شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!
الجسد مقابل نقصه... مبتورو الأطراف في المرآة

الجسد مقابل نقصه... مبتورو الأطراف في المرآة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي نحن والفئات المهمشة

الاثنين 10 يوليو 202311:48 ص

كانت الحرب ولا زالت النشاط الأكثر حضوراً في تاريخ البشرية، أكثر من الموسيقا والأدب والمسرح وباقي الفنون المسكينة، حتى أن التأريخ للعالم بسنوات الحروب الكبرى يبدو أكثر جلاء من تأريخه باكتشافات أو ابتكارات بدّلت وجه العالم. والحروب، بوصفها انعطافات قاسية غيّرت الجغرافيا البشرية وتوزّع القوى والثروات.

للأسف لم تغير من الطبيعة الجشعة للأثرياء وحلفائهم من العسكريين والإيديولوجيين المتطرفين، والنتيجة هي جموع ضخمة ممن حالفهم الحظ في النجاة من حروب السادة البيض، وإن لم يحالفهم في الخروج من المعارك، بأرواح مشوّهة فحسب، بل بأجساد ناقصة، حيث نزل السادة إلى الحروب ليتأكدوا بأنفسهم، أن هذا الجسد البشري الجميل، الذي احتفى به اليونانيون ومجّده يسوع ودلّـله محمد، نال كفايته من الأذى بحيث ينزع من خياله فكرة الكمال برمّتها. الكمال فقط للمديرين التنفيذيين ومجالس الإدارات الكبرى ومهندسي الخراب الكوني.

يبدو أنه من الصعب على البشر الذين لم يمرّوا بالتجربة عينها فهم ألم المتضرّرين من الحروب، بقطع أطرافهم أو بتر جزء من أجسادهم، فكما يقول ألبير كامو:" إن البشر لا يقتنعون أبداً بأسبابك وصدقك وجدية عذابك إلا حين تموت، وما دمت حياً فإن قضيتك مغمورة بالشك، وليس لك أي حق في الحصول إلا على شكوكهم".

كانت الحرب ولا زالت النشاط الأكثر حضوراً في تاريخ البشرية، أكثر من الموسيقا والأدب والمسرح وباقي الفنون المسكينة، حتى أن التأريخ للعالم بسنوات الحروب الكبرى يبدو أكثر جلاء من تأريخه باكتشافات أو ابتكارات بدّلت وجه العالم

لا يمكن لنا أن نفهم آلية استيعاب التشوّه المرتبط بالحرب، ولا المحنة الوجودية التي يجد نفسه فيها من خرج من حادث أو تفجير بذراع سليمة وأخرى مبتورة، أو بقدم مشوّهة أو بجرح هائل الحجم، ولا توجد أدوات تسمح لنا بمقاربة وضعه الضحايا النفسي، لا في علم النفس ولا حتى باستخدام أدوات علم الاجتماع.

ربما يكون الفنّ آخر من يقترح علاجات أو يقدم تصوّراً يسمح لنا بفهم معضلة الخارج من حرب بأعضاء ناقصة.

"الاختلاف جميل" هو مشروع فوتوغرافي للمصورة الفرنسية فرانشيسكا كلايتون، التي بدأت جولة طويلة لتصوير مائة من الأشخاص الذين يحملون إعاقة واضحة مرئية أو خفية، طلاب ورياضيون وربات منازل وعشاق، يوافقون على سرد بعض قصصهم/ن ويبيحون أجسادهم/ن للكاميرا دون محرّمات، ويدعوننا للنظر إليهم/ن، وهي مناسبة للتفكير بالجسد الناقص وطريقة استقبالنا له.

تستحضر هذه الصور العنف الوحشي للحروب برغم غياب كل ما يشير إلى حرب ما، أو حتى حادث سيارة، تشويه رمزي يقارب العنف المتخيّل كاستعارة بصرية لمجرى الأمر، كتثقيف قاس للجمهور وتذكير بمدى عبثية هذا النشاط البشري (الحرب) من بين كل الأنشطة التي تستطيع أن تحافظ على الجسد والروح.

معرفة الألم 

وفقاً للأطباء، فإن الأحاسيس التي يشعر بها الفاقد لأحد أطرافه مشابهة لوقت فقدانه لها، الألم لا يقلّ مع الوقت، فالإحساس بالتقلّص، الوخز، التنميل، الالتواء واللسع، يعكس عدم فهم حتى من قبل المريض لما يمرّ به، كأن الألم غارق بسيل من الكلمات التي تحاول مقاربته لكنها تفشل: "هناك ألم لكن لا يسعني وصفه. ألم لا يشبه ألم الأضراس، لكن ألم غامض وصامت كترقب وقوع تحت عجلات سيارة مسرعة".


كما أن "العضو الشبحي" الذي يشعر المريض خلاله بأن عضوه المقطوع مازال موجوداً، لكن في حيّز الألم فحسب لا في مجال الاستخدام الفعلي، والبعض يشعر بأن العضو الآخر، الناجي، الهارب من العصف، أصبح أقصر أو أصغر. وتتوالى الذكريات المرتبطة بالعضو المبتور، حتى يصبح هو ذكرى أيضاً، غالباً ما تكون مزعجة وتجعل الشخص قلقاً ويشعر بالضيق.

أذكر فايز الذي كان رفيق لعب كرة القدم في الحي. تطوّع بالجيش حين كان التطوّع وظيفة فحسب، ثم جاءت الحرب وعاد منها بقدمين مقطوعتين من تحت الفخذ. كان يقول إن رؤية كرة قدم تقترب منه تجعله يشعر بأن قدميه موجودتان لكنهما مطاطيتان، يلوح بهما ويركل الكرة دون أن يرى تأثيراً على مسار حركتها.

الجسد، كنظام وظيفي حركي له مخطط دون مستوى الوعي، وبالتالي يسبب البتر تناقضاً بين تمثيل الجسد وصورته، وبالرغم من أن اللاوعي يميل لتعديل الصورة المأخوذة عن هذا الجسد إلا أن التعديل لا يعمل بصورة فورية. كان رفيقي يحكّ أحياناً ما يتوهّم أنهما ساقاه، قبل أن تمس أظافره البطانية التي تغطي الفراغ.

شاعرية البتر

"أليس هذا رائعاً؟ شاهد التموجات اللانهائية التي تربط البطن بالفخذ. تذوق كل الانحناءات الحسّية للورك، إنه لحم حقيقي يعتقد المرء أنه معجون بالقبلات والمداعبات. رغم نقصه، إنه مساو لبروميثيوس". رودان في رسالة إلى ريلكه عن تمثال فينوس دي ميلو مبتور الأطراف.

الجسد، كنظام وظيفي حركي له مخطط دون مستوى الوعي، وبالتالي يسبب البتر تناقضاً بين تمثيل الجسد وصورته، وبالرغم من أن اللاوعي يميل لتعديل الصورة المأخوذة عن هذا الجسد إلا أن التعديل لا يعمل بصورة فورية

كثير من الفرضيات دارت حول هذا التمثال لفينوس، خصوصاً لناحية حركة يديها وما إذا كانت تحمل تفاحة أو لا، كما نُقل عن الخبراء، حيث جرى نقارنتها بالعديد من التماثيل المشابهة للشخصية والمكان الذي أتت منه، جزيرة ميلوس اليونانية، وألهمت حركة جسدها الكثير من الشعراء والفنانين، كأندريه بروتون وسلفادور دالي وبول سيزان وديلاكروا ورينيه ماغريت.

الألم الذي يشعر به الشخص الذي فقد طرفاً حقيقي أكثر من الحقيقة. إنه يتألّم بخياله عن الألم، بمعرفته المسبقة وبثقافته وتجاربه الحيّة، يستحضر أقصى درجاته التي عرفها يوماً ويزرعها في الظل المفقود.

وفينوس مبتورة الأطراف هذه لا تتوقف عن تغذية خياله أيضاً، لكنها تبدو أبهى، كأنها تدعو مبتوري الأطراف إلى استكشاف الاحتمالات اللانهائية لليدين وحركتهما ضمن الفضاء، تمتدان، تدعوان، تشيران، تضمّان، تتساءلان، ويقف المشاهد أمامها مذهولاً من الظلال الخفيفة التي تتشكل مع كلّ تخيل للحركة في منطقة "الألم الصامت".

وبالرغم من أن معرفتنا بتاريخ التمثال والشخصية خلفه تجعلنا نستبعد العنف الرمزي الذي يحمله التمثال، إلا أن هذه التشويه غير المتعمّد يذكرنا، بطريقة أكثر لطفاً، كنوع من المداعبة أيضاً، بأولئك الذين فقدوا القدرة على التواصل البشري نتيجة البتر، خصوصاً لناحية عدم القدرة على العودة إلى النقطة صفر، نقطة اللاعودة المثالية، النقطة التي جرى فيها تحويل جسد كامل وجميل (كل الأجساد جميلة) إلى جسد يرزح تحت نقصه الخاص ويعيد توجيه سردية الجندي أو المصاب، بحيث يفقد حتى القدرة على إعادة صورته القديمة إلى مخيلته، كما عند أوديب على سبيل المثال بعد سمل عينيه.

الأمر الأكيد أن فينوس فقدت ذراعيها في واحدة من المشاجرات/الحروب (يتحدث المؤرّخون عن مشاجرة جرت بين الفرنسيين والعثمانيين في وقت تحميل التمثال ما أدى لفقدان ذراعيها، الأمر الذي لم ينتبه له الفرنسيون المستعجلون لسرقة التمثال وضياع ذراعيها للأبد) وهو الأمر الذي يجعلها، برأيي، شفيعة وإلهة أيضاً لمبتوري الأطراف، "الفينوسات" اللواتي والذين يخطرن ويخطرون في العالم المليء بالحروب والضحايا، بجسد ناقص وأحاسيس كاملة.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

بالوصول إلى الذين لا يتفقون/ ن معنا، تكمن قوّتنا الفعليّة

مبدأ التحرر من الأفكار التقليدية، يرتكز على إشراك الجميع في عملية صنع التغيير. وما من طريقةٍ أفضل لنشر هذه القيم غير أن نُظهر للناس كيف بإمكان الاحترام والتسامح والحرية والانفتاح، تحسين حياتهم/ نّ.

من هنا ينبثق رصيف22، من منبع المهمّات الصعبة وعدم المساومة على قيمنا.

Website by WhiteBeard