم... حليم" رغبة منهم في سماع أغنية لعبد الحليم حافظ. يبتسم الشاب بخجل. يخبرهم بصوت تملؤه الثقة والخوف: "أنا بموت في عبد الحليم، بس للأسف معرفش أغني له".
علّى صوتك بالغنا، لسه الأغاني ممكنة
ولسه ياما ياما في عمرنا
ولو في يوم راح تنكسر
لازم تقوم واقف كما النخل باصص للسما
ولا انهزام ولا انكسار
ولا خوف ولا ولا حلم نابت في الخلا
يبدأ بغناء أغنية "علموني عنيكي". مارشات عسكرية وكلمات غريبة لم يعهدها الجمهور من قبل. يبدأ الجمهور بالامتعاض، ويسود هرج ومرج ويبدأ في الانقلاب على منير، الذي يجري مسرعاً من المسرح بأقصى سرعة، ليجد في الخارج شخصاً يركب سيارة مرسيدس بنز 1980 في انتظاره. يفتح له باب السيارة ليركب السيارة، ويتحركان سوياً نحو مرحلة أخرى طار فيها منير ولم يعدو فقط.
_قطع _
الأفضل أن نطلق على مرحلة يحيى خليل مع منير "مرحلة الطيران"، فقد أخذ منير في مرحلة أخرى من كل شيء. البداية كانت مع ألبوم "شبابيك"، الألبوم الأعظم والأهم لمنير، والذي كسر به نسبة المبيعات وحقق نجاحاً هائلاً. استمر منير مع يحيى خليل وفرقته التى تكونت من عزيز الناصر وفتحى سلامة، اللذين شكلا مع خليل ومنير تغييراً ولوناً موسيقياً جديداً حتى عام 1978. نتج عنها ألبومات "اتكلمي" و"برئ"، ثم كان الانفصال والخلاف في ألبوم "وسط الدايرة" الذي اختلف بعده الاثنان، وتبادلا فيه المناوشات والتصريحات الصحفية، وبدأ كل منهما مرحلة أخرى في حياته بعيداً عن الآخر. يحيى خليل وإثباتاً لقدرته على صنع النجوم، ومنير إثباتاً أنه بنفسه مصدر نجوميته، وأن الاختلاف الموسيقى نابع منه كشخص قبل أن يأتي من أفراد مهّدوا له الطريق وساعدوه فقط، ولكن البداية كانت من عنده.
التسعينيات ولسه بيجرى ويعافر
مشهد 5 "ليلي- داخلي" أحد شوارع القاهرة
يجري منير في شوارع القاهرة، يحيي الجمهور هو وفرقته الموسيقى، ويحييه الجميع. فجأة يختفي أعضاء فرقته، واحداً تلو الآخر. يدخلون شوارع جانبية، ثم لا نراهم تماماً. يظل منير يجري يحيي الجمهور وهو مبتسم نصف ابتسامة، يطمئن بها نفسه. يدخل منير إلى شارع فارغ ليس فيه أي شخص. يقف ليلتقط أنفاسه ويتسند على ركبتيه. فجأة يستمع إلى صوت نسائي يدعوه من بعيد. يذهب إليه ويمد يده، ثم يذهبان سوياً إلى الأمام بسرعة.
_قطع _
مرحلة التسعينيات لمنير هي مرحلة التغيير. خرج فيها من عباءة يحيى خليل وهانى شنودة. أراد أن يثبت أنه سبب نجاحه بنفسه. وأول خطوات هذا الإثبات كان التغيير.
يدخل منير إلى شارع فارغ ليس فيه أي شخص. يقف ليلتقط أنفاسه ويتسند على ركبتيه. فجأة يستمع إلى صوت نسائي يدعوه من بعيد. يذهب إليه ويمد يده، ثم يذهبان سوياً إلى الأمام بسرعة... مجاز
كان على المنير التخلي عن فكرة أنه مطرب نوبي، وأن يهبط إلى المجتمع قليلاً، وأن يتم اعتباره مطرباً من الأساس، بعيداً عن التصنيفات على أساس العرق واللون، ولهذ أصبح يختار كلمات أغاني وموسيقى تجعله أقرب للواقع. في التسعينيات كان منير أهدأ وأكثر ثقة بنفسه، فأصبح يغني مايحلو له من أغان قديمة، وحتى نوبية، بدون أن يقع في فخ التصنيف. ولكن كل هذا لم يأت مرة واحدة، بل أتى من تعاونات، وجد فيها منير نفسه وأشخاصاً وثق فيهم فأعطوه مايبرز فيه مساحته الشخصية والفنية، ويثبت أنه نجم مشروعه الموسيقى المختلف.
