قبل عام واحد، سعت الشابة الفلسطينية هبة، وهي أخصائية سمع ونطق من الضفة الغربية المحتلة، إلى إطلاق حملة جمع تبرعات لتمويل دراستها في الماجستير خارج فلسطين عبر موقع "Gofundme" الشهيرة، بناءً على نصائح الكثير من الأصدقاء والصديقات.
لكن محاولتها اصطدمت بأنها لا تستطيع إطلاق الحملة من داخل فلسطين، أو ربطها بأي حساب بنكي داخل البلاد. كان الخيار المتاح لديها اللجوء إلى شخص "موثوق به" يقيم في الخارج يمكنه إطلاق الحملة وربطها بحسابه البنكي غير الفلسطيني.
خدم الحظ هبة بأن شقيقها كان يقيم في ألمانيا في تلك الفترة، واستخدم حسابه البنكي لإطلاق حملة التبرعات. مع ذلك، لم تنجح الحملة ولم تجمع الشابة الفلسطينية المبلغ الكافي لاستكمال دراستها، لأنّ الأمر كان يتطلب ما هو أكثر مما سبق - الكثير من المعارف والمتبرعين من خارج فلسطين.
تقول هبة لرصيف22: "الأمر لا يقتصر فقط على هذه المنصة، معظم المنصات الّتي حاولت إنشاء حساب فيها للقيام بجمع تبرعات كانت تشترط وجود حساب بنكي غير فلسطيني، على الرغم من أن إحدى هذه المنصات كانت إسلامية. وقد تكشّفت وجوه أخرى بالنسبة لي خلال هذه العملية، بأنّ تحويل الأموال لحسابات فلسطينية يتم ربطه دائماً بدعم الإرهاب، وهذا أمر أشعرني بالكثير من الغضب".
يُعد ما تعرضت له هبة، ويتعرض له بانتظام فلسطينيون وفلسطينيات داخل البلاد وفي الشتات أحد أشكال التمييز الرقمي الاقتصادي الممنهج ضدهم/ن. كان هذا أحد أهم المواضيع المطروحة في "منتدى فلسطين الرقمي" الذي اختُتمت فعالياته في 25 أيار/ مايو 2023.
الفعاليات التي توزّعت بين رام الله وحيفا وقطاع غزة المحاصر والداخل الفلسطيني المحتل، تضمّنت عشرات الندوات والورشات الّتي أُقيمت بشكلٍ وجاهي ورقمي (لقاءات عبر "Google Meet") بالتوازي، بحضور عشرات الضيوف من مختلف أنحاء العالم للحديث عن التمييز الّذي يتعرض له الفلسطينيون/ات في الفضاء الرقمي وسبل المناصرة الممكنة.
يتطلب "سنوات طويلة من النضال والعمل التراكمي"... "منتدى فلسطين الرقمي" ونقاش حول أسئلة ملحة في سياق إنهاء التمييز الرقمي الاقتصادي والسياحي وأيضاً على المحتوى الخاص بالفلسطينيين/ات عبر الإنترنت
سعت الندوات إلى إيجاد أجوبة على أسئلة ملحة من بينها: كيف يؤثر التمييز الرقمي ضد الفلسطينيين/ات والمجتمعات المضطهدة عبر مواقع التواصل الاجتماعي على الحقوق والحريات الرقمية؟ وكيف تؤثر تطبيقات السياحة والخرائط الرقمية والأرشيفات على روايات الشعوب المضطهدة؟ وكيف يؤثر التمييز الاقتصادي الرقمي على حق الفلسطينيين/ات في الوصول إلى الحرية والعدالة والكرامة؟ وكيف تؤثر التشريعات الصادرة عن الاتحاد الأوروبي على الحقوق الرقمية للفلسطينيين/ات؟ وأيضاً "الفجوة الرقمية في فلسطين: الوصول الممنوع للإنترنت وتأثيره على التعليم والعمل والنشاط".
صوت فلسطين الرقمي
وعن أهمية المنتدى الّذي يقام للسنة السابعة على التوالي، تقول لرصيف22 مُنية ظاهر، منسقة الإعلام في المركز العربي لتطوير الإعلام الاجتماعي (حملة): "هذه هي المرة الأولى منذ ثلاث سنوات التي تكون لدينا فيها فعاليات وجاهية بعد الجائحة، لذلك حرصنا على أن يكون اختتام المنتدى متنوّعاً من حيث المتحدثين والضيوف وشاملاً إلى حد كبير جميع الجوانب الرقمية الّتي تشهد انتهاكات مختلفة لحقوقنا كفلسطينيين/ات".
