هل يمكن الاستغناء عن فقرة مصادر التشريع في الدستور؟ أليس الدستور، في حد ذاته، الوثيقة التشريعية الأعلى للدولة؟ هل يحتاج التشريع إلى شهادة مصدر ومنشأ؟ الفعل التشريعي هو استجابة وحل لمشكلة اجتماعية أو اقتصادية أو سياسية مُحدّدة، ومعيار التشريع الجيّد داخلي، يُقاس بمدى كفاءته في حلّ المشكلات المُستجدّة، والتشريع الجيد هو التشريع الذي يلتزم بأولويات الحياة والعدل والحرية للمواطنين، وتالياً معيار التشريع الجيد هو في متن نصه وسياقات تطبيقه بغض النظر عن المصدر والتسميات.
في الحالة السورية، هل من الممكن شعبياً تسويق دستور سوري لا يتضمّن فقرةً عن مصادر التشريع، علماً أن غالبية الدساتير العربية -والسوري منها- تُجمع على تضمين فقرة عن مصادر التشريع ونسبتها كلياً أو جزئياً إلى الدين والإسلام؟ فهل التضمين الدستوري لمصادر التشريع تقتضيه اعتبارات ثقافية تخص الهوية الوطنية للشعب؟ أم اعتبارات بروتوكولية تسويقية للسلطة الحاكمة؟ أم كلاهما؟
وحدة معايير نقد الدستور السوري
لا تنبغي مناقشة المادة التي تنص على مصادر التشريع، بمعزل عن المواد الأخرى في الدستور نفسه. على سبيل المثال، نصّت المادة الثالثة من دستور عام 1973، على أن "الفقه الإسلامي مصدر رئيسي للتشريع"، وجاء في المادة الثامنة من الدستور نفسه أن "حزب البعث العربي الاشتراكي هو الحزب القائد في المجتمع والدولة"، أي أنّ تفاصيل المادة الثالثة الخاصة بالفقه الإسلامي كمصدر للتشريع يفسرها حزب البعث العربي الاشتراكي كونه قائد الدولة والمجتمع، ويُعهد بتطبيقها إليه.
أعطى دستور عام 2012 صلاحيات شبه مطلقة لرئيس الجمهورية، بما يتضمن صلاحيات تشريعيةً وقضائيةً
كذلك، نصّ دستور عام 2012، في المادة الثالثة منه على أن "الفقه الإسلامي مصدر رئيسي للتشريع، تحترم الدولة جميع الأديان، وتكفل حرية القيام بجميع شعائرها على أن لا يخلّ ذلك بالنظام العام وأن الأحوال الشخصية للطوائف الدينية مصانة"، وأعطى صلاحيات شبه مطلقة لرئيس الجمهورية، بما يتضمن صلاحيات تشريعيةً وقضائيةً، فرئيس الجمهورية هو رئيس مجلس القضاء الأعلى بحسب المادة 131، وهو الذي يقوم بتعيين رئيس المحكمة الدستورية بناءً على مرسوم جمهوري بحسب المادة 141، وله صلاحية حل مجلس الشعب بقرار معلل (المادة 111)، أي عملياً، أصبح النظام السياسي على غرار الدول السلطانية، التي تكون فيها رغبات رئيس الجمهورية وإرادته بمثابة المصدر الرئيسي للتشريع، لا شيئاً آخر، وسواء أكان هذا المصدر ينتمي إلى مرجعية الشريعة الإسلامية أو لا.
انتقد كثيرون من المثقفين السوريين المادة الثالثة من الدستور الحالي، ودستور عام 1973، أي "دين رئيس الجمهورية الإسلام، والفقه الإسلامي مصدر رئيسي للتشريع"، لأنها تُميّز ضد السوريين من غير المسلمين. كذلك، فإنّ الفقه الإسلامي التقليدي السائد اليوم يعرض لمنظور تمييزي ضد المرأة في قانون الأحوال الشخصية.
في المقابل، انتقاد هذه المادة الدستورية دون غيرها من المواد التي تخلّ بتوازن السلطات الثلاث، يُخفي ازدواجيةً في المعايير، فانتقاد المادة الثالثة دون غيرها والسكوت مثلاً عن مادة التعديل الدستوري في ما يخص عمر رئيس الجمهورية عام 2000، بما يناسب توريث السلطة، يكشف عن انحياز ثقافي فئوي مُسوّغ للاستبداد، عن قصد أو من غير قصد، إذ لا تستوي مناقشة موضوع "مصادر التشريع في الدستور السوري"، بمعزل عن تقيّد السلطة الحاكمة واحترامها للدستور كوثيقة تشريعية عليا، ومناقشة موضوع "مصادر التشريع" بمعزل عن الوزن العملي لها، يشوّش الصورة الكلية للنظام السياسي الحاكم في سوريا.
علاقة الدين بالدساتير السورية
قبيل فترة وجيزة من الانتداب الفرنسي، تم وضع دستور المملكة العربية السورية عام 1920، من قبل لجنة مُختصّة وتمّ إقراره في البرلمان برئاسة هاشم الأتاسي، ومن ثم رشيد رضا، من دون أي إشارة إلى مصادر التشريع أو للفقه الإسلامي برغم أن الشيخ رشيد رضا -وهو رجل دين- كان رئيساً للبرلمان آنذاك، وقد جاءت الإشارة الوحيدة إلى الدين فقط في المادة الأولى منه: "حكومة ملكية مدنية نيابية، عاصمتها دمشق الشّام ودين ملكها الإسلام".
ومن الجدير بالذكر أن دستور عام 1920 قيّد صلاحيات الملك نسبياً لصالح البرلمان في سابقة قلّ مثيلها آنذاك، بينما في دستور عام 1930 الذي تمّ إقراره في ظل الانتداب الفرنسي لا توجد إشارة إلى مصادر التشريع أو الفقه الإسلامي، وقد جاءت الإشارة الوحيدة إلى الإسلام في المادة الثالثة التي تنص على أن "سوريا جمهورية نيابية دين رئيسها الإسلام وعاصمتها مدينة دمشق".
دستور عام 1920 قيّد صلاحيات الملك نسبياً لصالح البرلمان، بينما في دستور عام 1930 لا توجد إشارة إلى مصادر التشريع أو الفقه الإسلامي، فما الذي تغير لاحقاً ولماذا؟
لاحقاً، سيظهر الحضور الأكبر للدين عموماً والإسلام خصوصاً في دستور 1950، والذي أقرّه برلمان منتخب بشكل ديمقراطي، إذ جاء في مقدمته: "ولما كانت غالبية الشعب تدين بالإسلام، فإن الدولة تعلن استمساكها بالإسلام ومُثله العليا"، كذلك نصت مقدمته على ضرورة مكافحة الإلحاد، وقد تكون لذلك صلة بظروف الحرب الباردة وتعاظم النفوذ السوفياتي في العالم العربي: "بناء دولته الحديثة على أسس من الأخلاق القويمة التي جاء بها الإسلام والأديان السماوية الأخرى، وعلى مكافحة الإلحاد وانحلال الأخلاق".
كذلك، جاء في المادة الثالثة أن "دين رئيس الجمهورية الإسلام. الفقه الإسلامي هو المصدر الأساسي للتشريع. حرية الاعتقاد مَصونة. الدولة تحترم جميع الأديان السماوية وتكفل القيام بجميع شعائرها على أن لا يخلّ ذلك بالنظام العام. الأحوال الشخصية للطوائف الدينية مصونة ومرعية"، وهذه المادة نفسها تم اعتمادها كاملةً في دستور عام 2012، مع حذف كلمة السماوية فقط، واستمرار التقليد الدستوري في الإشارة إلى دين رئيس الجمهورية والفقه الإسلامي في دساتير الحقبة الأسدية في 1973 و2012.
عن الدستور ودين رئيس الجمهورية
أجمعت الدساتير السورية خلال مئة عام، ابتداءً من 1920 وحتى دستور عام 2012، على اشتراط أن يكون الإسلام هو دين رئيس الجمهورية، والرغبة من وراء ذلك على الأرجح، وجود شعبية لاشتراط كهذا، وتضمينه في الدستور لكسب شرعية مُفتقَدة بين جمهور متديّن من السوريين، ولقطع الطريق أمام تيارات الإسلام السياسي للاستثمار السياسي في هذه القضية كما حدث عام 1973، في انتفاضة قادها رجال الدين في دمشق ضد مسودة دستور لا تشترط أن يكون الإسلام هو دين رئيس الجمهورية.
وتجدر الإشارة إلى أن اشتراط انتماء ديني مُعيّن إلى أي منصب حكومي، وضمناً منصب رئاسة الجمهورية، يتناقض مع مبدأ المواطنة المتساوية والانتماء الوطني الجامع، كذلك فإن أي مسؤولية في الشأن العام -بما يشمل رئاسة الجمهورية- هي وظيفة عامة مُقيّدة الصلاحيات بالدستور والقوانين النافذة وخاضعة للرقابة بمستويات متعددة، وتالياً يُصبح الحديث عن دين الشخص والمُعتقد فائضاً عن الحاجة، فهو لا يحكم بوصفه مُسلماً أو مُلحداً، بل يحكمُ بوصفه سورياً ومُوظفاً كفؤاً لهذا الموقع.
تشي التجربة القريبة بأنّ وجود هذه المادّة التي تشترط انتماءً دينياً معيّناً (أن يكون مُسلماً)، لم يقدّم أي ميزات إيجابية بالنسبة للسوريين من خلفية إسلامية سنّية، قبل غيرهم، لا بل كان المُتدينون منهم موضوعاً لسياسات تمييزية وبخاصة في السلك العسكري والأمني.
