كان أول ما طرأ على ذهني عندما جلست في الطائرة للمرة الأولى في انتظار إقلاعها من مطار القاهرة، أن يحدث لي مثلما يحدث للكاتبة إريكا يونغ، كاتبة ثلاثية "الخوف"، والذي حمل الجزء الأول من ثلاثيتها عنوان "الخوف من الطيران"، وذلك لأنها كانت تخشى الطيران كثيراً.
انتظرت أن تندفع معدتي عالياً نحو قفصي الصدري، وأن تنخفض درجة حرارة أنفي إلى مستوى درجة حرارة أصابعي، مثلما يحدث لها في كل مرة تسافر فيها، لكن لم يحدث شيء من هذا، وكل ما حدث أني شعرتُ بالإثارة والاستمتاع عند سماعي لصوت محرك الطائرة، والذي ذكرني بصوت فتح ستار المسرح الذي كنت أسمعه عندما كنت أمثل في مسرح الجامعة، فتشابه الصوتان وكذلك الشعوران بانتظار حدوث حدث جلل.
الوصول الأول إلى أبوظبي وإلى نفسي
وصلت إلى أبوظبي لإتمام رحلة عمل مدتها عشرة أيام، وما إن وطئت قدمي أرض هذا البلد، أحسست بوخزة خوف تتسلّل إلى قلبي. لا بد أنه التوتر، لأنها المرة الأولى التي أسافر فيها، وربما أيضاً بسبب شعور المسؤولية تجاه العمل الذي جئت من أجله. استقلّيتُ تاكسياً مع بعض زملاء المهنة الذين كانوا معي صدفة على متن الطائرة، واتجهنا نحو الفنادق التي تنتظرنا غرفها. لاحظت في الطريق مدى نظافة شوارع البلد، ونظامها، وتأكد لي ذلك في الأيام التالية، عندما كنت أذهب إلى مقر عملي الواقع في شارع الخليج العربي.
لقد استنفذت كل فرصي هنا، فرص العمل وفرص الحب، وفرص العيش بأمان، فلماذا نتمسّك بمكان يرفضنا كل يوم أكثر وأكثر؟
شعرتُ أيضاً بما توفره هذا البلد من أمان وحماية لمواطنيها. كنت أنتهي من عملي في تمام الساعة العاشرة مساء، أي في الوقت نفسه الذي تغلق فيه معظم المطاعم والمحلات التجارية أبوابها، رغم ذلك لم أكن أشعر بالخوف عندما أسير ليلاً أو عندما أستوقف تاكسي أجرة وحدي لأعود للفندق.
هي بلد نظيفة، وفيها ما يكفي من الأمان والنظام والقانون، وفرص للعمل، والترحيب بمختلف الجنسيات، لكي تخلق داخلك رغبة مغادرة وطنك والانتقال للعيش فيها، خاصة أن كنت مثلي تنتمي إلى دولة عالم ثالث، لكن كل هذا لم يكن كافياً بالنسبة إليَّ، وكنت أتساءل كل يوم متى تنتهي رحلة العشرة أيام، وأعود إلى مصر.
اشتقت إلى روح بلدي
عندما كنت أشاهد أفلاماً عربية وأستمع إلى إحدى الشخصيات التي تعيش في الخارج تقول عندما تعود إلى مصر: "مصر فيها روح مختلفة، مهما لفيت العالم مش هتلاقي بلد زيها"، وما إلى ذلك من الجُمل الوطنية، كنت أسخر في داخلي من معنى تلك الروح التي يطلقون الشعارات والكلمات الحماسية بخصوصها.
ربما الشعور بتلك الروح لا يأتي من كون هذه الروح موجودة بالفعل في مصر وحدها، بقدر ما يخلقها، ويعزّز الشعور بها ارتباط فطري بين كل إنسان ووطنه، فربما يشعر المواطن العراقي هكذا تجاه وطنه العراق، وكذلك السوري تجاه وطنه سوريا، واللبناني تجاه بلده لبنان، وفي الوقت نفسه هذه الروح هي أكثر ما افتقدته وأنا في الإمارات.
أسير في الشوارع، أشعر بالغربة والوحشة رغم شعور الأمان المنطقي المحيط بي، لكن شعور الخوف الذي كان يتسلل إلى قلبي هو خوف من نوع آخر، يشبه شعور الطفل الرضيع الذي تركته أمه مع أبيه أو مع أحد الأقارب الموثوق فيهم، ومع ذلك يشعر بالخوف وينادي باسمها.