ولعل أول هؤلاء الأشخاص سيدة، ليست زوجة ولا أخت، ولكنها شاعرة ورفيقة درب، وهي كوثر مصطفى التي تعتبر كلمة سر تحول منير في التسعينيات. بدأ تعاون كوثر ومنير منذ عام 1994 في ألبوم "افتح قلبك" واستمر التعاون لسنوات طويلة، أنتج فيها أغاني مثل "النيل" و"ليلة واحدة" و"علّي صوتك" ( الأغنية الخاصة بفيلم المصير ليوسف شاهين ) و"شتا".
الألفينات والملك هو الملك
مشهد 6 "ليلي- خارجي" أمام أحد مسارح القاهرة 1988
ينتهى العمال من وضع الأفيش أمام المسرح. يرحل كل منهم بعدما أخذ حسابه. تتوقف سيارة بيضاء اللون أمام الأفيش. لا نرى من بداخلها. تقف لدقائق معدودة، ثم ترحل مسرعة. نرى الأفيش حينها بوضوح، مكتوب عليه مسرحية "الملك هو الملك" بطولة صلاح السعدني ومجدي فكري وعلى حسنين ولطفي لبيب والمغني محمد منير.
مشهد 7 "ليلي- خارجي" دار الأوبرا المصرية عام 2006
يقف منير في وسط المسرح. يضع يده في وسطه. يتمايل مع الموسيقى ويتمايل معه جموع الحاضرين الذين يتفاعلون بشدة، ويهتفون: "الكبير كبير يامحمد يامنير"، وآخرون يحملون لافتات مكتوب عليها "الكينج". يبدو منير واثقاً ويبتسم بشدة ويتراقص مع أنغام الموسيقى، ويتفاعل معه الجمهور ويبدأ الهتاف مرة أخرى.
_قطع _
تعتبر مرحلة الألفينات لمنير هي المرحلة التى حصد فيها ثمار الجري المتواصل طوال مسيرته، رغم كونها فنياً ليست الأقوى، ولكنها كانت ذات منحنى متقلب للغاية، من نجاحات ساحقة للغاية، لتخبطات ومستوى لم يرض عنه الجمهور، ولكنه مرّره عنوة لتاريخ منير ولحبهم له. منير أصبح في تلك الفترة أكثر حرية من ذي قبل. أصبح يغنى لمن يحبهم، كنجاة ووردة، كأغنية "أنا بعشق البحر" و"حكايتي مع الزمان" وحتى "آه ياسمراني" لشادية. أصبح يغنى نوبياً وجزائرياً. يتوغل في الوطن العربي ليجلب ما يريد، يلونه بلونه وبأسلوبه، ويعلم أن الجميع سيحبه منه. وصلت النجاحات إلى ألبوم "طعم البيوت"، بعده فقد منير جزءاً من بريقه. ألبوم متوسط المستوى عام 2012. موقف سياسى متأرجح، نفر منه قطاع كبير، ولكن كل هذا لم يفقده شعبيته، ظل هو الملك. الملك الذي يجرى من أجل محبيه ولكنه كبر، أصبح سنه أكبر. الجري أصبح حركة، والحركة أصبحت خطوة، والخطوة أصبحت تحاملاً على عكاز، ولكنه مهما فعل سيظل الملك الذي له مريدين وله جمهور سيردد دائماً أنه "الكينج".
مشهد 8 "ليل- داخلى" أحد المسارح القاهرة عام 2022
يصعد منير على المسرح بمساعدة أشخاص. حركته تبدو أبطأ وجسده دسّ فيه الزمن من توابعه. يقف على المسرح. ينظر للجمهور الذي يقف ويهتف باسمه. يبتسم منير، وترغرغ عيناه بالدموع، ويبدأ بالغناء، ويتحول كمن مسّه جن. يبدو أصغر سناً وأكثر حيوية وأكثر سرعة، من أجل جمهوره الذي يجري عليه وهو يهتف باسمه.
_قطع _
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكلام صحيح والله الواحد كان مكسوف وهو بيقرأ الكلام ده و فى ناس حوله لسه بيهزروا فى نفس الموضوع ،...
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامعن أي نظام تتكلم عن السيدة الكاتبة ، النظام الجديد موجود منذ سنوات ،وهذه الحروب هدفها تمكين هذا...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعجميل جدا وتوقيت رائع لمقالك والتشبث بمقاومة الست
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال مدغدغ للانسانية التي فينا. جميل.
Ahmed Adel -
منذ اسبوعينمقال رائع كالعادة
بسمه الشامي -
منذ 3 اسابيععزيزتي
لم تكن عائلة ونيس مثاليه وكانوا يرتكبون الأخطاء ولكن يقدمون لنا طريقه لحلها في كل حلقه...