بجلبابه وعمامته، يقف "عم إسماعيل" على دكة خشبية بثبات، يمسك بين يديه فرشاته وعلبة ألوان أعدّها بنفسه، يخطّ على واجهة منزل جدي في قريتنا البعيدة، كلمات لها وقع خاص على نفسي: "حج مبرور، وسعي مشكور، وذنب مغفور". أحاول قراءتها فأنجح ليكافئني أبي بـ"حبة كرملة" بنكهة الليمون.
يرسم عم إسماعيل سفينةً ضخمةً تخترق الأمواج. يقول أبي إنها تحمل جدّي "عطا" لتعود به خلال أيام إلى أرض الوطن، بعد أن طاف حول الكعبة المشرفة التي رسمها عم إسماعيل أيضاً، بألوان مبهجة جعلتني أدرك جمال الحدث وجلاله.
مشهد لم يفارق خيالي برغم سنوات العمر التي تمضي تباعاً، والتي غيّب الموت خلالها جدّي والعم إسماعيل، وبقيت رسومات الحج تزيّن واجهة منزله صامدةً عبر العقود قبل هدمه. تذكّر المارة بأن هذا البيت سكنه رجل زار بيت الله الحرام ذات يوم.
طقس شعبي
لم يكن منزل جدّي الوحيدَ الذي حمل رسومات الحج في قريتنا في محافظة الشرقية؛ فقد كان الأمرُ أشبهَ بطقسٍ شعبي محبّب إلى الجميع، ارتبطت به أجيال متتالية في كل قرى مصر من شمالها إلى جنوبها، وكذلك بعض أحيائها الشعبية التي تعود جذور قاطنيها إلى الرّيف والصعيد.
الأمر كما تشير العديد من المراجع يبدو امتداداً للجداريات المصرية القديمة، وكما حرص المصريون القدماء على تسجيل احتفالاتهم بإقامة شعائرهم الدينية، حرص المسلمون منهم على الاحتفاء بإتمام شعيرة الحج
فالأمر كما تشير العديد من المراجع يبدو امتداداً للجداريات المصرية القديمة، وكما حرص المصريون القدماء على تسجيل احتفالاتهم بإقامة شعائرهم الدينية، حرص المسلمون منهم على الاحتفاء بإتمام بعضهم شعيرة الحج. فالإعلان عن وجود حاج في المنزل، كان ولا يزال أمراً محبباً يتفاخر به المصريون. أداء الفريضة التي لا يقدر عليها إلا من استطاع إليها سبيلاً، كان أمراً نادراً بين المصريين منذ عقود، لا يقوم به إلا ميسور الحال والقادر على اجتياز الرحلة الشاقة.
تأريخ عفوي
جداريات الحج، إن جازت تسميتها بذلك، تُعدّ في حدّ ذاتها وثائق تاريخيةً معروضةً للجميع. فبتفحص تفاصيلها عبر السنوات على واجهات المنازل المختلفة، بين الريف والصعيد المصري، نجد أنها تؤرخ من دون قصد لحدث واحد عبر أزمنة مختلفة، ونستطيع أن نقرأ من خلالها كيف اختلفت الحياة الاجتماعية بين الماضي والحاضر، وكيف تطورت وسائل النقل، وكذلك طُرُق الرسم وأساليبه والألوان المستخدمه فيه. وهو الأمر الذي نكتشفه بسهولة إذا ما تصفحنا كتاب "رسومات الحج... فن التعبير الشعبي المصري عن الرحلة المقدسة".
كما يوضح الكتاب، اكتفى المصريون في البداية بكتابة عبارة واحدة أو آية قرآنية مع الترحيب بعودة الحاج من رحلته سالماً، وكتابة اسمه وتاريخ رحلته. ثم تطور الأمر إلى إضافة تفاصيل ترمز إلى الرحلة نفسها بدأت بالجَمَل الذي كان يستقلّه الحاج، ثم السفينة، فالطائرة، مع رسم للكعبة، ثم رسم للمسجد النبوي، فجبل عرفات. ويتطور الأمر إلى رسم الحاج نفسه، وهو يؤدي صلاته، رجلاً كان أم امرأةً. وهذه كلها تفاصيل توضحها صور بديعة التقطتها المصوّرة الأمريكية آن باركر، في عام 1985، ضُمّنت في الكتاب السابق الذي حرره زوجها أفون نيل، وترجمه حسن عبد ربه المصري، والصادر عن المركز القومي للترجمة في عام 2010، والذي يُعدّ توثيقاً مهماً لجداريات الحج التي تُعدّ فناً مصرياً تراثياً نادر التكرار.
الرسومات التي لفتت انتباه باركر خلال رحلة سفرها بالقطار من القاهرة إلى أسوان، كما تذكر في صفحات كتابها، أسرّت قلبها ودفعتها للقيام برحلة شاقة بين قرى صعيد مصر المختلفة لترصد بعدستها رسوماتِ الحجّ التي تُعدّ فناً فطرياً خالصاً تميّز به المصريون عن غيرهم، كما أكد الفنان التشكيلي أحمد اللباد، الذي قال لرصيف22: "على الرغم من ثبات موضوع الرسم، وهو الحج وأجواؤه، إلا أن الفنانين الذين قاموا برسم هذه الرسوم كانوا 'بيخطفوها حرفياً'، ليحملوها بأشواقهم، وعواطفهم، وانحيازاتهم الاحترافية والمهنية (الفنية). فموضوع الرسوم تكمن وراءه محبةٌ وفرح ورضا مترسخ ومستقر في قلوب الناس بمن فيهم الرسامون أنفسهم. لذلك كانوا يتصرفون بحرية ممتعة تُخرج لوحات مذهلة الجمال والتأثير، فيها سرد بصري فريد".
جداريات الحج، إن جازت تسميتها بذلك، تُعدّ في حد ذاتها وثائق تاريخيةً معروضةً للجميع.
وأضاف اللباد: "هذه الرسوم -غير دورها المبهج الشخصي لمبدعها- كانت حتى وقت قريب جزءاً أساسياً من الاحتفالية الإعلامية للحاج، والإعلان بفخر عن محظوظيته وقدرته على الحج، بما يحمله ذلك من معاني تميّز ديني واجتماعي خاص".
ويؤكد اللباد أن المزاج العام، والصورة المنتشرة هذه الأيام، هما للعقل السلفي، الذي يمنع كلَّ ما كان يميّز التدين المصري الجميل، بكل ما يحمله من إبداع واحتفاء واستمتاع، إرسالاً واستقبالاً، وأظن أن رسوم الحج كانت من ضحايا كثر خنقتهم هذه الروح.
كما أن صيغة الإعلام نفسه تغيّرت، وتراجع الواقعي جداً منه، من الورقي حتى التلفزيون والوسائل المرئية "القديمة" التي تشبهه. حتى في الأطراف الريفية أيضاً، تغيّرت الأذواق وعدّت الأجيال الجديدة في المجتمع الريفي هذا النوع من الفنون نوعاً بدائياً لا يليق بهم.
عيد السلواوي
على الرغم من اختلاف نظرة الأجيال الجديدة إلى رسومات الحج كما أشار اللباد، إلا أنه لا يزال هناك بعض رواد هذا الفن الصامدين أمام كل التغيرات، ومنهم الفنان أحمد يسن علي، الشهير بـ"عيد السلواوي"، الذي تعرِف بيوت قرى محافظة أسوان رسومَ الحج التي تحمل توقيعه منذ عام 1964، وحتى الآن.
فالحاج عيد الذي وُلد عام 1949 في قرية سلوا بحري، مركز كوم إبمبو محافظة أسوان، لا يكتمل الاحتفال بعودة الحجاج في صعيد مصر من دون رسوماته، التي يساعده فيها ابنه طه (26 سنةً)، والذي يدرس التصوير في كلية الفنون الجميلة جامعة الأقصر. يحكي طه لرصيف22 عن بدايات والده قائلاً: "بدأ والدي مساعداً لعمه الشيخ تقادم علي حسين الرقيق -رحمه الله- في دهن المنازل. ثم تعلّم فنون الخط في كتّاب القرية، وأصبح خطاطاً متميزاً، ليبدأ مشواره رسمياً كرسام في عام 1964، مستخدماً 'بالتة' ألوان عمّه المحدودة، والتي تتوقف على الأبيض والأزرق والأحمر، إلى أن كوّن ألوانه بنفسه من بيئته المحيطة".
فلِلونِ الأبيض -كما يؤكد طه- كان يستخدم الجير، وللأحمر كان يستخدم مسحوق أكسيد الحديد الذي كان يوجد له مصنع في أسوان، وكان ينقلها القطار فتتطاير ذراتها أثناء مروره بالقرية، ليقوم الحاج طه بجمعها واستخراج اللون الأحمر منها. أما الأصفر فكان من الطفلة المنتشرة في الجبال، بالإضافة إلى الكركم، والأزرق من زهرة الغسيل، والأخضر من أوراق اللوبيا. أما الأسود فكان من أدخنة الأخشاب العالقة بالأفران والأواني. بعد ذلك بفترة، بدأت الأكاسيد بالظهور، وأصبحت داعماً قوياً للألوان، ثم بدأت المركزات الأضعف، ثم الأعلى، ثم الأغلى ثمناً وجودةً.
وبرغم تطور الألوان، لا يزال الحاج عيد يرفض استخدام الحديث من فُرَش الرسم، ويصرّ على صنع فرشاته بنفسه من جريد النخل منذ ما يقرب من ستين عاماً، هي عمر مشواره الفني الذي أنتج فيه مئات اللوحات التي لا زالت تُحفظ في مكانها على واجهات منازل قرية سلوا والقرى المجاورة في مركز كوم أمبو وأدفو حتى قنا.
ولا يزال عم عيد يبدع في فنونه كل عام، مع اقتراب موسم الحج، ويزيّن واجهات المنازل -وإن قلّت عن السابق- ببهجة رسوماته وألوانه التي يضع فيها جزءاً من روحه، ولا يخشى اندثار تلك الظاهرة أبداً، فكما يؤكد دائماً: "طول ما الناس بتصلي على سيدنا النبي بقلوبهم من الكتابات اللي بنكتبها... جداريات الحج مستمرة".
أفراح الحج
عبد الرحمن سيد يوسف، كاتب شاب من قنا، أكد لرصيف22 أن الحج كما عُرف من حكايات أجداده كان مصحوباً بفرحة عارمة، تتجمع الناس قبله بفترة في أجواء من الفرحة والزغاريد وإقامة الموالد وتلاوة القرآن الكريم وتوصية الحاج بتوصيل سلامهم إلى النبي، وأن يدعو لهم في الروضة الشريفة وعند البيت الحرام.
هذه الظاهرة قلّت بشكل كبير في قريته والقرى المجاورة، وإن حدثت يكتفي أهل الحاج بكتابة آية قرآنية على مدخل المنزل فقط؛ لا احتفالات ولا عزائم ولا أفراح كما كان يحدث في السابق
وكانوا بأجواء البهجة نفسها يقومون بتوصيل الحاج إلى السفينة وسط فرحة عائلته وجيرانه ومن حوله. وعند عودته يتم استقباله بالذبائح وبرسم سفينة الحج على جدران البيت كتخليد للذكرى، وتتم إقامة عزيمة للمهنئين وإعطاؤهم كوباً من ماء زمزم الذي يروي ظمأ العاشقين، بالإضافة إلى هدية بسيطة: "سجادة أو شال أو سبحة"، لكنها هدايا برغم بساطتها لها فرحة عامرة لأنها تحمل رائحة بلد الحبيب. ولا يزال بيت جدي الحاج عبد الله حسن أحمد، في قرية دندرة النجارين في قنا، يحمل رسومات الحج التي تؤرخ لرحلته التي قام بها سنة 1978.
يؤكد عبد الرحمن، لرصيف22 أن هذه الظاهرة قلّت بشكل كبير في قريته والقرى المجاورة، وإن حدثت يكتفي أهل الحاج بكتابة آية قرآنية على مدخل المنزل فقط؛ لا احتفالات ولا عزائم ولا أفراح كما كان يحدث في السابق. فالترابط لم يعد كما كان بين الناس، وللأسف الشديد صار البعض يحجّون ولا يعرف جيرانهم وأهلهم إلا بعد عودتهم.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...