تبدأ أحداث الفيلم الوثائقي "تحت سماء دمشق" مع شخصية الممثلة صباح السالم وينتهي معها، وللاسم خصوصيته كـ "صباح" في حضرة كل العتمة التي أراد من خلالها مخرجو الفيلم الثلاثة (هبة خالد، طلال ديركي وعلي وجيه) تسليط بعض ضوء على تجارب نسوية في حضرة الحرب.
هكذا سيتم الاعتقاد، لكن بعض مضي الوقت مع الفيلم يتم إدراك أن تلك التجارب كانت دفينة ما قبل الثورة والحرب، وحاولت أن يكون لها مكان عندما صرخ أول صوت بـ"لا للظلم"، لكن "اللا" النسوية تعتبر ترفاً على ما يبدو ولا ضرر من تأجيلها، ضمن أولويات لا نعرف من وضعها وتحكّم في إصدارها وتصدّرها للمشهد.
في هذا الفيلم الذي كتبته هبة خالد، وعُرض في الدورة الفائتة من مهرجان برلين السينمائي، لا يمكن فصل تجربتي الشخصية عن معرفتي بالحكاية سابقاً. كانت هبة مهمومة بها منذ سنوات طويلة، وكان حلمها أن تحكي نساء سوريا من تجاربهن الشخصية التي لم يبحن بها، وجعلت مجموعة من النساء يحكينها نيابة عنها، فالقصص متشابهة حد الانصهار، عندما نحكي عن التحرش، غياب العدالة والخوف.
تبدأ أحداث الفيلم الوثائقي "تحت سماء دمشق" مع شخصية الممثلة صباح السالم وينتهي معها، هي مازالت خائفة من قول الحقيقة عن سبب سجنها 15 عاماً، وتختصرها بجملة: "الظلم بشع كتير"
كتجربة فيلم وثائقي طويل أول لهبة ووجيه، وثالث لطلال ديركي بعد "العودة إلى حمص"، و"عن الآباء و الأبناء"، يتم ملاحظة التفاهم بينهم، بحيث استطاعوا أن يقربوا المسافات التي تحرم هبة وديركي من دخول سوريا وهما المقيمان في ألمانيا، والاستعانة بوجيه ليكون جزءاً هاماً من إدارة الحكاية في دمشق، وهنا الذكاء، بحيث جعلوا من عدم قدرتهم العودة إلى بلادهم جزءاً ليس عابراً من حكاية الفيلم، فصوت هبة المرافق لغالبية المشاهد كراوية يحمل في حشرجته الكثير من الغصّات الكفيلة بأن يكون صوتها ضمن بطلات العمل (صباح، إيليانا، إينانا، فرح، غريس وسهير) وهن ممثلات يحاولن إنتاج مسرحية عبارة عن بوح لكل ما تعرضن له من انتهاكات في أرواحهن وأجسادهن.
لا يوجد أفضل من تقريب هذا الانتهاك لصورة دمار البناء في شوارع دمشق التي أُنهكت بالبراميل والصواريخ، فكان لدمار المدينة، الذي يحيط ببيت دمشقي قديم اختارته بطلات الفيلم ليكون ملاذاً لهن في بوحهن ومسرحاً لعرض مشروعهن، أثره الكبير، لكن ثمة فارقاً مهماً هو أن إعادة بناء الحجر أسهل بكثير من إعادة بناء الروح وإعادتها لتقبّل الحياة. كل شيء في دمشق يدعو للكرب، مشاهد من الصعب تحمّلها إنسانياً ونفسياً لمدينة الياسمين التي لنا ذكريات معها في تفاصيلها، فالنسوة وبوحهن ليس أقل من بوح المدينة، هن كن صوتها ووجعها وحلمها، لذلك هذه التوليفة كانت مهمة وغير مقحمة، ونحن نتتبع حكايتهن بعيداً عن السياسة، مع أنها تحضر بمشهد قوي بين إينانا التي وقفت بوجه والديها المنتمين لحزب ما، تعاتبهما على الخديعة، وتنهي حوارها بجملة: "في محل ما عاد شايفة حالي فيكم"، وتقرر مغادرة المنزل.
في المقابل، لم تكن عملية البحث عن قصص لنساء مقتصرة على التجارب الشخصية للممثلات، بل تعداها إلى حكايات لعاملات في مؤسسات مختلفة، منها حكاية امرأة مع العنف المنزلي، وكيف هربت من مدينة لمدينة لتحمي بناتها بعد مشهد كان كفيلاً باتخاذها هذه الخطوة: "حط البوط العسكري على راس بناته"، من ناحية أخرى، توجهت كاميرا المخرجين الثلاثة إلى مؤسسة الصم والبكم، وكان من أقسى المشاهد أن تسمع عن فتاه تناوب على اغتصابها مجموعة من الوحوش البشرية، وهي لا تستطيع الصراخ، وبالقانون يتم تزويجها من أول شاب تسبب بفقدان عذريتها.
قصص كثيرة وعديدة ومتشابكة لبلد يستمتع عبر نظامه ومؤسساته بانتهاك الإنسانية، هذا الانتهاك أصبح يتداخل في الروح والسلوك، وحتى في القدرة على الحلم.
لا يوجد أفضل من تقريب هذا انتهاك أرواح وأجساد النساء لصورة دمار البناء في شوارع دمشق التي أُنهكت بالبراميل والصواريخ
عبر وسائل الاتصال الرقمية، تتواصل هبة من محل إقامتها في برلين مع النساء اللواتي بدأن بالتخبط واحدة تلو الأخرى، والانسحاب من المشروع لأسباب مختلفة، أهمها هو الكشف عن عادل، وهو ضمن فريق العمل الذي استغل أولئك النساء بالتحرّش بهن، و تهديدهن إذا قالوا لمخرج العمل في دمشق، علي وجيه.
الخوف منه أجّل معرفة السبب وراء انسحابهن، إلى أن عرفت هبة السبب واتخذت موقفاً حازماً في إقالة عادل، وتحفيز النساء اللواتي تعرّضن للتحرّش من قبله على رفع قضية عليه حتى لو خسرنها، ضمن قضاء قائم على المحسوبيات.
وبعد ذلك بدأ المشروع بالتهاوي بأشكال عديدة، أهمها الخوف وفقدان الثقة بين المجموعة نفسها، بحيث تقرّر المسؤولة عن المشروع توكيل مهمة كتابة النص إلى رجل، وهذا من شأنه أن يسبب صدمة لباقي الفريق: كيف لرجل أن يفهم ما عانينه من ويلات؟ هنا تحضر الحيرة إذا ما كان هذا المشهد حقيقة أم تمثيلاً، لكنه حدث في غمرة الشوق لانتصار على شكل نسوة، تحضر الذكورية وتحكمها بشكل شاب يدعم المرأة، فتصبح الضحكة الساخرة للمتلقي هي الجواب.
هذا الحضور الذكوري وسيطرته على إنتاج المسرحية المرتقبة، حدث بعد أن قرّر فريق العمل استكمال المشروع خارج سوريا، وتحديداً في بيروت، حيث التقت هبة وطلال الفتيات، لكن ثمة شيء ذهب بعيداً، بحيث تتمنى لو أن المشروع المسرحي لم ينجز، وتوقف عند لحظة كشف المتحرّش من فريق العمل، فقد كنا أمام إبداع سينمائي في فن التوثيق والتسجيل، التتبع المنوط بالمشاعر المترقبة من السهل عبورها من خلال كل شخص يشاهد الفيلم، لكن رصد التهاوي مطلوب عندما يكون الحديث عن وضع سوريا، ورصد الاستسلام من خلال تبريرات لإجهاض هذا المشروع ووضعه في يد رجل أيضاً كان لابد منه لتوصيل معنى أن تكون خاضعاً، بعد أن تم فتح الستارة عن المسرحية في البيت الدمشقي القديم، والتصفيق الحار لكاتبها، مع غياب الممثلات اللواتي كان من المفروض أن نراهن يقفن على المسرح.
وينتهي الفيلم مثلما بدأ، مع مشاهد صباح السالم في البداية والتي انتهى معها، هي ما زالت خائفة من قول الحقيقة عن سبب سجنها لمدة 15 عاماً، وتختصرها بجملة: "الظلم بشع كتير"، هي خرجت من سجن لتجد نفسها في سجن الحياة، كما قالت، ليترافق مع صوت هبة المبحوح وهي تصف الفيلم بأنه عن الحرب المنسية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmad Tanany -
منذ يومتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 3 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ 6 أيامأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه