خلال فترة الاستعمار الفرنسي لتونس، لم يقتصر التنكيل بالمرأة التونسية على جيش الاحتلال فقط، الذي لم يتوانَ عن ارتكاب أفظع الجرائم والمجازر في حقها، بل كانت ترزح أيضاً تحت وطأة الظلم والاضطهاد والتمييز المحليّ من قبل مجتمع ذكوري لا يعترف بحرية المرأة ولا بحقوقها، في حين لم يكن للمرأة من خيار سوى الانصياع والإذعان خشية التعنيف أو الاحتجاز في "دار جواد" التي تُعدّ كابوساً لكل امرأة تونسية.
دار جواد... سجن نسائي
كانت "دار جواد" مآل كل زوجة تعصي أوامر زوجها، وكل فتاة تتوق إلى الحرية فتخالف رأي عائلتها وتتمرد على العرف والتقاليد الجاري العمل بها آنذاك. وعُدّ الهدف الأساسي من "سجن" المرأة في هذه الدار، تقويم سلوكها وفقاً لرؤية المجتمع وتطويعها لصالح زوجها وكذلك معاقبتها على ما بدر منها على اعتبارها "ناشزاً" وتجرأت على قول كلمة "لا" لزوجها وعلا صوتها في مجتمع يعدّ صوت المرأة عورةً.
برغم إغلاق "دار جواد" في أواسط القرن العشرين بقرار جريء ثائر لحقوق المرأة وحريتها، فإنها لم تُمحَ من ذاكرة التونسيين خاصةً منهم أولئك اللواتي عاصرن تلك الفترة
"دار جواد" كانت بمثابة مقر احتجاز للنساء، استُحدثت في القرن التاسع عشر وانتشرت في أكثر من محافظة من محافظات البلاد وتتمثل في منزل عتيق مهترئ يتكون من العديد من الغرف وعادةً ما يكون مكوّناً من طابقين، يتوسّطه فناء ويحتوي على مطبخ وحمّام جماعي، تودَع فيه بقرار من القاضي الشرعي كل امرأة خالفت قوانين المجتمع أو "تمردت على أوامر زوجها أو عائلتها". وكانت المُكلّفة برعاية النساء المودعات في "دار جواد"، تُسمّى "الجايدة"، وتحرص على التفنن في تعذيب هؤلاء النسوة نفسياً، فتفرض عليهن العمل في شتى المجالات كالخياطة والتطريز وغزل الصوف وغيرها، زيادةً على تنظيف المنزل والطهي. وإلى جانب الإذلال الذي تعيشه المرأة والمَهَانة التي تتعرّض لها بشكل يومي، فإنها تقتات على فتات زهيد غير صالح للاستهلاك، كما أنها لا تحظى بساعات نوم كافية كنوع من العقاب لتحسين طباعها، ويمكن أن تدوم فترة الاحتجاز في دار جواد لسنوات أو لبضعة أشهر حسب حكم القاضي الشرعي.
غياب تاريخي أحيته الدراما
برغم إغلاق "دار جواد" في أواسط القرن العشرين بقرار جريء ثائر لحقوق المرأة وحريتها، فإنها لم تُمحَ من ذاكرة التونسيين خاصةً منهم أولئك اللواتي عاصرن تلك الفترة أو عشن التجربة ذاتها، فظلت الحكايات المرعبة والمحزنة تتناقلها الألسن جيلاً بعد جيل، لتظل بمثابة الفترة الحالكة في تاريخ المرأة التونسية التي ناضلت من أجل القطع مع تقاليد وأعراف كانت بمثابة سيف مسلّط على رقاب كل الحرائر.
"دار جواد" كانت بمثابة مقر احتجاز للنساء، استُحدثت في القرن التاسع عشر وانتشرت في أكثر من محافظة من محافظات تونس
وقد سعت العديد من الأعمال الفنية والثقافية إلى محاكاة تلك الحقبة التاريخية التي كانت تفتح فيها "دار جواد" أبوابها لاستقبال النسوة، والتفنّن في التنكيل بهنّ، بغية اعترافهن بفضل أزواجهن وعائلتهن عليهن، فالمسلسل التونسي "عنبر الليل" الذي أُنتج سنة 1999، ودارت أحداثه في فترة الاستعمار الفرنسي لتونس، كان قد تعرّض لظاهرة معاقبة النساء في "دار جواد"، وقد أقدم الزوج على إيواء زوجته في هذه الدار بعد أن اتهمها باطلاً بالسرقة ليدأب في ما بعد على إرسال المؤونة أو ما يُعرف بـ"القفة" إليها بصفة أسبوعية، وتُبيِّن أحداث المسلسل أن الزوجة كانت تتعرض للإهانة والتعنيف من قبل زوجها، وعوض حصولها على حقوقها، كان مآلها "دار جواد" لتقويم سلوكها وسط مباركة العائلة الموسعة.
فيلم "الجايدة"، للمخرجة سلمى بكار، تطرّق بدوره إلى معاناة النساء في دار جواد، وقد لخّص قهر المرأة وإقصاءها في قصص 4 نساء اجتمعن في دار جواد قبل بضعة أشهر من استقلال تونس عن الاستعمار الفرنسي. وقد عرض الفيلم حياة "بهجة" إحدى النزيلات في دار جواد، وكانت قد كشفت خيانة زوجها لها مع شقيقتها. وبمجرد اتخاذها موقفاً منه وتجاهله والتقصير في واجباتها الزوجية تجاهه، عمد إلى مقاضاتها لدى القضاء الشرعي الذي استنكر تصرفاتها واستهجن خطابها الشديد لزوجها، وقرّر على إثر ذلك إيداعها في دار جواد.
أسعفني الحظ بلقاء جدّة أحد طلبة السينما، وكانت قد قضت ستة أشهر في دار جواد، فاستقيت منها العديد من المعلومات حول الوقائع اليومية في هذه الدار، وطريقة عيشهن
تلتقي "بهجة" في "دار جواد" بفتاة برجوازية تدعى "حسنية"، كان قد لمحها خالها في أحد شوارع العاصمة مع حبيبها "عثمان"، فكان مآلها الفصل من الدراسة والإيواء في دار جواد. هذه الدار فتحت بابها أيضاً للشابة "ليلى" وهي زوجة رجل مسنّ غير قادر على القيام بواجباته الزوجية، فانحرفت في سلوكها وأطلقت العنان لنزواتها مع عشيقها، وباكتشاف الزوج خيانتها له، وضعها في "دار جواد" وكان يطلب من "الجايدة" الاختلاء بزوجته في غرفة خاصة لكن في نهاية المطاف انتحرت الشابة.
أما النموذج الرابع فقد كان لشخصية "آمال"، وهي امرأة تجمعها قصة حب كبيرة بزوجها لكن خلافها مع والدته المتسلطة كان السبب في قرار زوجها بوضعها في دار جواد.
تقول المخرجة والحقوقية النسوية سلمى بكار، في حديثها إلى رصيف22، إن "دار جواد" كانت عقوبةً مخزيةً ومدعاةً للخجل لكلا الطرفين، أي المرأة التي يسلَّط عليها هذا العقاب وكذلك الزوج الذي يضع زوجته في هذه الدار فيحرص أشد الحرص على ألا يعلم أحد بأمرهما، لافتةً إلى أن دار جواد جزء من الذاكرة التي يسعى المجتمع التونسي إلى محوها من تاريخ البلاد، وتبعاً لذلك لم تجد خلال رحلة بحثها عن معلومات لكتابة سيناريو فيلم "الجايدة"، دراسات أكاديميةً أو كتباً تاريخيةً توثق هذه الظاهرة، غير بحث سوسيولوجي تم التطرق فيه إلى "دار جواد".
خلوة "شرعيّة" في السجن
تضيف المتحدثة: "لقد أسعفني الحظ بلقاء جدّة أحد طلبة السينما، وكانت قد قضت ستة أشهر في دار جواد، فاستقيت منها العديد من المعلومات حول الوقائع اليومية في هذه الدار، وطريقة عيشهن فيها، والإجهاد الكبير الذي يتعرّضن له جرّاء أعباء الطهي والتنظيف والحياكة. كذلك حدثتني المرأة المسنّة عن بيت الخلوة المخصّصة لكل زوج يأخذ رخصة من "الجايدة" لملاقاة زوجته. أما بقية الأحداث، فهي من نسج خيالي، لأن الفيلم خيالي وليس وثائقياً هدفه التطرق إلى صفحة حالكة في تاريخ المرأة التونسية التي تعذبت في دار جواد، والتي مثّل لها الاستقلال منعرجاً مهماً في تاريخها".
وأشارت بكار إلى أنها لم تركز كثيراً على الاستعمار الفرنسي، واختارت أن يكون الفيلم من الواقع الاجتماعي العربي المسلم.
وتؤكد المخرجة والحقوقية سلمى بكار، أن القوانين في تونس تضمن جزءاً كبيراً من الحرية والكرامة للمرأة لكن ليس لجميع النساء، فما زال البعض منهن يتعرضن للتعنيف والقتل والتحرش مبيّنةً أن القوانين وحدها لا تكفي، بل يجب أن تنصهر حقوق المرأة في العادات والتقاليد عبر التربية والتثقيف.
"دار جواد" في نظر الطاهر الحداد
تبنّى المفكر والمصلح الطاهر الحداد، قضية حقوق المرأة والدفاع عنها في مجتمع ذكوري لا يتسع لمثل هذه القيم الإنسانية، فشُنّت ضده حملة شرسة انتهت بتجريده من شهاداته العلمية واتهامه بالزندقة وذلك على إثر صدور كتابه "امرأتنا في الشريعة والمجتمع".
وقد تطرق الحداد في كتابه إلى الأسباب الحقيقية وراء انتهاء الأمر ببعض النساء في دار جواد، كما حلّل النتائج النفسية والاجتماعية التي تنجرّ عن مثل هذه الممارسات داعياً إلى إغلاق هذه الدار، وبذلك كان أول مفكر ومناضل من أجل حقوق المرأة طالب علناً برفع القهر والظلم عن المرأة التونسية.
"دار جواد" ليست استثناءً تونسياً في القرن التاسع عشر، بل إن العديد من الدول العربية وحتى الأوروبية كانت تعاقب المرأة بهذه الطريقة
وكتب الحداد في هذا الصدد: "لم تكن المرأة تعرف ما يَجري حولها، إذ كانت لا تغادر البيت تماماً؛ تُزفّ إلى بيت زوجها الذي اختاره أهلها مذهولةً، فيباغتها القدر إما بزوج دميم أو طاعن في السن، فتذبل أو تعبِّر عن سخطها بإهمال بيتها فتوضع في معهد زجري يسمى 'دار جواد' لتأديبها، فيضيّق عليها في طعامها وكسائها ولا تباح زيارتها إلا بإذن ومشقّة حتى تثوب إلى رشدها فالإكراه والجبر هما ما يسوسان حياة المرأة".
جدير بالذكر أن "دار جواد" ليست استثناءً تونسياً في القرن التاسع عشر، بل إن العديد من الدول العربية وحتى الأوروبية كانت تعاقب المرأة بهذه الطريقة، لكن مع ظهور قانون الأسرة "مجلة الأحوال الشخصية" في تونس، تم إغلاق هذه الدار وتمتيع المرأة بجملة من الحقوق التي تتطور بتطور المجتمع.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 5 ساعاترائع
مستخدم مجهول -
منذ 5 أيامربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحبيت اللغة.