شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!
من يعوّض الحاجة بدرية عن رائحة ليمونتها؟

من يعوّض الحاجة بدرية عن رائحة ليمونتها؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والتنوّع

الأربعاء 21 يونيو 202311:36 ص

يحكى أن عِجل الحاج يوسف الراشد "فلت" من مربطه في ليلة مقمرة، وقفز عن السياج باتجاه حاكورة الحاجة بدرية العيسى. ولأن الحاكورة الصغيرة للحاجة بدرية لا يوجد فيها إلا القليل من النعناع والبقدونس، وهذه نباتات "دجّنها" البشر في مرحلة متقدّمة من تطورهم، وهي غير مرغوبة، بعد، من الحيوانات المدجّنة، وتحديداً العجول منها، فقد عبّر عن غضبه، أو للدقّة، "فشَّ خُلقه" بشجيرة الليمون الوحيدة في الحاكورة.

لقد نظر بحنق إلى هذا الخَضار غير المجدي للعجول، ثم أحكم فكّيه على غصنها الطري وكسره. كانت الحاجة بدرية قد زرعت هذه الليمونة قبل عام أو عامين من الحادثة، على أمل أن تأكل ليموناً من حاكورتها قبل أن تموت، ولم تتوقع، في أسوأ كوابيسها، أن تموت الليمونة قبلها، وقبل أن تثمر ولو حبة واحدة.
أفاقت الحاجة بدرية عند أذان الفجر لتتوضأ وتصلي، فأحست بشيء يتحرّك تحت نافذتها، وعندما فتحت الباب لتتفقد الجوار، رأت العجل مسترخياً في الحاكورة يكشّ الذباب عن وجهه بأذنه السوداء وينظر إليها، بينما شجيرة الليمون تستلقي ذابلة على بعد مترين منه، وقد لطخها التراب المبلل.
صرخت الحاجة بدرية، ثم ركضت باتجاه الليمونة، على أمل أن يكون العجل قد اقتلعها "من شروشها" وبذلك قد تستطيع إعادة زرعها. وعندما تأكدت من استحالة ذلك، وأنها فقدت الشجيرة نهائياً، بدأت بالدعاء على العجل وصاحبه: "الله يكسرك مثل ما كسرتها... الله يخلع رقبة صاحبك يوسف الراشد مثل ما خلعت قلبي... الله ريتك تموت إنت واياه في يوم واحد".
صرخت الحاجة بدرية، ثم ركضت باتجاه الليمونة، على أمل أن يكون العِجل قد اقتلعها "من شروشها" وبذلك قد تستطيع إعادة زرعها. وعندما تأكدت من استحالة ذلك، وأنها فقدت الشجيرة نهائياً، بدأت بالدعاء على العِجل وصاحبه

أطل الحاج يوسف من نافذة بيته، وعندما تأكد أن هذه الأدعية تخصّه وتخصّ عجله، فقد صوابه، فهو يعرف، في قرارة نفسه، أن الله يسمع من العجائز إن كان الدعاء منطقياً، فما بالك إن كان هذا الدعاء وقت صلاة الفجر، أي في الساعة التي يتمّ فيها فتح شبابيك السماء على يوم جديد. ففي هذه الساعة لا يوجد زحمة أدعية، وبالتالي فنسبة الاستجابة للدعاء الواصل أولاً ستكون عالية.