اشتراط انتماء ديني مُعيّن إلى أي منصب حكومي، وضمناً منصب رئاسة الجمهورية، يتناقض مع مبدأ المواطنة المتساوية
مكانة الدين في دساتير دول عربية
تُقدّم الدساتير السورية عموماً صيغةً معتدلةً لحضور الدين الإسلامي مقارنةً بدساتير عربية أخرى، فعلى سبيل المثال، نصّت المادة الثانية للدستور المصري الحالي على أن "الإسلام دين الدولة ومبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع"، بينما لا نجد وصفاً لدين الدولة في الدساتير السورية، ولا نجد إشارةً إلى الإسلام كشريعة بل كفقه فقط، وكذلك لن نجد صيغة التعريف "المصدر الرئيسي للتشريع"، بل نجد "مصدراً رئيسياً للتشريع".
كذلك، يُقدّم النظام الأساسي للحكم في المملكة العربية السعودية على أنها دولةً دينيةً، فتنص المادة الأولى على أن "المملكة العربية السعودية، دولة عربية إسلامية، ذات سيادة تامة، دينها الإسلام، ودستورها كتاب الله تعالى وسنّة رسوله"، ويرِد في المادة السابعة: "يستمد الحكم في المملكة العربية السعودية سلطته من كتاب الله تعالى، وسنّة رسوله. وهما الحاكمان على جميع أنظمة الدولة".
يُفسح إدخال البعد الديني في التشريع السياسي-الدستوري، المجال لتقوقع الفئويات الدينية على نفسها، وإعاقة الدمج الوطني مستقبلاً، حيث أنّه لا يوجد دين أو مذهب واحد للسوريين أو لأي شعب غيرهم. والإشارة إلى دين رئيس الجمهورية أو إلى مصادر التشريع ربطاً بالفقه الإسلامي، تنتهك مبدأ المواطنة المتساوية.
والسؤال هنا: ما الذي سيكون ناظم الأحوال الشخصية للسوريين غير المتدينين أو المُنشقّين عن فئوياتهم الدينية؟ فالتضمينات الدينية في الدستور تنتهك مبدأ المساواة بين الرجل المرأة في الحقوق والواجبات، حيث أن التشريعات الفئوية الدينية السارية تميّز ضد المرأة في قوانين الأحوال الشخصية.
المُستفيد من هكذا نصوص دستورية، هي السلطة السياسية الحاكمة لتبرير التخلص من معارضيها كما حدث في واقعة إعدام المفكر السوداني محمود محمد طه، عام 1985، بتهمة الارتداد عن الإسلام وفي ظل دستور كان "يُطبّق أحكام الشريعة الإسلامية".
كذلك، تقدّم التجربة المصرية مثالاً على إمكانية استخدام نصوص دستورية تعتمد أحكام الشريعة الإسلامية ونظام الحسبة ضمناً، في دعاوى تكفير كتّاب ومفكرين مصريين، وبما قد يُسهِّل قمع حرية التعبير والرأي، كما في حادثة الحكم بالردّة على المفكر المصري نصر حامد أبو زيد، عام 1999، وتفريقه عن زوجته قسراً على أساس "أنه لا يجوز للمرأة المسلمة الزواج من غير المسلم"، ومؤخراً الحكم على المستشار أحمد عبده ماهر، بالسجن خمس سنوات بتهمة ازدراء الأديان عام 2021.
عن الشريعة ومصادر التشريع
دُشّنت صيغة "أحكام الشريعة الإسلامية" في القرنين الثالث والرابع الهجريين، في العصر العباسي، وهي بنت عصرها قبل ظهور مفاهيم علم الاجتماع الحديث والفلسفة السياسية، وتالياً من الظلم اختصار قيم الإسلام وروحانياته بما يُسمى "أحكام الشريعة الإسلامية"، والقرآن هو كتاب عقيدة وتوحيد وإرشاد ديني، وليس كتاباً في السياسة والقانون الدستوري، وما سبق يدخل في مبدأ توصيف القرآن واحترامه.
تستخدم نصوص دستورية تعتمد أحكام الشريعة الإسلامية، في دعاوى تكفير كتّاب ومفكرين، وبالتالي قمع الرأي العام، فما الحل المقابل؟
في المحصلة، مصادر التشريع هي الإرث الإنساني المُشترك للبشرية بما يشمل الخبرات ذات الأصل الديني وغيرها، وبما يشمل التجارب التشريعية للشعوب الأخرى في عصرنا، وبما يُمكِّن السوريين ومُمثليهم من انتقاء الأصلح دونما افتراضٍ لقداسات دينيّة تعيق حرية الاختبار والنقاشات.
ومن الحكمة بمكان، تجنّب الإشارة إلى الهوية الدينية في النصوص الدستورية، وتطبيق صيغ وسطية اختيارية في قضايا إشكالية وحسّاسة من قبيل حرية اختيار الزوجين لنمط عقد الزواج دينياً كان أو مدنياً، ومنه كذلك حرية اختيار الورثة لنمط توزيع الإرث، مع إمكانية اقتراح مصطلح "مقاصد الشريعة الإسلامية"، كبديل عن مصطلح "أحكام الشريعة الإسلامية"، للتأكيد على الجانب الحيوي -العابر للمجتمعات- من الإرث الثقافي الإسلامي.
إلى ذلك الحين، علينا أن ننتظر ونأمل في تغيير جذري، لا بد منه، ولو طال زمن تحققه.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين