شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!
جاك دريدا يشرح لي معضلة أن أكون سورية

جاك دريدا يشرح لي معضلة أن أكون سورية

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والتنوّع

الجمعة 7 يوليو 202311:41 ص

"إذا عرف السبب بطل العجب" هذا ما قلته لنفسي بعد أن أنهيت بحثي في الماجستير عن الفيلسوف التفكيكي، جزائري المولد، اليهودي الديانة، والفرنسي اللغة جاك دريدا، فقبل ذلك لم أكن أعرف أني أعاني من أزمة هوية، ولم أعرف أن كل صراع عشته حتى الآن ليس إلا محاولات للتكيّف مع مجتمع ذي هوية واحدة ومفروضة لا يقبل غيرها.

الهُوية وليس الهَوية

فرق كبير بين الهُوية والهَوية التي تعني العناصر المدوّنة على السجلات الرسمية، أي البطاقة التي يكتب عليها مكان السكن ولون البشرة والجنس والدين، فعلى الرغم  من أهمية هذه العناصر لكنها لا تثبت شخصية الإنسان وشعوره الداخلي وتكيّفه مع الحياة الاجتماعية المتغيرة، خاصة في ظل التطور التكنولوجي الهائل الذي يجتاح العالم اليوم. لذلك نجد أنفسنا مضطرّين لتعريف الهُوية، فهي الخصائص غير الثابتة التي تميز الإنسان عن غيره، كاللغة والثقافة، وخير مثال على ذلك ما ذكره الأديب اللبناني الذي عاش في فرنسا، أمين معلوف، بأن الهوية ليست ثابتة بقوله: "يحدث لي أحياناً أن أقوم بما أدعوه تفحّص هويتي، مثلما يقوم بعضهم الآخر بتفحص ضمائرهم... فأنا أبحث في ذاكرتي لأكشف عن أكبر عدد من عناصر هويتي وأجمعها وأرتبها ولا أنكر أياً منها".

فرق كبير بين الهُوية والهَوية التي تعني العناصر المدوّنة على السجلات الرسمية، أي البطاقة التي يكتب عليها مكان السكن ولون البشرة والجنس والدين، فعلى الرغم  من أهمية هذه العناصر لكنها لا تثبت شخصية الإنسان

بين العامية والفصحى

وهنا يجب الإشارة إلى أن خصائص الهُوية يتعلّمها الإنسان من الأسرة والبيئة المحيطة به، ومن أهمّ هذه الخصائص، اللغة والثقافة بما تحتوي عليه من عادات وتقاليد. اليوم، نحن كعرب، لغتنا الأم هي اللغة العربية الفصحى، ولكن نجد أن لكل دولة لهجتها الخاصة، وحتى داخل الدولة الواحدة نجد لهجات تختلف من محافظة الى أخرى ومن منطقة الى أخرى، حتى أننا في بعض الأحيان نجد اختلافاً في اللهجة ضمن الأسرة الواحدة، وهذا ما يسبّب نوعاً من التخبّط اللغوي داخل الفرد، فعندما يصبح الطفل في المدرسة يجد أنماطاً جديدة من اللهجات مختلفة عن اللهجة التي اكتسبها من أسرته، وكلّها تؤثر في طريقة كلامه. يسبّب هذا التخبّط فوضى في كلام الطفل، فتراه أحياناً لا يستطيع التعبير عن نفسه بكلام مفهوم، فعندما يطلب منه أستاذه كتابة موضوع تعبير تجده عاجزاً عن كتابة وصياغة الكلام، وهذا بالفعل ما ألاحظه مع بعض طلابي عندما أطلب منهم أن يعبّروا عن آرائهم في موضوع معين، لأتفاجأ أن الكثيرين يطلبون مني أن يعبّروا بالعامية لأكتشف أن حتى اللغة العامية عندهم غير مفهومة ولا تؤدي لنتيجة.  

هذه الفوضى اللغوية ذاتها التي تفسر تلبّكنا عندما يسألنا أحدهم سؤالاً غير متوقع، ونرد بإجابات عشوائية أو قد لا نردّ أبداً، وعندما نعود الى المنزل نجلد ذاتنا بالقول: لماذا لم نرد هكذا، ولماذا لم نقل هذا؟

كل هذا حقيقةً سببه الرصيد اللغوي الضعيف عندنا، وربما تكون اللهجات العديدة التي نسمعها سبباً رئيسياً لهذا الضعف، وهذا ما له تأثير كبير على هويتنا على اعتبار أن اللغة هي العنصر الأساسي في تشكيل الهوية.

"ما بيعرف يحكي كلمتين"

 عندما يبدأ شخص ما الحديث فإمّا أن نسمعه بكامل حواسنا وإمّا أن نغض النظر عنه وعن كلامه، ونحكم عليه بجملة مشهورة: "ما بيعرف يحكي كلمتين ع بعضن"، وبذلك أصبحت اللغة حكماً قاسياً يُخرج الكثيرين خارج دائرة الفهم، أو يُجبر الكثيرين على الصمت تجنّباً لتلك الأحكام القاسية.  