لقد أغاظه ذلك وأخافه، ناهيك عن غيظه بسبب وضعه في سلة واحدة (أو دعاء واحد) مع العجل. فلو كان الدعاء بالموت يخصّه وحده، لكان أسهل عليه أن يتقبل الأمر. لقد تخيّل نفسه ميتاً مع العجل، في مكان واحد وساعة واحدة، وتخيّل نفسه صاعداً إلى السماء مع عجل، وتخيل أن من يموت نتيجة دعاء أرملة عجوز فبالتأكيد لن يشمّ رائحة الجنة.
بعد أن أفاق من الصدمة، بدأ يوسف الراشد بتوجيه سيل من الشتائم إلى الحاجة بدرية وليمونتها: "لعنة الله عليك على ساعة هالصبح... الله يقصّ لسانك مثل ما انقصت ليمونتك الخرا... العجل لازم دعس في بطنك إنت لو بفهم، بس لأنه حمار خربش بينك وبين الليمونة".
بعد يومين من هذه الحادثة، كان الطرفان المتخاصمان يحتكمان عند مختار القرية. روت الحاجة بدرية روايتها لما حدث، دون أن تغفل الافتراض القائل إن يوسف لم يربط عجله كما يجب، ولو كان فعل ذلك لما حدث ما حدث، ثم روى يوسف الراشد روايته المرتكزة على ما قالته بدرية بحقه. لكن المختار قاطعه بحجة أن الأدعية كانت نتيجة للحدث، وليست السبب، وهو، كمختار، مهمته الفصل بين أي متخاصمين، يجب أن يتم إطلاعه على الأسباب لا على النتائج، أو كما قال: "خلينا نسمع ليش عجلك فالت، بعدين بنجيبلك حقك في الباقي".
قال يوسف: "هذا عجل يا سيدنا المختار، مش خروف. يعني لو ربطناه بجنزير حديد ممكن إذا قرّر يفلت يفلت. وأنا ما كنت متوقع إنه يروح على حاكورتها. بعدين ليش هي كمان ما تحط سياج عالي؟ ليش أنا غلطان إذا ما ربطت العجل بطريقة قوية، وهي مش غلطانة لما ما تحمي ليمونتها بسياج قوي من العجول وغير العجول؟".
لم يقتنع المختار، وفي نفس الوقت لم يستطع الرد، فالمنطق سليم نظرياً، بحيث يجب على كل طرف أن يحافظ على أملاكه بمعزل عن أن الآخرين يقومون بواجبهم على أكمل وجه أم لا، لكنه لم يفهم كيف يمكن أن يساوي بين ربط عجل وتسييج ليمونة؟
وللخروج من هذا المأزق، قرّر أن يكون الحل مقتصراً على الجانب المادي من المشكلة، دون الذهاب إلى الأدعية والشتائم بين الطرفين، ودون الدخول في مسبّبات قد يراها كل شخص من زاوية مختلفة. العجل كسر الليمونة ويجب أن نعوض الحاجة بدرية عن ذلك، هذا هو.
تنحنح المختار وقال بثقة عالية: "يا حاجة، أنت أختنا وما بصير يضيع حقك. لو افترضنا أن هذه الليمونة ستطرح في السنة القادمة كيلو من الليمون، وفي السنة التي تليها كيلوين، وعلى مدار الثماني سنوات التالية لو طرحت خمسة كيلوات كل سنة، أكثر أو أقل، فالمجموع يقارب الخمسين كيلو. ولو افترضنا أن الكيلو بدينار، فأنا أقترح أن يدفع لك الحاج يوسف خمسين ديناراً وننهي هذه القصة. هل توافق يا يوسف؟"، أجاب يوسف مع القليل من التبرّم: "موافق".
أكتب هذه القصة وأنا أفكر بالفقد اليومي الذي نعانيه كفلسطينيين أمام عجل فالت، لا يحتكم لا لقيم ولا لأعراف ولا لأخلاق حرب، ولا أجد لغة تصلح لمقال دون أن يكون وعظياً مكروراً، ولن يقدم أو يؤخر في دائرة لا تتوقف من الفقد
"هل توافقين يا حاجة بدرية؟". صفنت الحاجة بدرية مطولاً ثم أجابت: "يعني يا مختار أنت قرّرت إني رح أعيش عشر سنين بس؟". تلعثم المختار وأجاب بتأتأة: "الله يعطيك طول العمر يا حاجة، أنا قصدي إنه الليمونة هي اللي رح تعيش عشر سنين، الليمون ما بطوّل مثل ما بتعرفي". قال ذلك وهو يفكر بالليمونة التي زرعها والده قبل أربعين عاماً وما زالت تثمر.
لكن الحاجة بدرية قاطعته مستأنفة احتجاجها: "هل تظنّ يا مختار أنني زرعت هذه الشجرة فقط لأنني أشتهي حبة ليمون؟ ألا أستطيع الذهاب إلى الدكان وشراء ما أريد من الليمون وغيره؟ من سيعوّضني عن كل مرة نكشتُ فيها الأرض حولها خلال السنتين الماضيتين. كيف تعوضني عن انتظارها يومياً لتزهر، وانتظاري أن يعقد زهرها ليموناً؟ من يعوضني عن الفرح كلما رأيت ورقة جديدة على فروعها؟ من يعوضني عن قهري يوم أمس واليوم وبعد سنة، إن عشت، حين أفيق ولا تكون موجودة؟ من يعوضني عن فرحي أمام الجارات حين أقول لهن إن ليمونتي كبرت شبراً؟ من يعوضني عن رائحتها الصباحية تحت نافذتي. لا أريد تعويضك يا مختار، ولو أردت أن أستخدم منطقك لطالبت بقتل العجل المذنب، لكنني امرأة مقهورة وتعرف معنى الفقد".
أكتب هذه القصة وأنا أفكر بالفقد اليومي الذي نعانيه كفلسطينيين أمام عجل فالت، لا يحتكم لا لقيم ولا لأعراف ولا لأخلاق حرب. وبالطبع لا أفكر أنني أكتب بالرمز، فالرمز أسلوب قديم عفى عليه الزمن، ولا يصلح لمقالات تعالج شؤوناً واضحة وضوح الشمس. لكنني أحاول الوصول لإحساس الصحفي الذي يجري مقابلة مع أم ثكلى، ولا أجد لغة تصلح لمقال دون أن يكون وعظياً مكروراً، ولن يقدم أو يؤخر في دائرة لا تتوقف من الفقد.

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

فلنتشارك في إثراء مسيرة رصيف22

هل ترغب/ ين في:

  • الدخول إلى غرفة عمليّات محرّرينا ومحرراتنا، والاطلاع على ما يدور خلف الستارة؟
  • الاستمتاع بقراءاتٍ لا تشوبها الإعلانات؟
  • حضور ورشات وجلسات نقاش مقالات رصيف22؟
  • الانخراط في مجتمعٍ يشاركك ناسه قيمك ومبادئك؟

إذا أجبت بنعم، فماذا تنتظر/ ين؟

    Website by WhiteBeard
    Popup Image