شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!
صفعني الجندي الإسرائيلي واحتجزني... وكان هذا أجمل عقاب تمنيته

صفعني الجندي الإسرائيلي واحتجزني... وكان هذا أجمل عقاب تمنيته

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والحقوق الأساسية

الأربعاء 3 مايو 202302:35 م

تقع قريتنا في منتصف المسافة بين مدينتي نابلس ورام الله، وبما أنها قرية، فهي بالضرورة وادعة، أو على الأقل، كانت قرية وادعة في عام 1981. في تلك الأيام كان عدد سكانها لا يزيد عن ألف نسمة بقليل، وإذا أضفنا عدد رؤوس الغنم التي يملكها عبد الجبار، والحمير الثلاثة التي يتبادلها السكان لحراثة أراضيهم، وخمسين إلى ستين زوج حمام، ومثلها من الأرانب والدجاج، فإن عدد السكان لا يتجاوز الألفين من الأرواح.

بين هذه الجماهير المتنوعة، كان أبي الشيوعي الوحيد. أقصد، كان شيوعياً قبل هذا التاريخ بثلاثين سنة على الأقل، لكنه كان يقضي حياته في السجن تارة، ومطارداً في الجبال تارة أخرى. في 1981 كان قد استقرّ في القرية، بعد ثلاثة عقود من المشي والتعذيب، ولأن "الفاضي بيعمل قاضي"، فقد قرّر أبي أن يدعو أهل القرية إلى الشيوعية.

كان أبي الشيوعي الوحيد. أقصد، كان شيوعياً قبل هذا التاريخ بثلاثين سنة على الأقل، لكنه كان يقضي حياته في السجن تارة، ومطارداً في الجبال تارة أخرى

كان يجلس بين الأقارب في مضافة العائلة، وبينما يتبادل الرجال همومهم حول موسم البامية، كان أبي يشرح لهم عن ستالين وتروتسكي. هم يناقشون المطر الشحيح وأبي يخبرهم عن ماركس. وظل هذا الحال مستمراً إلى أن أصابه الملل وأصابهم الضيق، فقرّر أن يغير استراتيجيته معهم بأن يجعلهم يقرأون، لكن الكتب التي يملكها صعبة الفهم بالنسبة لهم، فمكتبته الصغيرة كانت تحتوي على كتب "ما العمل" و "ضد دوهرينغ" و"البيان الشيوعي" و"الإمبريالية أعلى مراحل الرأسمالية" و"دفاتر عن الديالكتيك" وعشرة إلى عشرين من العناوين المشابهة.

الكتاب الوحيد لمؤلِف عربي وبلغة عربية مفهومة في ظاهرها كان "النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية" لحسين مروة. لكن هذا الكتاب كان عزيزاً على أبي أكثر من أحد أبنائه، ولا يمكنه أن يعيره لأحد. ناهيك عن أن لا عبد الجبار ولا يوسف البس سيفهم كلمة من هذه الفلسفة، ولا من الأحداث التاريخية الموجودة بين دفتي الكتاب؛ كثورة الزنج والقرامطة والمعتزلة. وأمام هذه المعضلة اتخذ أبي قراره الأسهل، وأعلن على مسامعهم في المضافة، أنه سيهديهم جريدة الحزب مجاناً.

تقدم الجندي نحوي وسألني: شو هذا اللي بإيدك؟ وكنت قد تركت عدد جريدة الفجر في يدي، فأجبت: جريدة. ثم أضفت بكل غباء: هاي مسموحة

عاد إلى البيت في تلك الليلة، وأيقظني من النوم، وبدأ يشرح لي خطته بكلمات أفهمها: أنت يا ولدي صغير بالعمر ولن يشك بك أحد. غداً ستذهب إلى نابلس مع سيارة الحاج داوود، وعندما تنزل من السيارة تسأل عن الشارع الفلاني ثم البناية الفلانية، إلى أن تصل عيادة الدكتور باسم شقير. قل له أنا ابن عبدالله، أبي يسلّم عليك ويقول لك إنه يريد عشرة أعداد من جريدة "الطليعة". في طريق العودة، احرص ألا يعرف أحد ما الذي تحمله، فهذه الجريدة ممنوعة في الضفة الغربية، ويمكن أن تتسبب لك حيازتها بالسجن. هل فهمت؟ نعم فهمت يا أبي.

في صباح اليوم التالي كنت أخرج من العيادة وتحت إبطي عشرة أعداد من "الطليعة" داخل كيس أسود، وبينما أنا متجه نحو موقف السيارات، شاهدتُ ربطات من الجرائد الموضوعة علناً أمام أحد الدكاكين، ولكنها جرائد بأسماء مختلفة عن "الطليعة"، مثل "الفجر" و"الشعب" و"القدس".

دخلت متردداً، وسألت صاحب الدكان: عمو هذه الجرائد ممنوعة؟ فأجابني باستهجان: لا طبعاً. فاشتريت عدداً من جريدة "الفجر" لكي أثبت لأبي أنني أنا أيضاً أقرأ، وأن خياراتي قد تكون مستقلة ومختلفة عنه وعن خياراته، فلا بد أن هذا سيفرحه.

صعدت إلى الكرسي الخلفي من سيارة الحاج داوود، وجلست بين امرأتين لا أعرفهما، وكان في الكرسي الأمامي رجل وطفل صغير. نظر الحاج داوود في المرآة الأمامية ووجه كلامه للمرأة التي على يميني: هذا ابن عبدالله. سألتْ المرأة: مين عبدالله؟ فأجاب: عبدالله الشيوعي. فهزت المرأة رأسها ولم تقل أية كلمة. ثم التفت الرجل الجالس في الكرسي الأمامي وسألني: شو جاي تعمل لحالك في نابلس يا ولد، وين أهلك عنك؟ فلم أجب. قالت المرأة الجالسة على يساري: والله كبران يا ولد، كم عمرك؟ فلم أجب. سألني الحاج داوود: أبوك ما بده يصير يصلي؟ مش تطلع مثله كافر، هذا الحكي الفاضي ما بنفعك، أهم شي في الحياة طاعة الله. فاهم؟ فلم أجب.

تهادت السيارة في الطريق الضيق بين نابلس وقريتي، إلى أن وصلت تلة "زعترة" وتوقفت خلف سيارتين متوقفتين. نظرت من خلال الزجاج الأمامي للسيارة وإذا بجنود يغلقون الشارع، ويدقّقون في هويات المسافرين.

يا للمصيبة، ما الذي سأفعله لو اكتشف الجنود أنني أحمل كل هذه الأعداد من جريدة ممنوعة؟ لا بد أنهم سيعتقلونني؟ هل سأعترف عن أبي؟ لا لا. هل سأعترف عن الدكتور باسم شقير الذي زودني بها؟ أيضاً لا . هل سأسجن؟ سأتحمّل التعذيب؟ عشرات الأسئلة التي مرت سريعاً في رأسي، إلى أتى دورنا أمام الجنود مباشرة.

نظر الجندي إلى داخل السيارة وتفحصنا ثم قال: انزلوا. وبحركة سريعة دسستُ الكيس الأسود تحت كرسي السائق، ونزلت.

دقق الجندي في هوية السائق وهوية الرجل الجالس في الكرسي الأمامي، ثم سأل المرأتين وهو يشير بإصبعه نحوي: ابن مين هذا، ابنك والا ابنها؟ فأجابتا بصوت واحد: مش ابني.

قالت المرأة الجالسة على يساري: والله كبران يا ولد، كم عمرك؟ فلم أجب. سألني الحاج داوود: أبوك ما بده يصير يصلي؟ مش تطلع مثله كافر، هذا الحكي الفاضي ما بنفعك، أهم شي في الحياة طاعة الله. فاهم؟ فلم أجب

تقدم الجندي نحوي وسألني: شو هذا اللي بإيدك؟ وكنت قد تركت عدد جريدة الفجر في يدي، فأجبت: جريدة. ثم أضفت بكل غباء: هاي مسموحة.

أخذ الجندي الجريدة من يدي وتفحصها ثم صفعني بكل قوة وهو يصرخ: بتقرأ "الفجر" يا كلب، وبتعرف المسموح والممنوع؟ ثم جرّني من كتفي وأجلسني على حجر على جانب الطريق.

ذهب إلى ضابطه المسؤول ثم عاد وسألني: منذ متى تقرأ "الفجر"؟ في هذه اللحظة كان دماغي مشغولاً بتساؤل غريب: إذا بسبب "الفجر" عملوا فيي هيك، كيف لو يمسكوا "الطليعة"؟ كرّر الجندي سؤاله مصحوباً بشتيمة وصفعة ثانية، فانفجرت بالضحك. صار يضربني لأنني أضحك لا لأنني أقرأ الجرائد، وأنا صرت أضحك لكي يركّز على ضربي ولا يذهب لتفتيش السيارة. بعد نصف ساعة قرّر الجندي معاقبتي بأن قال للحاج داوود: هيا اذهب، أما هذا الكلب فسيبقى هنا. حاول الحاج داوود استمالة الجنود بكلمات من قبيل: هذا ولد صغير وما بيفهم، فلم يفلح. قال لهم إنني مريض وعائد من عند الطبيب في نابلس، وقال إنني يتيم، فلم يلتفت الجنود لكل هذا التوسل. ثم تدخلت المرأة التي كانت تجلس على يميني وقالت: فش في قلوبكم رحمة، هذا ولد زغير، حرام عليكم. فصرخ أحد الجنود بها، ورفع سلاحه في وجه الحاج داوود وقال بعصبية: يلا روح من هون.

عندما تحركت السيارة تنفست الصعداء، وكففت عن الضحك، وعندما ضربني للمرة العاشرة، بكيت. فتركني أعود إلى القرية مشياً.

كان هذا أجمل عقاب تمنيته في تلك الساعة.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

بالوصول إلى الذين لا يتفقون/ ن معنا، تكمن قوّتنا الفعليّة

مبدأ التحرر من الأفكار التقليدية، يرتكز على إشراك الجميع في عملية صنع التغيير. وما من طريقةٍ أفضل لنشر هذه القيم غير أن نُظهر للناس كيف بإمكان الاحترام والتسامح والحرية والانفتاح، تحسين حياتهم/ نّ.

من هنا ينبثق رصيف22، من منبع المهمّات الصعبة وعدم المساومة على قيمنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image