"القاهرة منتصف الليل" للكاتب البريطاني رالف كورماك، كتاب جديد يسلّط الضوء على مسارح مصر وما دار عليها ومن خلفها في عشرينيات القرن الماضي. يأتي الكتاب الصادر باللغة الإنكليزية عن دار الساقي في محاولة "لأنسنة" أساطير الطرب والتمثيل والرقص في مصر، وتدور أحداثه في شارع عماد الدين في منطقة الأزبكية، الذي قال فيه مشايخ مصر يومها إنه شارع "إفساد الدين".
مولير مصر
تكمن أهمية الكتاب في أن مؤلفه كورماك لا يعتمد تقريباً على أي أرشيف وطني في مصر أو بريطانيا، بل على الصحف الفنية الصادرة في تلك المرحلة، منذ نهاية تسعينيات القرن التاسع عشر وحتى منتصف الأربعينيات. ويشير في عدة مقاطع إلى "مذكرات" تلك الراقصات والمغنيات، بناء على أحاديث طويلة سُجّلت في الصحف والمجلات. يبدأ سرده مع حملة نابليون على مصر سنة 1798 التي أوجدت عروضاً مسرحية للهواة قُدّمت من قبل الجنود والضباط الفرنسيين، لينتقل بعدها إلى سيرة من يسميه "الأب المؤسس" للمسرح المصري يعقوب صنوع، المعروف أيضاً باسم جيمس صنوع (1839-1912) والذي أطلق على نفسه لقبل "مولير مصر".
يأتي الكتاب الصادر باللغة الإنكليزية عن دار الساقي في محاولة "لأنسنة" أساطير الطرب والتمثيل والرقص في مصر، وتدور أحداثه في شارع عماد الدين في منطقة الأزبكية، الذي قال فيه مشايخ مصر يومها إنه شارع "إفساد الدين"
هو ابن يهودية مصرية، برع في التمثيل، وحقق نجاحاً كبيراً في القاهرة إلى أن صدر "فرمان" بإيقاف مسرحه من قبل الخديوي إسماعيل سنة 1872. وكان ذلك على الرغم من أن الخديوي كان محباً للفنون وقد تبنى عدداً من المشاريع الفنية –ومنها دار الأوبرا– مع فرقة يعقوب صنوع في بداياتها. ولكن يبدو أن عرضاً مسرحياً أغضب الخديوي وقطع الدعم المادي والسياسي عن يعقوب –أو جيمس صنوع– عندما تعرض الأخير بسخرية إلى موضوع تعدد الزوجات، ما اعتبره الخديوي كلاماً موجهاً إليه شخصياً لأنه كان متزوجاً من أكثر من امرأة. نزل غضب الحاكم على "مولير مصر"، فهرب إلى باريس، ومنها أصدر مجلّة سياسية ساخرة معارضة للخديوي إسماعيل باسم "أبو نظارة" صدرت سنة 1876.
شفيقة القبطية
بعد قصة جيمس صنوع ينتقل رالف كورماك إلى سيرة عدد من نجمات مصر، أكثرهن شهرة هي السيدة أم كلثوم التي تخطت شهرتها حدود مصر ووصلت إلى العالمية، ولكنها بدأت، مثلها مثل بقية زميلاتها، من شارع عماد الدين في منطقة الأزبكية في عشرينيات القرن العشرين، مع أنها كانت أكثر التزاماً منهن وأكثر حشمة.
ومن ضمن أولئك النجمات يحدثنا رالف كورماك عن شفيقة القبطية (1851-1926)، أشهر راقصات مصر في نهايات القرن التاسع عشر، وهي كما يبدو من اسمها بنت عائلة مسيحية كانت تهرب من منزلها بحجة الذهاب إلى الكنيسة، لكي تحضر دروس رقص عند راقصة شعبية تُدعى "شوق".
انطلقت شفيقة في عالم الفن، ووصلت إلى النجومية بفضل مسارح شارع عماد الدين، ما جعلها من أثرى أثرياء عصرها. اشترت فيلا في جنوب الأزبكية ووظّفت عدداً من الخدم الإيطاليين في وقت كان علية القوم في مصر يعتمدون على مستخدمين سودانيين حصراً. وقد كانت على علاقة غرامية مع أليس مانزفيلد، معاون قائد شرطة القاهرة (البريطاني) الذي جعلها تدخل وتخرج من مخافر الشرطة "وكأنها تملكها"، بحسب قول المؤلف كورماك. استخدمت النجمةُ سلطة البوليس لملاحقة منافساتها واعتقالهم أو إيقافهم عن العمل، وفي سنة 1900 أوصلتها شهرتها إلى معرض باريس الدولي. ولكنّها ماتت في شقة صغيرة سنة 1926، بعد سنوات من أفول نجمها وتقدّمها في السن، بعد أن نساها الناس.
منيرة المهدية
لم يكن مصير منيرة المهدية (1885-1965) أفضل بكثير عن مصير شفيقة القبطية، علماً أن شهرتها كانت كاسحة في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي، وقد تنافست مع أم كلثوم على زعامة الوسط الفني المصري. استفادت منيرة المهدية من وصول عدد كبير من الجنود البريطانيين مع اندلاع الحرب العالمية الأولى سنة 1914. فبعدها بأقل من سنتين، أطلقت فرقة مسرحية باسمها، كانت تؤدي فيها أدواراً ذكورية قبل أن تجازف بعرض أوبرالي لمسرحية "كارمن" العالمية، لعبت فيها دور البطولة يوم افتتاحه في 22 آذار/مارس 1917.
غنّت منيرة لزعيم الثورة المصرية سعد زغلول سنة 1919، وشاركت مع زملائها الفنانين في مسيرة داعمة له انطلقت من شارع عماد الدين وخرج بها الممثلون بلباس عروضهم المسرحية، فوقفت بين "عطيل" و"نابليون" و"هارون الرشيد" وهي في طريقها إلى منزل سعد زغلول (بيت الأمة المصرية).
وصلت نجومية منيرة المهدية إلى العالم العربي كله، وفي سوريا كانت تُباع علب سجاير باسمها ورسمِها، ومع ذلك، أطاحت بها أم كلثوم عن عرشها، وجار عليها الزمان لتموت وحيدة في القاهرة سنة 1965، حيث لم يخرج في جنازتها –بحسب قول مؤلف الكتاب– إلا ستة أشخاص، منهم "ناطور" بنايتها وبائع الصحف في حارتها.
فاطمة رشدي
بعض سير "القاهرة منتصف الليل" معروفة لكل القارئات والقراء العرب المهتمات/ين، مثل قصة روز اليوسف مثلاً، التي انتقلت من التمثيل إلى الصحافة سنة 1925، أو قصة بديعة مصابني، الفنانة السورية التي ذاع صيتها في مصر وكانت صالتها في شارع عماد الدين هي الأنجح في وقتها وزمانها.
تكمن أهمية الكتاب في أن مؤلفه كورماك لا يعتمد تقريباً على أي أرشيف وطني في مصر أو بريطانيا، بل على الصحف الفنية الصادرة في تلك المرحلة، منذ نهاية تسعينيات القرن التاسع عشر وحتى منتصف الأربعينيات
ينتهي الكتاب عند حياة الراقصة تحية كاريوكا، وهي من الجيل الأصغر عن بقية النجوم. ولكن من القصص الأقل معرفة للقراء والقارءات، وتحديداً للجيل الجديد منهم/ن، هي سيرة الفنانة فاطمة رشدي (1908-1996)، التي تُعدّ أول مخرجة أفلام في مصر، وأول كاتبة نص سينمائي. بدأت مسيرتها من فرقة "رمسيس" مع يوسف بك وهبة، قبل أن تنفصل وتؤسس فرقة خاصة بها في شارع علاء الدين.
تزوجت فاطمة من المخرج عزيز عيد ولكن زواجهما لم يستمر بسب وقوعها في غرام رجل الأعمال الذي تبناها فنياً، وجعل من فرقتها المسرحيةِ الأكبرَ في مصر، تستورد الملابس من ميلانو، وتجول على مسارح فيينا وباريس ومونتي كارلو.
شاركت النجمة في بطولة فيلم "فاجعة فوق الهرم" الصامت سنة 1928، وبعدها قررت أن تدخل عالم التأليف والإخراج، فكتبت وأخرجت فيلم "الزواج"، وسجلّت مقاطعه الصوتية في باريس قبل افتتاحه في مصر يوم 19 كانون الثاني/يناير 1933. وقد حاولت أن تكون منتجة أيضاً، وأنتجت بالفعل فيلم "تحت سماء مصر"، وعندما لم تعجبها النتيجة، أمرت بإحراقه!
ظلت فاطمة رشدي تمثل حتى ستينيات القرن المنصرم، ثم تقاعدت، لتظهر في التسعينيات بحالة صحية يرثى لها، تعيش في منزل متواضع على المعونات. تدخل النجم فريد شوقي لأجلها مع السلطات المصرية، وقيل إن آخر ما قالته قبل وفاتها سنة 1996: "أنا فاطمة رشدي... التي ارتجفت من تحت أقدامها مسارح شارع عماد الدين!".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...