تعيش آريا غربة مضاعفة، تقضي معظم وقتها في العمل صامتة، لا تفهم إلا القليل: لماذا يضحكن؟ عمّا يتحدثن؟ هي الموظفة الإيرانية الوحيدة، وسط صالون تجميل يمتلئ بالشابات السوريات اللواتي يتحدثن اللغة العربية.
جاءت آريا إلى مدينة أربيل منذ نحو عام ونصف، شابة في الثلاثين من عمرها تبحث عن حياة جديدة، تملؤها روح التحدي والمغامرة، فهي لوحدها قادرة على العمل والحياة والنجاح.
تعمل هذه الشابة اثنتي عشرة ساعة يومياً مع عطلة واحدة كل عشرة أيام. تقول لرصيف22: "تملؤني الوحدة في العمل والبيت، زملائي لا يتقنون الانجليزية، وطبعاً لا يتحدثون الفارسية، فقط صاحبة الصالون تتحدث الإنجليزية البسيطة. أسمعهم يتبادلون الأحاديث والنكات مع بعضهم بالعربية لا يمكنني مشاركتهم".
غورمي سابزي
تعود آريا إلى غرفتها، تُنير الضوء، تلقي نظرة على خزانة خشبية قديمة بقربها سرير صغير مع نافذة زجاجية تُطل على الشارع، تحوّل نظرها إلى ثلاجتها الصغيرة، ترى الأكواب المتراكمة وقد جفّت بقايا القهوة بداخلها، ثم بعض قطع الموز التي تحوّل لونها إلى الأسود ولم تتذوقها.
تفتح الثلاجة، تجد بعض الخضار. تقرر إعداد طبقها الإيراني المفضل "غورمي سابزي"، المؤلف من الفاصولياء الحمراء، أعشاب السابزي، بعض اللحم الأحمر. تضعها كلها على النار، فتعبق الرائحة في المكان. تبتسم، وتبدأ بطهي الأرز الأبيض والأصفر. تقطّع الليمون. الآن أصبح كل شي جاهزاً، سوف تأكل وهي تستمع إلى مطربها الإيراني المفضل.
"عندما رأيت ذلك الشاب الإيراني يدخل المحل ويحدثني بالفارسية، شعرت أنني كنت في صحراء قاحلة، ثم رأيت نفسي في حديقة خضراء مزروعة بأجمل أنواع الزهور، هكذا بدت لي الحياة عندما رأيته"
تجلس على السرير، تضع طبق السابزي على حافة النافذة ، تبدأ بتناول الطعام، بعد لقمتين تتوقف، وتستلقي على السرير، تعيد تحريك نظرها في غرفتها، تحدق في نقطة صغيرة على باب الخزانة، تدقق فيها وتركز نظرها على عبارة مكتوبة بالإنجليزية: "لا تبكي".
تقول آريا: "كأن كاتب هذه الجملة موجود معي في الغرفة، حاولت أن أمنع دمعتي أثناء تناول الطعام. عندما قرأت تلك الجملة، امتلأت وسادتي بالدموع، في اليوم التالي، رأيت طبق السابزي قد جفّ من أشعة الشمس التي تدخل نافذتي صباحاً".
تصف آريا مشاعرها في الغربة: "مزيج من الحزن مع بعض الأمل أحياناً، خاصة عندما رأيت ذلك الشاب الإيراني يدخل المحل ويحدثني بالفارسية، شعرت أنني كنت في صحراء قاحلة، ثم رأيت نفسي في حديقة خضراء مزروعة بأجمل أنواع الزهور، هكذا بدت لي الحياة عندما رأيته".
ماذا حدث؟ تُجيب: "حاولت إطالة الحديث معه، لكنه أراد فقط أن أترجم لصاحبة العمل من الفارسية إلى الإنجليزية، أنه شاب يعمل في رسم الأوشام (التاتو) على الجسد، ثم بدأ يتردد على المحل، وفي كل مرة يأتي فيها يعود ذلك الأمل: علّه يحبني، يخفف وحدتي، يشاركني طعامي، أسراري، همومي، آمالي، لكن شيئاً من ذلك لم يحدث".
رقصة إفريقية
تحمل هيا كاميراتها، تغلق باب غرفتها بقوة، فهي متأخرة، عليها إجراء لقاء صحفي مع مدير إحدى المنظمات الإنسانية في مدينة أربيل. تقول لرصيف22: "كان شاباً فرنسياً من أصول لبنانية، نظرت إلى عينيه مباشرة، أدركت أنه لم يتجاوز الخامسة والثلاثين من العمر".
تعيش الصحافية السورية في مدينة أربيل منذ نحو ثلاثة أعوام. بعدة مرور هذه المدّة الزمنية، تراجعت علاقتها بأصدقائها في سوريا، أما بالنسبة إلى أفراد عائلتها، ففي البداية كانت تكلمهم عبر الواتساب يومياً، ثم كل يومين، الآن كل أسبوع مرّة واحدة.
"مشاعر الوحدة في الغُربة لا يمكن أن يفهمها سوى من جربها حقاً، سوف يصغي، يومي برأسه، يبتسم أحياناً، يزمّ شفتيه أحياناً أخرى، فهو عاش هذه المشاعر وأدركها تماماً"
ترى هيا (32 عاماً) أن الحديث للعائلة والمقرّبين عن تفاصيل الحياة في الغربة لن ينفع المغترب شيئاً، فهم ليسوا معه، لن تصلهم مشاعره مهما عاد وكرر: "مشاعر الوحدة في الغُربة لا يمكن أن يفهمها سوى من جربها حقاً، سوف يصغي، يومي برأسه، يبتسم أحياناً، يزمّ شفتيه أحياناً أخرى، فهو عاش هذه المشاعر وأدركها تماماً".
تقطن هذه الشابة في غرفة صغيرة مع مطبخ وشُرفة تطل على منزل يسكنه بعض الشبان والشابات الأفارقة. تراقبهم أحياناً، تحب أصوات جلبتهم: "لا أفهم لغتهم، لكنهم يضحكون، يرقصون، يملؤون المكان حياة. بتُّ أكره سكون الليل وتغمرني السعادة عندما أسمع صوت المياه المتدفقة من صنبور جارتنا التي تصرّ يومياً على شطف الرصيف المقابل لمنزلها، رغم أزمة المياه المتفاقمة في أربيل".
أسّرت هيا لإحدى صديقاتها أنها مُعجبة بذلك الشاب الفرنسي، فأخبرتها الأخيرة أنه يتردد يومياً إلى إحدى المقاهي، يجلب حاسوبه ويعمل، فقرّرت الذهاب إلى المقهى بحثاً عنه، علّه يراها، يتذكرها، ثم تتطور العلاقة بينهما.
تحكي ما جرى: "دخلت إلى المقهى، طلبت فنجان قهوة تركية، شغلت نفسي بهاتفي المحمول، بدأت اتنقل بين فيسبوك وإنستغرام. أصابتني الكآبة، أقلّب في صور ناس لا أعرفهم، أقرأ كم تحب صديقتي أمها، أرى صور جارنا في سوريا يشوي الدجاج في القرية. أغلقت الهاتف مباشرة، خلال انشغالي بهاتفي كان ثمة رجل في الخمسين من عمره، قد جلس في الطاولة القريبة من طاولتي".
تضيف: "طال انتظاري، وفي كل مرة يُفتح فيها باب المقهى، أحرك نظري علّى القادم يكون من أنتظر، إلى أن خاب أملي وفضّلت الخروج، لكن ذلك الرجل المسن فاجأني بقوله: حساب القهوة مدفوع، قلت: لماذا؟ فأجاب: أعجبتني كثيراً، لو أنك تذهبين معي رحلة إلى تركيا، سنقضي وقتاً رائعاً معاً".
تعتدل في جلستها، وتضيف: "كان تحرّشاً مباشراً، زاد من كآبتي، فبدلاً من قدوم الشاب الفرنسي جاء ذلك الرجل ليضاعف حزني ويفاقم مشاعر الوحدة".
قررت هيا، تربية كلب صغير: "تربية الحيوانات الأليفة تخفف مشاعر الوحدة، عندما أخبرت صديقتي عن رغبتي تلك، قالت: الكلب بدو رعاية، وين رح تتركيه لما تروحي الشغل؟ شو رح تطعميه؟ مصروف كبير؟ الكلاب عفكرة بتمرض بالشتي"، تبتسم وتقول: "عدلتُ بعدها عن الفكرة، لم يكن مرتبي كافياً لتغطية حاجاته".
أحمر شفاه
تُخرج إيفلين فستانها الأسود الضيّق، ثم حذاءها الأحمر. إنها في غاية الأناقة، مع القليل من المكياج، وتسريحة الشعر البسيطة، الآن سترتدي الفستان. تحاول رفع السحّاب الخلفي، تصل لمنتصف ظهرها، ثم تعجز عن ذلك. تعيدها مراراً، إلى أن تجلس على سريرها وتجهش بالبكاء.
تقول الشابة اللبنانية لرصيف22: "هذه أقسى مشاعر الوحدة، ألا تجد أحد يساعدك حتى في أبسط أمورك اليومية. منذ قدومي إلى أربيل في العام 2021، أعيش وحيدة في غرفة صغيرة. رغم أن الوحدة لها إيجابيات، لكن برأيي سلبياتها أكثر".
تعمل إيفلين (33 عاماً) في تنظيم الحفلات والمؤتمرات والمناسبات الرسمية، تلتقي بالكثير من الناس يومياً، لكنها تعود إلى غرفتها وحيدةً في المساء: "أحارب الوحدة بالقراءة، أحياناً أحاربها بمشاهدة فيلم سينمائي أو مسلسل، يمضي الوقت، لكن أتخيل لو أنني أشاهده مع شريك. نختار الفيلم سويةً. نضحك مع أبطاله تارة ونحزن معهم تارة أخرى".
أُعجبت إيفلين خلال إحدى الحفلات التي تنظمها بشاب عراقي، تبادلا أطراف الحديث، وأرقام الهواتف: "وعدني أنه سيراسلني لتناول القهوة، انتظرته، كنت أفحص هاتفي المحمول كل دقيقة، عندما تصلني رسالة عبر واتساب أسارع لفتحها. أكتشف أنها من إحدى مجموعات العمل، فيخيب أملي".
"أحارب الوحدة بالقراءة، أحياناً أحاربها بمشاهدة فيلم سينمائي أو مسلسل، يمضي الوقت، لكن أتخيل لو أنني أشاهده مع شريك. نختار الفيلم سويةً. نضحك مع أبطاله تارة ونحزن معهم تارة أخرى"
تحدّق إيفلين بجارتها الحامل، ثم بصاحب محل الخضار، يمر بقرب شرفتها الأرضية، بائع القهوة والشاي الهندي، يعلن قدومه بصوت جرس دراجته الهوائية، يقف ويسألها: "شاي، شاي". تضحك وتقول: "قهوة". تسأله: "ألا تشعر بالوحدة هنا بعيداً عن عائلتك؟". يقدّم فنجان القهوة ويقول: "هذه المدينة لا تتسع حتى لابتسامة، اشربي اشربي".
بعد عدّة أسابيع التقت إيفلين بالشاب العراقي في العمل: "أظهر الكثير من الاهتمام، طلب أن نحتسي القهوة. وافقت، لكن طلبت الذهاب إلى الحمّام قبل الخروج. أمام المرآة بدأت أبحث عن أحمر الشفاه، نعم القليل على الشفّة السفلى ثم العليا، نزمّ الشفتين، انتهينا". تقول لنفسها: "اليوم لست وحيدة".
تضحك إيفلين قبل أن تختم حديثها لرصيف22: "خلال جلوسنا، نظر في عينيّ، أشعل سيجارة، ثم بدأ يسألني عن حياتي إلى أن قادنا الحديث إلى بيروت. قال: أحب هذه المدينة، لأن حبيبتي تسكن فيها حالياً. تعمل في مجال التصوير"، وتضيف: "فوجئت، نطقت جملاً تافهة لا معنى لها: أها حلو حلو كتير، فأجابني: ما هو الحلو؟، قلت: أقصد بيروت حلوة كتير فعلاً".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومينفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومينعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع