شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!
في رثاء الجد، سقف البيت الذي نستظلّ تحته

في رثاء الجد، سقف البيت الذي نستظلّ تحته

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مجاز نحن والتنوّع

السبت 17 يونيو 202311:31 ص

ماء إلى حصان العائلة



يبدو كل شيء مختلفا بعد رحيلك يا جدي. الشوارع تشبه الأرامل المكتسيات بالسواد، المقاهي والمحلات مظلمة، رائحة الجو مقبضة، لون السماء قاتم. أشعر أننا في فيلم تراجيدي، ننتظر كلمة "فركش" من المخرج أو ربما كابوس سنصحو منه معافيين من وجع فراقك.

يا جدي، ينقبض قلبي كلما دخلت غرفتك، أجنّ كلما أرى فراشك فارغاً، أبحث عنك في كل الغرف، وكل مرة أُفاجئ أنك غير موجود. أفتقد نظراتك الوديعة التي تلقيها عليِّ وأنا جالسة جوارك دون كلام، كان يكفيني صوت أنفاسك ونبضات قلبك لأشعر أن كل شيء على ما يرام.

تبكيك الجدران ويئن سريرك

جدو، جدران المنزل عابسة، السرير يئنّ دون لمسه، الفواطة أصبحت آيلة للسقوط، أتذكر منذ ستة أشهر عندما سقط سقف غرفتك، وقتها تشاءمت، شعرت أنها بداية النهاية، وقتها رأيتك كما لم أرك من قبل، ضعيفاً، هشاً، تبكي كطفل تائه، تفزعك عزة نفسك، تذكّرك أنك أصبحت في عوز حقيقي، واحتياج ملح لبناتك وأزواجهن وأحفادك، تتخيل أنك تثقل عليهم حتى ينتهي العمال من ترميم السقف، رغم وجود أبنائك وأحفادك الدائم حولك دون الحاجة إلى انهيار سقف أو غيره، لكنك كنت خجولاً، رقيقاً، حسّاساً، ترفض التعبير عن احتياجاتك لأي مخلوق طيلة 14 عاماً منذ وفاة زوجتك "جدتي". كنت تفتقدها وتشعر بالوحدة في غيابها، ورغم وجودنا الدائم حولك لم نستطع ملء، مكانها ولأنك رجل عظيم أوهمتنا أننا عوضناك عنها.

أجمل قبلة في حياتي

جدو، تنتظرك علب الأدوية، الجرائد، المكملات الغذائية، القراقيش، أبو فاس، البطانية، المصحف، النظارة البنية العريضة، كتبي، البيجامة، الفوط البيضاء الصغيرة، العصائر، ماء زمزم الذي جلبته لك آخر الأيام بعد عودتي من العمرة، تلك التي هنأتني عليها كأنها العيد، كنت سعيداً أكثر مني قائلاً: "أفضل قرار اتخذتيه". عندما عدت من السفر لم أجدك ذات الجد، كان جسدك هزيلاً شاحباً، كأن الحياة تُنتزع منك رويداً رويداً، برزت عظامك، لا توجد دماء بجسدك، بل اكتسب لوناً غريباً بين الأصفر الذابل والأبيض الشفيف، تظهر منه عروقك، وعيناك حدقت فيِّ طويلاً قبل أن تعرفني. عانقتني وقبلت رأسي. تلك القبلة المطبوعة على رأسي أغلى قبلة أعطيتني إياها يا جدو. كانت في أيام احتضارك حيث لم يعد الوعي كالسابق، لكن إحساسك بي لم يتغير. أشكر الله كل يوم أنني ودعتك قبل الرحيل. كنت سأُقهر إن فعلتها وأنا مسافرة.

ينقبض قلبي كلما دخلت غرفتك، أجنّ كلما أرى فراشك فارغاً، أبحث عنك في كل الغرف، وكل مرة أُفاجئ أنك غير موجود. أفتقد نظراتك الوديعة التي تلقيها عليِّ وأنا جالسة جوارك دون كلام، كان يكفيني صوت أنفاسك ونبضات قلبك لأشعر أن كل شيء على ما يرام... مجاز

كلها أيام

كل يوم بدونك يحمل كابوساً جديداً يا جدو. لا يفارق ذاكرتي يوم وفاتك، الأحد الموافق 9 إبريل 2023 السابعة صباحاً. لا يغادر رأسي شكل جثمانك. فمك المفتوح على آخره وعيناك الرافضتان للغلق، المحدقتان في الفراغ أو في الرجل الذي حدثتنا عنه كثيراً، قائلاً: "الرجل الواقف هناك". الله وحده يعلم ماذا كنت ترى بالضبط، على الأغلب كان ملاكاً، يحيط أيامك الأخيرة، يطمئنك بقرب الراحة الأبدية من كل ألم تعانيه؛ لذلك قلت لماما: كلها أيام.

أسوأ قبلة في حياتي

عندما دخلت عليك، وجدت جسدك كالثلج، قبّلت جبينك أسوأ قبلة في حياتي، كانت باردة، قاتمة، مُرّة، مذاقها لا يغادر فمي. جلست جانبك، فحصت التنفّس والنبض. لم أجد أي أثر للحياة. بكيت، لكن الله ألهمني بتلقينك الشهادتين. اقتربت من أذنك وبدأت بتذكيرك بالملكين اللذين سيزورانك سيقولان لك: من ربك؟ ما دينك؟ من رسولك؟ قل لهما: الله ربي، الإسلام ديني، محمد نبيي ورسولي.. إلخ. ساعة ألقنك بقلب معتصر وعيون باكية، وأدعو لك بالرحمة وأقبّل رأسك. جاءت الطبيبة التي فحصتك، لوهلة تخيلت أنها ستخبرنا بوجود خطأ ما، وأنك لا تزال على قيد الحياة، لكنها لم تفعل، بل أكدت الوفاة وأخرجت تصريح الدفن. كل شيء حدث كالبرق. في دقائق أتى رجال، أخذوك إلى سيارة الموتى. الطريق كان يسيراً، لم تتعطل ثانية. غسلوك، كفنوك، لفوك جيداً، أصبح جثمانك أمامنا في التابوت، ننتحب غير مصدقين أنك فعلتها وتركتنا. صلينا الجنازة ثم جاء الدفن في لمح البصر هو الآخر. كنت متعجلاً للقاء ربك في رمضان، وأنت صائم، أي حسن خاتمة تلك يا جدي؟

ثقب في ذاكرتنا يتسع بغيابك

أكثر شيء يغضبني يا جدي أن المشاعر في غيابك معقدة، تتراوح بين الإنكار والغضب والشعور بالذنب ولوم النفس، ومحاولات للتقبل ورفضه في ذات الوقت. الأمر مهلك للأعصاب. في كل صباح، نلقي نظرة على مكانك في الفراش، نحدق جيداً فيه، نعيد التذكر لثوانٍ، ربما يوجد ثقب في ذاكرتنا جميعاً، لكننا نجد مكانك فارغاً بالفعل.
أحيانا أصف نفسي بالغبية، فماذا تعني كلمة توفّي؟ أتساءل بجدية، فمن سيأكل تلك القراقيش، ولمن سأجلب مياه زمزم والمسك وأبو فاس، حتى إني سمعت أخي يقول: سأجلس جانبه عساه يحتاج شيئاً!

طفل تائه من عائلته في سوق شعبي

من الصعب وصف حالة أخي بعد وفاة جدي، عاش معه عشرين عاماً، قضى عمره كله في رعايته وصحبته، لم يكن مجرد جدّ، بل كان ونيساً، خليلاً، رفيقاً، معلماً، عائلة كاملة من أب وأم وإخوة، بدأت الحياة وانتهت عنده.
كأنه طفل تائه من عائلته في سوق شعبي، أو لقمة سائغة في فم الحزن، يشعر بإهانة ما في استمرار الحياة بدون شريكه، عاد للسجائر بعد تركها، ينفث عن غضبه، يحدّق في فراشه في صمت وذهول، أشاهده يتحدث مع نفسه بصوت عالٍ، أمزح معه: "ستجن". يرد: "سأجن إن صدقت رحيله".
ترحل الجدة، وبعد 14 عاماً يتبعها الجد. يكف الجميع عن الوقوف في دائرة لكشفها عن ركنين فارغين، ولم يتبقى سوى الكعكة، تنتظر التفاف الجميع... مجاز

الأمر أشبه بالصياد الذي صبر عقوداً على رمي شبكته في البحر عله يظفر بغنيمة، وعندما أخرج الشبكة، وجد اللاشيء ينتظره، كأن الحياة سخرت منه، أعطته في النهاية سراباً لم يتوقعه.
أسوأ شعور أن تتعلق بحبيبك ثم تفقده فجأة، إحساس بالتيه والضياع وعدم التصديق، شعور بالكابوسية والإنكار والغضب المكبوت غير المصرّح به، عدم توازن، رؤية ضبابية، تركيز مشوش، وجع أعمق من وصفه في كلمات، كمن فقد مفتاح الحياة، سرها، سبب تمسكه بها، وسقط في بئر أسود ممتلئ بالغيلان تنهشه بعد رحيلك يا جدي.

كعكة تنتظر التفاف الجميع

في ألبوم الصور، أجد طفلة ترتدي فستانها الأبيض المزركش بالورود، شعرها يتدلى، أسرتها تلتف حولها في دائرة، الجد يرتدي قميصه الأبيض، يقف يسارها، الجدة تتأنق بفستانها الأسود وطرحتها البيضاء، واقفة يمينها، والأم تصوّرها، جوارها أخوها يبتسم ملء فمه الكاشف عن وقوع أسنانه اللبنية، تحمل الخالة النملة الصغيرة وسط الكبار، الغرفة تمتلئ بالزينة والبالونات، الألوان والحروف، العرائس والهدايا، عشرات الزجاجات من المياه الغازية، وكعكات يتوسطها رقم اثنين.

بعد أعوام، اتسعت الدائرة بمجيئ ابنة وابن الخالة، ليصبح عدد الأحفاد أربعة، تغيّرت الشقة والعمارة التي بها يجتمعون، الشارع يمتلئ بالنباتات والزهور، يلتفون من جديد في دائرة في شقة الخالة، لكن تلك المرة حول الصغيرة الأخرى ابنتها، يحملها الجد وأمامها رقم اثنين على الكعكة، وتقف جانبها البنت الكبرى بعدما أصبح عمرها سبع سنوات. الجد أنيق دوماً، الجدة حسناء، الخالة تقف خلف الكاميرا، الزينة في كل مكان، كل شيء بمكانه، تكبر الدائرة عاماً بعد عام، تركض السنون على أجساد الأحفاد، ترحل الجدة، وبعد 14 عاماً يتبعها الجد. يكف الجميع عن الوقوف في دائرة لكشفها عن ركنين فارغين، ولم يتبقى سوى الكعكة، تنتظر التفاف الجميع.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

بالوصول إلى الذين لا يتفقون/ ن معنا، تكمن قوّتنا الفعليّة

مبدأ التحرر من الأفكار التقليدية، يرتكز على إشراك الجميع في عملية صنع التغيير. وما من طريقةٍ أفضل لنشر هذه القيم غير أن نُظهر للناس كيف بإمكان الاحترام والتسامح والحرية والانفتاح، تحسين حياتهم/ نّ.

من هنا ينبثق رصيف22، من منبع المهمّات الصعبة وعدم المساومة على قيمنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image