تلفت منية إلى أن الحرص على أن يغطي المؤتمر مدناً فلسطينيّة مساحة واسعة من المدن الفلسطينية، "ليكون المؤتمر شمولياً أكثر، ويساعدنا في الوصول إلى الناس بمختلف توجهاتهم. كان من المهم بالنسبة لنا، بالإضافة إلى وجود المؤتمر على الأرض، إطلاقه بشكلٍ رقمي، لأنّ هناك ملايين الفلسطينيين والمدافعين عن الحقوق الفلسطينية حول العالم يهتمون بالمشاركة معنا".
من جهته، يقول نديم ناشف، مدير مركز حملة، لرصيف22: "ننظر للمنتدى على أنه جزء أساسي من عمل مركز حملة، ونتطلع إليه كل عام، ونعتبره عملاً تراكمياً. جاءت النسخة السابعة بشكل مدمج، واستطاعت جمع 1500 مشارك/ة من كافة أنحاء العالم، في فعاليات رقمية وأخرى وجاهية في مدن فلسطينية مختلفة، واستطعنا بذلك تخطّي الحواجز والعقبات المفروضة على الفلسطينيين/ات، للبحث في إمكانيات تجاوز التمييز الرقمي المفروض علينا".
الانتهاكات الرقمية لا تتوقف
يعاني الفلسطينيون/ات حول العالم مضايقات وانتهاكات كثيرة أثناء التغطية والحديث عن القضايا الفلسطينية عبر الإنترنت. وفي كثيرٍ من الأحيان، يتعرض أفراد لملاحقات من قبل شركة "ميتا" المالكة لمنصات التواصل الاجتماعية واسعة الانتشار فيسبوك وواتساب وانستغرام، وذلك عبر غلق وحذف الحسابات الاجتماعية، و/أو تقليل الوصول إلى الحسابات الداعمة للقضية الفلسطينية والتي تغطي الأحداث والانتهاكات الإسرائيلية بحق الفلسطينيين/ات.
حرص المنتدى الرقمي الفلسطيني هذا العام على استضافة شخصيات عديدة من "ميتا" للحديث عن هذه الملاحقات وعن الحلول الممكن العمل عليها لتجاوز مثل هذه الإجراءات. عن ذلك، يضيف نديم ناشف: "يشكل مجلس الإشراف على ميتا أداة للرقابة على عمل الشركة، حيث أن مجلس الإشراف يعد مجلساً مستقلاً لمتابعة القضايا المتعلقة بسياسات إدارة المضمون بالشركة، وعليه من المهم جداً تسليط الضوء على إمكانيات استغلال عمل المجلس من أجل التأثير في الملفات المتعلقة بسياسات المنصة حول إدارة المحتوى الفلسطيني".
ويلفت نديم إلى أن مجلس الإشراف على ميتا "لعب دوراً هاماً في تقرير العناية الواجبة ذات الصلة بحقوق الإنسان حول آثار ميتا في إسرائيل وفلسطين في أيار/ مايو 2021، إذ قام المجلس بإصدار توصية لميتا لإجراء تحقيق أشارت نتاؤجه إلى ممارسة الشركة الرقابة والإدارة "المفرطة" على المحتوى العربي مقارنة بالمحتوى العبري.
إلى ذلك، حاول المنتدى تسليط الضوء على إمكانيات التأثير من خلال مجلس الإشراف على ميتا لاستئناف المزيد من الحالات الهادفة إلى تسليط الضوء على الرقابة المفرطة التي تواجهها المجتمعات المضطهدة عموماً، والفلسطينيين/ات على وجه الخصوص".
"تطبيقات الخرائط مثل Google Maps لا تعرض الحقيقة على الأرض، على غرار الطرق الّتي تمنع إسرائيل الفلسطينيين من المرور منها بسبب وجود مستوطنات. هذا قد يشكل خطراً حقيقياً على الفلسطينيين الذين يستخدمون التطبيق بسبب عدم وجود مثل هذا التحذير"
وتضيف منية: "من المهم اليوم الدفاع عن حق الفلسطينيين/ات في حرية الحديث عبر مواقع التواصل الاجتماعي عن الانتهاكات الرقمية بحقهم/ن، وواحد من أهم الأشياء التي علينا الحديث عنها هو الوعي تجاه مثل هذه الانتهاكات، لأنّ الوعي والمعرفة بما يحدث ينقلنا إلى مرحلة الضغط باتجاه إنهاء مثل هذه الانتهاكات".
