شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!
سيدي فرويد، إلامَ يشيرُ الطنطل في المنام؟

سيدي فرويد، إلامَ يشيرُ الطنطل في المنام؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مجاز نحن والتنوّع

السبت 17 يونيو 202311:02 ص

أجنحة الخائف



للطفولةِ أكاذيبها كما للشباب أكاذيبه و للشيخوخة أكاذيبها أيضاً، ولكن أكاذيب الطفولة تنمُّ عن طموح هائل، أكاذيب الشباب تنم عن قدرات مفترضة و أكاذيب العجائز تنم عن خبرة زائفة، وبالتالي فإنّ الجميع يكذبون لأن الحقيقة لم تعد تخص أحداً.
في القرية، حيث انتقلتُ للعيش مع دخولي السادسة من العمر، كانت الكذبة التي نتناقلها صغاراً تدور حول عدم خوفنا من الكلب الشرس أو من الذئب أو من الطنطل، والطنطل هو شبح طويل القامة، مباغت، مرعب، لا وجود له، وعنه تأخذ مغامراتنا بعداً قصصياً، لأن الحكاية بطلها وحش أسطوري لا يمكن مواجهته واقعاً، فيبالغُ بعضنا كيف أشعل المصباح بوجه الطنطل ليولي هرباً، فيما يسند الآخر البطولة لأبيه أو أحد أعمامه، والحال أن للطنطل تاريخاً من الهزائم أمام البشر، لكن لا أحد يعرف لم يحتفظ بتلك المهابة المرعبة بعد تلك الخيبات والهزائم المتكرّرة؟
الأمهات يضعن سكّينة صغيرة في مهد الطفل من أجل إخافة الطنطل، ولعلها رسالة مبطنة لإخافة طناطل أخرى تبدو حاضرة على نحو لا يخفى، فالمثل العراقي " حديدة عن الطنطل" يأتي ضمن سياق مَن لا أهمية له ولا جدوى لوجوده، ليعني أن تلك الحديدة" السكّينة" غير مفيدة لأن " الطنطل غير موجود".
ولن ينتهي الطنطل عند الحضور في الحكاية الشخصية إنما يبدو استعارة كلامية في الحديث اليومي ليتخذ صفات من نبغضه أو من نستفقده دون أن نجده. إنه بطل قصة نضالنا المخيف، زعيمنا العريق والديكتاتور الذي لم تستهوه الحيل الجسدية، إذ إننا ننام مطمئنين لأننا بمأمن من بطشه، فيعني ذلك أننا لا يمكننا أن ننام باطمئنان لو لم نصنعه من الأساس.

الرب في طفولتي لم يكن يعني لي أكثر مما يعنيه لي الطنطل، ثمة صفات هائلة لوجود غير ملموس أو محسوس وإن كانا يتشاركان الصورة ذاتها، فإن أمي لم تكن توجهني نحو التصديق بأحد منهما... مجاز

الطنطل كاستعارة

مع مرحلة الشباب تتسم الأكاذيب بالجدية و يتم اكتشاف طنطل أشد إثارة ووسامة و وضوحاً. إنها عقبة العثور على حب أو توّهمه، إيجاده بأي شكل من الأشكال، وهنا تنال المرأة مركزية التفكير، فهي الجسد اللامع المشتهى الذي نطارده من وراء حجاب، نسلبه بيولوجيته فنتخيله من اللهب أو من الذهب أو من معدن خالص مغاير لا يشبه معدننا، نحن الشبان المتسكعين الذين يقطعون دروباً وعرة من أجل مشهد ضئيل، أو ضحكة خافتة أو إشارة مخادعة، لم تكن من أجل أي أحد منهم. يهزمنا الطنطل هذه المرة بصمته و حركات جسده ، نراه دون أن نقدر على لمسه، فتحياتنا له تتشكل على هيئة نظرات، غزلنا على نحو من الجدية، غزل الأيدي لا الكلمات المستعارة، يدعنا هذا الطنطل دون كرامة، دون إحساس بالسمو إلا بحضرته، يهبنا تعريفات غرائبية، الفتيات هنّ الأقمار البعيدة، الكائنات الخيالية التي لا تخطئ ولا تخدع ولا تؤذي فيما نحن الكائنات الجوالة، المكائن التي لا تفرز سوى الخراء والدموع. بلى لعلنا جميعا سنقتنع في مرحلة ما من حياتنا كرجال بأننا نمتلك ثروة هائلة من الخراء والدموع، حد أن جمال امرأة قد يدفع أحداً لاستخدام تلك الثروة كاستعارة.

الطنطل أو الرب

في الواقع، إن الرب في طفولتي لم يكن يعني لي أكثر مما يعنيه لي الطنطل، ثمة صفات هائلة لوجود غير ملموس أو محسوس وإن كانا يتشاركان الصورة ذاتها، فإن أمي لم تكن توجهني نحو التصديق بأحد منهما، وحين سألتها عما إذا كان الطنطل يعيش في مكانٍ ما أجابت:" في أرض بعيدة".
لا يمكننا التأكد عما إذا كان موجوداً فيها أو في أرض أبعد، فما علاقة ذلك بالسؤال عن الرب؟ لقد قالت أمي في أكثر من مناسبة إنها غير متأكدة من أن هناك حساب وعقاب وجنات وجحيم لا نهاية له.

يرادُ لنا أن نواجه الطنطل لنكون رجالاً، و بعد أن نكون رجالاً على أهبة الاستعداد لمواجهته يكون الطنطل قد اختفى... مجاز

بمعنى آخر، أصرّتْ أمي على أن العذاب اليومي الذي عشناه لا يستوجب من أي إله كلي القدرة أن يعاقبنا، وبذلك النزوع انصرفتْ نحو حياتها بحذر أقل من الآلهة والطناطل. إن اللامبالاة الفطرية التي عليها أمي كانت طريقي لعدم الانغماس بأي دلائل عن وجود الطنطل أو عدم وجوده، فهو يظهر في الليل حين ننعس أو حين نغطّ في النوم، ألم تكن تلك الطريقة التي صدّع رجال المعابد رؤوسنا بها عن الرب؟
إذ إنه سيعاقبنا ويستوفي حقوقه مستفسراً و ناقماً منا حين نموت، كم يبدو الرهان خيالياً، لكن بين الرب و الطنطل، انظر ما فداحة أن ندفع الثمن!

سريعاً في مختبر فرويد

على اعتبار أن النفساني سيجموند فرويد أشهر من يمكننا الإشارة إليه كمستمع ومحلل للأحلام والخفايا البشرية، وبالتالي فإن مختبره سيكون مألوفاً لدى الجميع وله فروع في أكثر من بلد، وقد يوحي اسم فرويد، حتى دون رؤية وجهه، برجل أصلع، يرتدي نظارات طبية سميكة، يقيّد كل شيء لئلا تفلت منه سمة أو لوثة، وسنسأل فرويد ما الغاية من إخافتنا؟ ما الغاية من اختراع كائن مرعب لا يمكن رؤيته أو لمسه من أجل أن نتهذّب قليلاً؟ أعني ألم يكن العالم، لا سيما بفضائه الطفولي، مليئاً بالآلات المرعبة؟ ألم يكن بإمكان الأمهات إخافتنا بواسطة المصابيح أو الشموع، أو بواسطة الآلات الموسيقية عبر تزييف وظائفها أو بالأشجار أو بالحبال؟
بالطبع سيعدل العم فرويد جلسته ثم يقول: لا يمكن أن تكون الكائنات الحقيقة مخيفة إلى الأبد، إذ سيرتبط الخوف بها بمدى عدم التجربة، فمع التجربة حتى غير القصدية سيتم اكتشاف الفخ، لذلك لا بد أن يكون الطنطل أو الربّ المخيف غير موجود بكثافة، ليظل مخيفاً ومقدساً ومهاب الجانب، بل لنوقن أن مجرد محاولات التفكير أو التشكيك بوجوده قد تعرض حياتنا للخطر، ولعل هذه هي الخدعة التي نجح بها صنّاع الحقائق المطلقة بإخفاء آلهتهم المخترَعة في الأعلى.

هوامشٌ لا يمكن للطنطل أن يقرأها

يرادُ لنا أن نواجه الطنطل لنكون رجالاً، و بعد أن نكون رجالاً على أهبة الاستعداد لمواجهته يكون الطنطل قد اختفى.

تباً لأمهاتنا لقد نجحن بغسل أدمغتنا، تباً لرفيقاتنا لقد أخفقن بتجفيفها... مجاز

*****

كم تبدو قصص الحب طريفة حين تكون طفولية، إذ سيكتب عاشق ما لحبيبته:
لقد كان الطنطل يتعقبني طوال الطريق حتى غافلته، فتجيبه: حياتنا سرية ومن غير اللائق أن يعرف هذا الشبح بيتي، وهي لا تريد أن تردّ متهكمةً :لا ينبغي أن نعالجَ الطناطل عبر أخذها على محمل الجد.

*****

حين صرتُ كاتباً تذكرت أن الأمر كلفني أن أكون شجاعاً لأعترف بما لا يمكنني فعله أبداً.

*****

للكتّاب طناطل تدفعهم للنواح أو للمرح والجنون أو لليأس، وإلا لا يمكن بأي حال من الأحوال أن نختبئ طوال هذا الوقت خلف شخصيات حقيقية، فالحقيقة لا تستر أحداً. الوهم هو ما يفعل ذلك، ولعل الكتابة هي رعاية الطناطل وحمايتها من الهرم والتلف والركاكة، فثمة طناطل تضعف وتموت وتتلاشى فيما تحافظ طناطل أخرى على لمعانها وصبيانيتها، لذا ينبغي ألا نخفق في إدامة مصادرنا الإبداعية، ألا نسلط الأضواء نحو الجهات التي نلوح منها طناطلنا الشخصية.

*****

دون نزاهة لغوية، يمكننا تعريف الطنطل بأطرف ما تعرّف به الفنون، بأنه أبعد من كذبة و أصغر من حقيقة.

*****

نحتفظ بمشاهد لم نرها، تتردّد بآذاننا صدى كلمات لم نسمعها. تباً لأمهاتنا لقد نجحن بغسل أدمغتنا، تباً لرفيقاتنا لقد أخفقن بتجفيفها.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

ثورتنا على الموروث القديم

الإعلام التقليديّ محكومٌ بالعادات الرثّة والأعراف الاجتماعيّة القامعة للحريّات، لكنّ اطمئنّ/ ي، فنحن في رصيف22 نقف مع كلّ إنسانٍ حتى يتمتع بحقوقه كاملةً.

Website by WhiteBeard