حتى إن مجرد الاختلاف في اللهجة قد يكون سبباً في تشتت الهوية، وهذا ما لاحظناه في سوريا مع اضطرار الكثير من الأسر أثناء الحرب للنزوح من المحافظات غير الآمنة إلى الأخرى الآمنة، وصراعهم مع ذواتهم لأجل التكيّف من جديد في بيئات مختلفة كلياً عنهم، فيجدون أنفسهم في منازل جديدة ومع ناس جدد وعمل جديد ومدارس جديدة، وفوق كل هذا لهجة جديدة، فما إن يفتح فمه ليتفوّه بكلمة حتى يظهر اختلافه، وفي بعض الحالات يفتضح أمره، فتكون لهجته المختلفة سبباً لاضطهاده.

أنا ودريدا

أتذكّر عداء ونفور إحدى قريباتي مني عندما قلت لأمي أمامها: "لا أريد أن أشتري (جهازاً) كعادة كل نساء الحي المُقدمات على الزواج"، وبمجرد خطوبتي استسلمت سريعاً لإجراء مثل هذه العادة التي كنت أمقتها. إن مجرّد حديث كان سيسبّب حرباً على من يحاول مجرّد محاولة أن يخرج عن قدسية العادات، لكنني الآن، وبفضل دريدا، تعلمت أن لا حقيقة مطلقة وأن كل انسياق وتسليم ليس إلا تمركزاً، وهذا ما تعلمت أن أرفضه.  

بحكم أنني أعيش في سوريا في ظل الحرب، زاد وعيي بأزمة الهوية، كما زاد تأثري بدريدا.  فهناك الكثير من التناقضات التي عانت منها هويتي مثل العديد من السوريات، لأجد نفسي مشتتة بين هنا وهناك، وكما يقول دريدا: "أنا في حرب على نفسي"

اتخذ دريدا استراتيجية التفكيك حول الثقافة والهوية، التفكيك الذي هو أشبه برؤية مستقبلية تعتمد على تلاشي كل مركز، فالتفكيكية تعمل ضمن فضاء حر مفتوح، فهي ليست تحليلاً ولا نقداً ولا منهجاً بل هي أوسع من ذلك بكثير. إنها استراتيجية للتعامل مع النصوص التي لا تشير إلى أي شيء خارجها، كما يقول دريدا (لا شيء خارج النص) وتعني ما وراء النص، وكثيراً ما يتم فهم هذه العبارة بأن المعنى في النص هو معنى واحد، ولكن في الحقيقة تعني أن أي قارئ للنص سيفهم معنى خاصاً به من خلال تأويله للنص، وكأن النصّ أصبح ملكاً للقارئ، وكل قارئ هو مؤلف جديد أي ان المؤلف ينتهي دوره بمجرد كتابته للنص.

 عندما أراد أحدهم أن يشرح بيت الشعر لأبي النواس الذي يقول فيه: اسقني خمراً وقل لي إنها خمر/ ولا تسقني سرّاً إن أمكن الجهر

 فكان شرحه كالتالي بأنه، أي أبو النواس، يريد أن يستلذّ بالخمر بكل حواسه، فهو يلمس ويرى ويشم ويتذوق وبقيت حاسة السمع، لذلك طلب أن يقال له إنها خمر ليسمع كلمة الخمر، فأجابه أبو النواس: والله أحسنت لكني لم أقصد ذلك.

بحكم أنني أعيش في سوريا في ظل الحرب، زاد وعيي بأزمة الهوية، كما زاد تأثري بدريدا.  فهناك الكثير من التناقضات التي عانت منها هويتي مثل العديد من السوريات، وأثناء بحثي العميق لفهم دريدا والبحث عن نقاط مشتركة، اجتمع البحث مع الشعور الداخلي، وإذ به يتحول من شعور إلى عشق لكل تفاصيله، جعلتني أفكك شخصيتي وأبحث عن الما وراء في كل شيء، وأفتح عيني جيداً، لأصف نفسي تائهة بين منزل وآخر ودوام مدرسة ودوام جامعة، وبين أم وزوجة وطالبة ومدرّسة، ومن حالة ميسورة الى حالة يرثى لها بسبب الأزمات التي مرت بها البلاد، خاصة في الفترة الأخيرة، ومع كل حالة كان علي أن أغير هويتي لأتكيّف مع الحالة الجديدة، لأجد نفسي مشتتة بين هنا وهناك، وكما يقول دريدا: "أنا في حرب على نفسي".

كل مشكلة لها حل إن عُرف السبب، وطالما أن السبب معروف من خلال دراستي لدريدا، فبالتأكيد كان الحل معه أيضاً. الحل هو في اختراع هوية خاصة ولغة خاصة لا تنتمي لأي آخر، وذلك لا يكون إلا من خلال الكتابة، فأن تكتب يعني أن تتخلص من كل المعاناة، أن تكتب يعني أنك حر، أن تكتب يعني أن تقاوم السيطرة.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

بالوصول إلى الذين لا يتفقون/ ن معنا، تكمن قوّتنا الفعليّة

مبدأ التحرر من الأفكار التقليدية، يرتكز على إشراك الجميع في عملية صنع التغيير. وما من طريقةٍ أفضل لنشر هذه القيم غير أن نُظهر للناس كيف بإمكان الاحترام والتسامح والحرية والانفتاح، تحسين حياتهم/ نّ.

من هنا ينبثق رصيف22، من منبع المهمّات الصعبة وعدم المساومة على قيمنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image