شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
مات جدي قبل أن يعرف أننا التقينا بأبطال حكايته من الأرجنتين

مات جدي قبل أن يعرف أننا التقينا بأبطال حكايته من الأرجنتين

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مجاز نحن والتنوّع

السبت 17 يونيو 202311:46 ص

ماء إلى حصان العائلة


بدأت الحكاية في عشرينيات القرن الماضي، عندما كان جدي تقريباً في العاشرة من عمره. لم يكن لديه "بقجة" ليجمعها ويرحل، رحل بدون بقجة إلى الأرجنتين، باحثاً عن طريقة يعيل عائلته بها، بعد أن مات والده وترك له عبء أن يكون الكبير وهو طفل في العاشرة.

توارثت العائلة حتى الآن هذا العبء الذي ظهر في كل جيل بشكل مختلف. أمي التي نالت حصة الأسد من هذا الإرث الذي أثقل كاهلها وحرمها من طفولتها، كانت تكرّر على مسامعي أنا وأخي قصة جدي الحزينة، تزامناً مع عرض مسلسل الكرتون الشهير "ماركو". بتلك الطريقة كانت تحوِّل جدي إلى بطل حقيقي، في عينيها قبل عيني، وتزيح عن كاهلها فكرة قسوته عليها وعلى إخوتها.  

كثيراً ما كنت أتخيّل جدي طفلاً قوياً ينظف السفن، كاتماً دموعه وشوقه لأهله وأمه وشجرة البلوط التي صارت فيما بعد جزءاً، ليس من ذاكرته فقط، بل من ذاكرة أفراد العائلة كلها. لكن أشك أن خالي كارلوس قد سمع بها يوماً. خالي الذي عرفته شخصياً منذ أقل من سنة بعد أن جمعنا فيسبوك ومكالمات الفيديو لسنوات طويلة. خالي الذي شارف على السبعين، جاء من تلك البلاد البعيدة للبحث عن جذوره، جاء سوريا ليردم حفرة كبيرة صنعها جدي في أعماقه، بعد أن تركه طفلاً صغيراً وعاد إلى عائلته، وكأنه يقايض الغياب بالغياب.

خالي الذي شارف على السبعين، جاء من تلك البلاد البعيدة للبحث عن جذوره، جاء سوريا ليردم حفرة كبيرة صنعها جدي في أعماقه، بعد أن تركه طفلاً صغيراً وعاد إلى عائلته، وكأنه يقايض الغياب بالغياب... مجاز

جدي

 أحببت جدي وقصصه وحكاياته التي لا تنتهي، أحببت اعتداده بنفسه، وحالة الزهو التي كان يدخل بها عندما يرمي على مسامعنا قصص الحب التي لم تكن بريئة من (العيب) إلا على لسانه. لم تخل قصصه من المبالغات ورشّ الملح والفلفل هنا وهناك، ولأني كنت أسمع قصة ابنه الذي تركه في الأرجنتين مع أمه التي رفضت المجيء معه إلى سوريا، تماماً بعد قصة شجرة البلوط التي تبيض ليرات ذهبية، اعتقدت أنها من نسج الخيال، فإن وجدت المرأة لا وجود للولد. طفلة بعمري كان أهون عليها أن تصدّق أن شجر البلوط يبيض ذهباً، على أن تصدق أن الآباء يتركون أولادهم ويغادرون إلى الأبد.

جدي كان يحكي لنا الحقيقة لأنه كان على يقين أننا لن نصدقه. لذلك بقيت نوافذ الشك وأبوابه مشرعة، حتى لمعت فكرة فيسبوك في رأس مارك روزكربيرغ، الذي كان يحقق أسطورته الشخصية، وفي الوقت نفسه كان يرش الماء على جذور خالي اليابسة لتنبت من جديد. خالي كارلوس ألبيرتو لم يكن خيالاً أبداً، وقصته الحزينة لم تكن مخترعة أبداً. كان حقيقة من لحم ودم.

بفضل فيسبوك وجد كارلوس عائلته أخيراً

من عشر سنوات تقريباً ضجّت العائلة بخبر الرجل الذي يدعي أنه ابن جدي، بدأ كل شيء بمنشور أنزله ابن الرجل، إدغاردو، في أحد مجموعات الجالية العربية في الأرجنتين، طالباً فيه معلومات عن جدي، مرفقاً بصورة لرسالة بخط يده، مع التأكيد على وجود إثباتات أخرى في حال عثر على العائلة التي يبحث عنها. ولأن الصدفة أكثر قوة مما نعتقد، وصل المنشور لأحد أفراد العائلة الذي تواصل معه، لنتأكد أن الرجل فعلاً هو خالي، وأن جدي لم يخترع شخصيات قصصه، ولكنه بالتأكيد لم يتوقع أن تختلط الأمور ويصغر العالم لدرجة أن يصل كارلوس إلى صافيتا وهو في الأرجنتين.

تعرف كارلوس بعدها على جميع أفراد الأسرة، الإخوة، الأخوات، أبناء الإخوة والأخوات، جمعتنا في البداية أحاديث طويلة معه، قصص كثيرة عن جدي وعنا وعنه. تشاركنا الصور، والنكات، وحتى الأحاديث اليومية ليخفّ بريق القريب الجديد للعائلة بعد فترة ليست بالطويلة. لأن الحرب كانت على أشدها في ذلك الوقت، فشغلتنا عنه، وشغلت باله علينا. لتتحول العلاقة تدريجياً بعد فترة إلى مجموعة ملصقات نتبادلها على فيسبوك. حتى استقر الوضع الأمني في سوريا وقرّر كارلوس أن الوقت قد حان ليستجيب لنداء لم يتوقف يوماً عن الصراخ داخله.

لم أشاهد أمي ترقص في حياتي كلها حتى جاء خالي كارلوس

أي شعوب نحن، وأي حزن وأسى هذا الذي يشكلنا، وأي قوة تمكنت من جعلنا تلك الشعوب التعيسة، المقهورة، وهؤلاء البشر المساكين، القلقين والخائفين دوماً؟ هذه الأسئلة نخرت دماغي عندما التقيت كارلوس وزوجته كرستينا للمرة الأولى. زوج وزوجة في منتصف السبعينيات يمتلكان طاقة للحياة، للغناء، للرقص والمرح والابتسام، جعلتنا جميعاً في حال ذهول واستغراب. كل من التقى كارلوس وكرستينا في صافيتا ودون استثناء قارنهم بزوج وزوجة سوريين وبالعمر ذاته، هذه المقارنة التي وضعتنا أمام أسئلة لا تتوقف، أهمها من يفعل بنا هذا، من يفعل هذا بالشعوب العربية، من يمتص إنسانيتنا بهذه الوحشية، من يحولنا لما نحن عليه؟ سن التقاعد بالنسبة لهم كان سن الحياة والاكتشاف والسفر والمغامرات، وبالنسبة لنا هو سن كيس أدوية الضغط والسكر والأعصاب والعظام ومضادات الاكتئاب.

رقصت أمي مع أخيها السبعيني الذي لم تلتق به شخصياً إلا منذ ساعتين، رقصت لأنه الأخ الوحيد في عالمها الصغير الذي دعاها للرقص، رقصت ودموع الفرح وليس الحزن تملأ عينيها، رقصت لأن خالي كارلوس يجيد الحب ويجيد التعبير عنه... مجاز

رقصت أمي مع أخيها السبعيني الذي لم تلتق به شخصياً إلا منذ ساعتين، رقصت لأنه الأخ الوحيد في عالمها الصغير الذي دعاها للرقص، رقصت ودموع الفرح وليس الحزن تملأ عينيها، رقصت لأن خالي كارلوس يجيد الحب ويجيد التعبير عنه، لأنه يقدّس العائلة، ويؤمن بالجذور التي تسحب صاحبها باتجاه منبته. رقصت لأن خالي كارلوس، لا يحمل إلا نفسه داخل نفسه، لم تكبله المعتقدات، لم تقصّ لسانه المخاوف، لم ترعبه ألسنة الجيران ولم يتعرّف ربما على مفردة العار التي تكم أفواه الفرح هنا.

كارلوس إنسان على سجيته يعانق الجميع ويوزّع القبلات دون تردد، وهذا ما استغربناه كثيراً في البداية، حتى تآلفنا معه، فسحبتنا طاقة الفرح الهائلة التي يمتلكها وكرستينا باتجاهها، جمعنا نحن أفراد العائلة، الذين نقطن المدينة ذاتها ونلتقي في العيد كل سنة، يومياً. نأكل، نغني، نرقص، ونضحك، نضحك كثيراً.

لم نحتج اللغة

يعتبر مارتن بوبر الفيلسوف النمساوي أن التعابير الوجهية تعابير تنبع من الداخل، وبذلك تتمكن تعابير الوجه أن تعكس المشاعر والأفكار بشكل أصدق، وهذا ما جعل اختلاف اللغة بيننا ثانوياً، فلم نحتج الكثير من الكلمات للتواصل، وقد تمكن مترجم غوغل ببساطة من حل المشكلة.

آخر ما ترجمه غوغل على لسان كارلوس وهو يودعني: " لا يمكن لأحد أن ينكر قوة الجذور، إنها تسحبنا باتجاهها، كنت أشعر بها كثيراً، وفي هذه اللحظة بالذات، وأنا معك، أتحقق مما أشعر به، دمي يتكلم. أنا آسف أنا أحبكم أحبكم جداً".

 غادر كارلوس بعد أن ردم الحفرة التي صنعها جدي داخله عندما غادر وتركه. لكنه لم يعرف ربما حتى الآن أنه صنع حفراً عميقة داخلنا من الصعب جداً أن نردمها يوماً، وخاصة بعد أن عاد كل فرد من أفراد العائلة إلى حياته السابقة. بعيدون جداً عن بعضنا نحن الذين نسكن المدينة ذاتها، وقريبون جداً منه وهو الذي يسكن في الأرجنتين.

 وعلى حسب تعبيره وبالحرف "لا يمكن لأحد أن ينكر أن جذورنا تسحبنا"، شعرت بها كثيراً.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

ثورتنا على الموروث القديم

الإعلام التقليديّ محكومٌ بالعادات الرثّة والأعراف الاجتماعيّة القامعة للحريّات، لكنّ اطمئنّ/ ي، فنحن في رصيف22 نقف مع كلّ إنسانٍ حتى يتمتع بحقوقه كاملةً.

Website by WhiteBeard
Popup Image