توضح منية أن الحديث عن مثل هذه الانتهاكات وعن الإجراءات المنتهكة للحقوق الرقمية الفلسطينية ينبغي أن يقود إلى تغيير شركات مواقع التواصل سياساتها المسيئة، وهو ما تقول إنه "يتطلب عملاً طويل الأمد ويحتاج وقتاً طويلاً… سنوات طويلة من النضال والعمل التراكمي".
وتستطرد منية بأن هذا هو سبب أن المنتدى الفلسطيني الرقمي دوره الأساسي هو "مراكمة الوعي سنة بعد أخرى ومراكمة المعلومات وطرح الأسئلة المختلفة - المتشابهة في كلّ عام من أجل الوصول لهدفنا الأساسي"، مردفةً "عندما نتحدث عن إنهاء التمييز الرقمي ضد الفلسطينيين/ات فنحن نتحدث عن ثيمة استلهمناها من تقرير العام الماضي عن التحيّز في سياسات إدارة المحتوى باللغة العربية مقارنةً بالعبرية".
وتؤكد أن التقرير كان "حجة واضحة" أمام تهرب "ميتا" من الاعتراف بوجود هذا التمييز الرقمي الممنهج، وضد مزاعمها بأنها تمتلك معايير تستخدمها في كلّ العالم بذات القدر دون تمييز.
التمييز الرقمي الاقتصادي والسياحي ضد الفلسطينيين/ات
في حين أن التمييز الرقمي ضد الفلسطينيين/ات منتشر في صور مختلفة، وربما أشدها تمييز "ميتا"، إلّا أن أبحاث مركز حملة ومختلف مؤسسات المجتمع المدني الفلسطيني المعنية، تشير إلى تزايد الانتهاكات الرقمية الاقتصادية والسياحية عاماً بعد عام على نحو خاص، وذلك عبر مواقع وتطبيقات عالمية منها Paypal وAirbnb وBooking.
عن ذلك تقول منية: "لا تتوقف الانتهاكات بحق الفلسطينيين/ات عند حذف المنشورات وإغلاق الحسابات، هناك التمييز الاقتصادي الذي لا يقل خطورة عن تقييد المحتوى الفلسطيني. على سبيل المثال، منصة باي بال لا يستطيع الفلسطيني استخدامها، وهذا يعني توقف فرص عمل كثيرة للفلسطينيين/ات. منصات التضامن والتكافل العالمي مثل Gofundme أيضاً يُحرم الفلسطيني من الاستفادة منها لرفضها التعامل مع الحسابات البنكية الفلسطينية".
تستدرك منية بأن "الأمر المثير للسخرية في مزاعم باي بال بشأن عدم إمكانية استخدام الفلسطينيين لمنصتها، هو الادعاء بأن المناطق الفلسطينية تصنّف كمناطق خطيرة ومنطقة نزاع، ولكنْ في المقابل المستوطنون الإسرائيليون في مستوطنات الضفة الغربية المحتلة قادرون على استخدامها رغم وجودهم غير الشرعي وغير القانوني على أراضي فلسطينية".
حتّى تطبيقات السياحة والخرائط الرقمية تميّز ضد الفلسطينيين/ات. تشرح منية: "التطبيقات السياحية هي مصدر مهم جداً للمعلومات، وكذلك يجب أن تكون مصدراً محايداً لما يحدث فعلياً على أرض الواقع. لكن تطبيقات الخرائط مثل Google Maps لا تعرض الحقيقة على الأرض، مثل الطرق الّتي تمنع إسرائيل الفلسطينيين من المرور منها بسبب وجود مستوطنات. هذا بحد ذاته قد يشكل خطراً حقيقياً على الفلسطينيين الذين يستخدمون التطبيق بسبب عدم وجود مثل هذا التحذير في التطبيق".
وتضيف: "على صعيد آخر، كان هناك قرار سابق لموقع Booking وموقع Airbnb بوضع علامة تحذير على المواقع التي تقع داخل مستوطنات بالضفة الغربية. لكنهما تراجعا عن هذا القرار بعد الضغط الإسرائيلي عليهما، وهو ما يؤثر بشكل واضح وجليّ على رواية الفلسطينيين/ات".
حماية البيانات الرقمية للفلسطينيين/ات
في غضون ذلك، تبقى مسألة حماية البيانات للفلسطينيين/ات واحدة من أهم الموضوعات التي تم التطرق إليها خلال المنتدى، وكذلك واحداً من المواضيع التي تشغل الفلسطينيين/ات حول العالم أثناء استخدامهم/ن لمختلف منصات مواقع التواصل الاجتماعي، خاصةً في ظل المخاوف من إطّلاع السلطات الإسرائيلية على البيانات الشخصية للمستخدمين وما قد ينتج عنه من ملاحقات.
"من المهم اليوم الدفاع عن حق الفلسطينيين/ات في حرية الحديث عبر مواقع التواصل الاجتماعي عن الانتهاكات الرقمية بحقهم/ن. الوعي تجاه مثل هذه الانتهاكات، والمعرفة بما يحدث ينقلنا إلى مرحلة الضغط باتجاه إنهاء مثل هذه الانتهاكات"
وترتبط حماية البيانات الرقمية ارتباطاً وثيقاً بالقرارات الدولية المتعلقة بالحقوق وبخاصة الخصوصية. عن ذلك، يقول نديم ناشف: "يهدف الاتحاد الأوروبي إلى تنظيم جوانب التحول الرقمي من خلال عدد من التشريعات، والتي يرمي إلى إلهام المجتمع الدولي حولها، مثل القانون العام للاتحاد الأوروبي، والقانون الخاص بالخصوصية وحماية البيانات الشخصيّة (GDPR)، وقانون الرقابة الرقمية، وقانون الخدمات الرقمية للاتحاد الأوروبي (DSA) أو قانون الذكاء الاصطناعي ومشروع قانون السلامة عبر الإنترنت في المملكة المتحدة وغيرها من القوانين التي تؤثّر على الحقوق الرقمية للفلسطينيين/ات ودول الجنوب العالمي".
يستدرك نديم بأنه "على الرغم من مساهمة هذه النصوص في تعزيز حماية الحق في التعبير عبر الإنترنت والحقوق الأساسية الأخرى في حالاتٍ عدة، إلّا أنَّ تطبيق ما ورد فيها قد يؤدي أيضاً إلى تعميق أوجه التفاوت القائمة في حالاتٍ أخرى".
تُضيف منية لحديثه: "عملياً، عندما نتحدث عن موضوع حماية البيانات في العالم الرقمي الّذي يحتوي على الكثير من المعلومات الشخصية عبر مختلف المنصات، فإن هناك جملة من التشريعات والقوانين حول العالم الّتي تتحدث عن حماية المستخدم وبياناته. ولكن فعلياً، أي من الناحية التطبيقية، فإن القوانين لا تُطبّق لدرجة شعور المستخدم بأنه آمن رقمياً".
"في السياق الفلسطيني، نحن نتحدث عن خلل كبير في كل موضوع حماية البيانات الشخصية. وقد كان لدينا في حملة تقارير عديدة الّتي تتحدث عن الخلل في هذا الموضوع بالذات. وعملياً لدينا مشاكل كثيرة في مثل هذه الانتهاكات من خلال السلطات الإسرائيلية كالتجسس وغيره. لكننا نهدف في حملة إلى الدفع بمشروع قانون حماية للفلسطينيين/ات على الأقل في مجالات محددة كالاتصالات والبيانات الاقتصادية"، تتابع منية.
التمييز الرقمي في مجال التعليم والمناصرة
يتأثر أيضاً قطاع التعليم والفعاليات اللامنهجية بالتمييز الرقمي ضد الفلسطينيين/ات، وذلك بسبب السيطرة الإسرائيلية على الإنترنت وعلى أرض الواقع.
تقول منية في هذا الصدد: "عندما نتحدث عن التمييز الرقمي، لا يمكننا تجاهل واقع التعليم في فلسطين والفجوة الكبيرة بيننا وبين الكثير من المجتمعات الأخرى في العالم. حتى هذا اليوم، توجد سيطرة إسرائيلية على الإنترنت والبنية التحتية في قبضة إسرائيل. لذلك نعاني من وصول محدود للإنترنت، وهذا الأمر يؤثر بشكل واضح على قطاع الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات الذي يخضع لسيطرة إسرائيلية شبه تامة".
وتضرب لذلك مثالاً بمنع استخدام شبكات أكثر من 3G في الضفة الغربية أو 2G في غزة، بينما العالم يستخدم 5G.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...