"اصفع مؤخرتي"؛ كثيراً ما تردُ هذه الجملة في الأفلام الإباحية في أثناء الممارسة الجنسية، وتعبّر عن رغبة المرأة في زيادة اللذة في أثناء المضاجعة، والوصول إلى أعلى درجات النشوة عبر صفع أو ضرب مؤخرتها بباطن كفّ مُضاجِعها، وهو يلجها، وهي لا تخلو من من السادية والعنف المحبب إلى البعض. ذلك الجزء الأثير جنسياً، الردف أو "الطيز" كما يُعرف شعبياً، يعزز المخيال الشبق، والاستثارة للوصول إلى الإشباع الجنسي.
فعل الصفع/ الضرب والتعنيف يعدّه البعض "مخففاً" و"لطيفاً" قياساً بضربه المرفوض "قولاً واحداً"، على أجزاء أخرى من أجسادهم، تحديداً وجوههم، فيما نجده في شعر ماجنٍ يقوله الأصمعي للخليفة العباسي هارون الرشيد، يمزج ما بين متع الخمر والصفع والجنس:
ألم ترني وعمار بن بشر نشاوى ما نفيق من الخمور؟
وكنا نشرب الإسفنط (اسم للخمر) صرفاً ونسفع (نضرب ونلطم) بالصغير والكبير
إذا ما قحبة رُفعت لنيكٍ حملناها هنالك بالأيورِ
"أدِر خدّك" أو "قفاك"
يحمل "الصفع" دلالاته التاريخية التي ترد بكثرة في كتب الأخبار والتراث الإسلامي. الغريب والطريف منها، أن المصافعة كانت تُتّخذ كسبب من أسباب المداعبة بين الرفقاء والخلان، ومما يذكره التنوخي صاحب كتاب "الفرج بعد الشدة"، أن بعضاً من قواد وأمراء الخليفة المعتضد بالله العباسي (902م) كانوا يتسلّون بصفع بعضهم بعضاً متفاخرين بها كدعابة مسلية وعلى سبيل المباسطة في ما بينهم.
كذلك، كان الخليفة المقتدر بالله المتوفى سنة (320 هـ)، يجد متعته في صفع من يجالسونه، خصوصاً من كانت قفاه منهم مكتنزةً. وغدا الصفع في عهده "عُرفاً سلطانياً"، له ديوان ووزراء، وظهرت طائفة الصفاعنة، وهم أُجراء وموظفون تتلخص مهمتهم ومهنتهم في تلقّي الصفعات بشكليها المادي والمعنوي سواء على وجوههم أو أقفيتهم، عند الطلب، ليكونوا ضمن طاقم الندماء الخاص بالخليفة للتنفيس عن غضبه وإدخال السرور إلى نفسه، فيأتون بالواحد منهم ليصفعه حتى يطيب خاطره، ويعتدل مزاجه.
كان الخليفة المقتدر بالله المتوفى سنة (320 هـ)، يجد متعته في صفع من يجالسونه، خصوصاً من كانت قفاه منهم مكتنزةً، فكيف غدا الصفع في عهده "عُرفاً سلطانياً"؟
ويرد ذكر الصفاعنة لدى ابن العمراني في كتابه "الأنباء في تاريخ الخلفاء"، ضمن روايته عما رآه أحد عيون (جواسيس) الخليفة العباسي هارون الرشيد، في مجلس ابنه محمد الأمين، الذي يقول للرشيد: "يا أمير المؤمنين، دخلت على محمد وعنده جماعة من المطربين والمساخر والصفاعنة والمخانيث وهو يشرب وهم يتصافعون ويتشاتمون وهو يضحك"، واصفاً حياة التهتك واللهو التي كان يعيشها، وتضع رواية ابن العمراني الصفاعنة من جملة "الندماء" الذين يسلّون ولد الخليفة، وإن كان يضعهم في نطاق "المساخر"، عديمي القيمة.
"الصفاعنة" و"المُنصفعة"
لم يكن لـ"المصافعة" دائماً هذا الطابع "الفُكاهي" الذي قد يبدو سمجاً للبعض، ولكنه مورس كأداة "بالغة السادية" سواء للعقاب أو للتسلية والترفيه والترويح عن نفس الحاكم. وعُرف ممتهنو الصفع بـ"الصفاعنة"، أي الذين يقومون بصفع الشخص على قفاه بأمر من الحاكم، سواء أكان خليفةً أو والياً أو أميراً، والصفع هنا يحتمل المسبة والشتم والحط من شأن المصفوع وسوى ذلك من الأذى.
أما "المُنصفعة"، فهم من قاموا بـ"تأجير مؤخراتهم"، ووضعها تحت يد الحاكم ليضربها مقابل أجر معلوم، فكان يجلس واحدهم إلى جوار الحاكم أو الخليفة فيضربه على قفاه للتنفيس عن غضبه أو تعبيراً عن سعادته. وهناك كذلك "الصفعان"، وهو الذي يُصفع كثيراً سواء على قفاه أو وجهه، فهو الذي يقدم للناس خدمةً ممتعةً مقابل ما يجودون به عليه من دراهم، ومنها أن يبيح لهم صفعه ما شاؤوا حتى يُذهبوا غيظهم.
في كتاب "منامات الوهراني، مقاماته ورسائله"، لمحمد بن محرز (ت 575هـ/ 1179م)، يذكر الوهراني في خبر الصفاعنة والمنصفعة أن بعض السلاطين كانوا يقومون بإحضار أحدهم ويظل يسأله حتى يعجزه في الأدب أو الفقه أو العلوم، فإذا أجابه بجواب خطأ أمر بصفعه، وإذا أجاب بشكل صحيح طلب إليه شيئاً لا يستطيعه، فإذا عجز يأمر بصفعه منادياً أحد الصفاعنة بقوله "قفاه"، لضربه.
يشير الفيلسوف أبو حيان التوحيدي إلى نفاق الصفاعنة والمنصفعة على حد سواء، وأسلوب معيشتهم الذي يخلو من أي كبرياء وكرامة بقوله: "إذا رأيت رجلاً خرج من عند الوالي، وهو يقول 'يد الله فوق أيديهم' فاعلم أنه قد صُفع". والبعض منهم كان يداري سوء مهنته وتبريرها بالتبرك من يد الحاكم، وأن "يد الله" هي التي ضربته كون سلطة الخليفة مستمدةً من الله فهو نائبه على الأرض، وخليفة رسول الله.
ودرجت هذه المهنة في القرون الإسلامية الأولى والوسيطة تحديداً في العصرين العباسي الأول والثاني، حتى أن أرزاقهم كانت قد وردت في دفاتر بيت مال المسلمين حيث أسقطها علي ابن عيسى الذي استوزره الخليفة المقتدر بالله (932م)، لقاء عملهم في بلاطه.
والأمر الأشد إثارةً وطرافةً، أنه إذا كان الصفع في الأصل يقع بالكف على القفا، فربما وقع بجراب فارغ أو محشو، أو قد يؤتى بالنعال المصنوعة لهذا الغرض، وكانت لها تجارة رائجة في العصر العباسي، أو بقشور القرع الجافة أو بقشور البطيخ الأحمر الذي كان يُسمى بـ"الرقي" في بغداد في ذلك العهد، كما يرد في كتاب "مروج الذهب" للمسعودي.
الصفع تأديباً وعقاباً
الأصل في فعل الصفع، أن يمارَس كعقوبة جسدية لأسباب كثيرة، ذكرت المصادر التاريخية ضروبها المتعددة كالتأخر عن أداء الضريبة أو لسداد دين للأموال الأميرية. فكان القضاة يأمرون بصفع من انتهك حرمة مجالس الحكم، وكذلك "مُدعي النبوة"، فقد أمر الوزير علي بن عيسى بصفع أحد هؤلاء كما يذكر الطبري في تاريخه.
في الصفع تواضع لله، عز وجل، وجانبة للكبر. وفي موضع آخر للتسلية وللترويح عن النفس، فمداعبة الإخوان، وملاعبة الندمان وممازحة القيان والفتيان، تؤنس المستوحش
وقد يقع الصفع من قبل العامة لأصحاب النفوذ كما يذكر المسعودي في "مروج الذهب"، كما حين أقدم بعض الناس في بغداد على صفع القاضي أبي الخليفة وأصحابه على الملأ ظناً منهم بأن القاضي وصحبه يقرأون القرآن بلغة الدجاج. وقد يكون الصفع رداً على السخرية كما حصل مع أبي محمد المافروخي الفأفاء، إذ صفع أحد جلسائه ظناً منه بأنه يقلده ويسخر من نطقه وكثرة فأفأته.
الأشد غرابةً وطرافةً، هي ممارسة الصفع للعودة عن العناد، أو صفع المدعي إذا عجز عن القيام بما ادعى، وهو ما حصل مع ابن المغازي، أحد جلساء الخليفة العباسي المعتضد، الذي اشترط على نفسه إضحاكه، وفي حال فشل في ذلك يُصفع من صفاعنته عشر صفعات وهو ما وقع عليه نتيجة فشله. أما الحادثة الأطرف، فكانت ما وقع لأبي الحسن العاصمي أيام الخليفة العباسي المكتفي، والذي حاول منع الخليفة من الخروج لقتال القرامطة بحجة أن طالعه وبخته يقولان إن خروجه عليهم سيؤدي إلى زوال دولته. لكن المكتفي تجاهل كلامه وخرج على القرامطة وهزمهم ولما عاد مظفراً، أمر بالعاصمي، وصفعه صفعاً عظيماً.
في فوائد الصفع والمصافعة
على المقلب الآخر، وفي مديح فعل الصفع سواء ضرباً أو شتماً، نشير إلى ما يذكره أبو حيان التوحيدي في كتابه "البصائر والذخائر"، رواياً ما سمعه من القاضي أبو سيار الذي يقول: "الصفع على الريق أصلح من شربةِ سويق"، والسويق هو طعام الأنبياء.
الصلاح والخير والنفع مقابل الفساد والشر والأذى، هي أبرز القيم والمعاني التي يدلل عليها شهاب الدين التيفاشي في كتابه "نزهة الألباب في ما لا يوجد في كتاب"، وقد عنون باب أول الكتاب بـ"الصفع وما فيه من الفوائد والنفع"، ليبدو لقارئه وكأنه يؤسس لنظرية خاصة وفلسفة لا تخلو من التظرف والتطرف والمبالغة.
ويقول: "في الصفع تواضع لله، عز وجل، وجانبة للكبر. وفي موضع آخر للتسلية وللترويح عن النفس، فمداعبة الإخوان، وملاعبة الندمان وممازحة القيان والفتيان، تؤنس المستوحش، وتبسط المنقبض، وتُضحك الحزين، وتُسرّ النفس". كذلك، يورد ما فيه من تكسب وتقرب من السلطان قائلاً: "الإنسان إذا عُرف بهذا الأمر (أي الصفع) يحضر دار السلطان ويدخل في جملة الخاصة، ويخرج من عيار العامة، ويصل إلى ما لا يصل القائد الجليل، ولا الكاتب النبيل".
ويُنهي التيفاشي نظريته، بالحديث عن آثار الصفع الطبية والعلاجية، ذاكراً أن أطباء بغداد كانوا يستخدمونه لعلاج اللقوة (وهي شلل العصب الوجهي سواء الأيمن أو الأيسر)، وكذلك الفالج والسكتة وعوارض البرد والزكام الحاد، وغلبة البلغم على الدماغ، وهو "أمان من البُرص والبُهق والجُذام".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.