في أي سياق كنت أذكر فيه مصر، أشعر وكأنني أنادي عليها حتى تأتي وتأخذني، فهي من تركتني هناك، حتى ولو كان الأمر يبدو باختياري، لكن كل الدوافع تقول إنني وغيري مجبرون على هذا الوضع، وهي من تجعلني الآن أفكر في مغادرتها للأبد.
عندما كان يسألني أحد العملاء بدهشة بمجرد حديثي معه: "أنتِ من مصر؟"، ولا بد من الإيضاح أن تلك الدهشة كانت بسبب عملي في معرض الكتاب في أبوظبي مع دار نشر كويتية، لذا كانوا يحاولون الاستفسار. كنت أشعر بكثير من الفخر عندما أقول إني من مصر، فلا أنسى العميل الجزائري الذي قال لي إنه يعرف مصر جيداً، وحاول تخمين أي منطقة أنا منها، وبالفعل أصابت توقعاته، وعرف أن مسقط رأسي هي الإسكندرية، حينها قلتُ له: "أتعرف أن هذه المرة الأولى التي أقابل فيها مواطناً جزائرياً؟"، فرد قائلاً وهو يبتسم: "وأتعرفين أن هذه المرة الأولى التي أرى فيها إسكندرانية؟ لن أستطيع أن أقول لكِ أنكِ أول مصرية أراها؛ لأن المصريين معنا في كل مكان، وفي الأغاني وفي الأفلام".
أسير في الشوارع، أشعر بالغربة والوحشة رغم شعور الأمان المحيط بي، لكن شعور الخوف الذي كان يتسلل إلى قلبي هو خوف من نوع آخر، يشبه شعور الطفل الرضيع الذي تركته أمه مع أبيه، ومع ذلك يشعر بالخوف وينادي باسمها
أتذكر أيضاً عندما سألني أحد سائقي التاكسي هندي الجنسية فأجابته قائلة: Egypt، فأشار لي بيده بعلامة تدل على الإعجاب لكوني من هذا البلد، لذا قبل أن أهبط من السيارة أعطيته جنيهاً مصرياً ليتذكرني أنا ومصر.
قضيتُ أيام العمل وأنا أتحرّق شوقاً ليوم العودة. كانت من أسعد لحظات حياتي لحظة هبوط الطائرة في مطار القاهرة، وأتعجّب كثيراً من هذا، وربما أن هذه اللحظة مثلت لي الكثير لأني حينها شعرتُ وكأنني قضيت عشر سنوات في الإمارات لا عشرة أيام فقط، من فرط ما كنت أشعر به من حنين وشوق إلى مصر.
الوطن والغربة
لقد استنفذت كل فرصي هنا، فرص العمل وفرص الحب، وفرص العيش بأمان، فلماذا نتمسّك بمكان يرفضنا كل يوم أكثر وأكثر؟ مثله مثل الحب، فقد تخلى الحب عني، وهذا أكثر ما يؤلمني، جربتُ أن أترك يديه لأرى ماذا سيحدث، فترك يده هو الآخر، وأدار لي ظهره.
هذا عما نكابده في الوطن، أما في الغربة التي لم أجربها سوى عشرة أيام، فأخشى شيئاً آخر عبّرت عنه الكاتبة العراقية إنعام كجه جي، بصورة ملهمة وحزينة في الآن نفسه في روايتها "سواقي القلوب"، حين قالت: "كيف أجعله يفهم، يا زمزم، أن الأعمار يمكن أن تتبدّد هدراً، أيضاً، في أكثر بلدان الدنيا جمالاً، وأن الأعمار إذ تتبدّد في بلد غريب بلا حصاد يذكر، فإن الأمر يصبح أكثر فداحة".
أريد أن أسافر، فأجني بعض الأموال لعامٍ أو اثنين أو ثلاثة، وربما أقابل حبّاً آخر. أريد أن أسافر لأرى العالم، وحتى أشعر ببعضٍ من الأمان الذي تقدّمه الدول الأخرى لقاطنيها. أسافر وأترك خلفي في مصر ما لن أجده في أي مكانٍ آخر، وإذا اتخذت القرار حقاً أتمنى ألا يتبدّد العمر هدراً.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 17 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 5 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين