شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!

"بقى بنت الشيخ عطية عايزة تدرس فن ومسخرة؟"... الازدواجية المستترة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

"أنا عايزة أمثّل زيّها"... هكذا وببراءة شديدة، صارحتني ابنتي التي تبلغ من العمر ثماني سنوات بأنها تريد أن تصبح ممثلة، كنجمتها المفضلة.

جملة أثق في أنها كانت مجرّد جملة عابرة؛ فهي كل يوم في حال، فبالأمس القريب أكّدت أنها سوف تصير عالمة فضاء، ثم فنانة تشيكيلة، ثم طبيبة أسنان، وجميعها أمنيات كانت تثلج صدري وترسم ابتسامة عريضة على شفاهي، وأنا أردّد لها بكل ثقة: "ذاكري وإقري كتير وانتي أكيد في يوم هاتحققي أحلامك".

 لكنني لم أستطع ترديد جملتي المعتادة عندما صارحتني هكذا ببساطة: "أنا عايزة أمثّل"، لأجدني، دون أن أشعر، أتجاهل الردّ، وكأنها لم تنطق بكلمة، على غير عادتي معها، وهو الأمر الذي لفت انتباهها؛ فكرّرت جملتها بإصرار، ليعرف التوتر طريقه إليّ، فأرد بجملة مقتضبة دون تفكير: "انتي شاطرة. لازم تكوني حاجة أهم من كده".

وأتركها وأنصرف، لتتردّد بداخلي جملتي الأخيرة: " لازم تكوني حاجة أهم من كده"، فأتساءل بدهشة كيف نطقت عبارة كتلك هكذا دون تفكير؟ من التي نطقتها؟ أهي إلهام الجمّال، الكاتبة التي عشقت الفن وحاربت لدراسته؟ أم إلهام الجمّال الأم التي تخشى على ابنتها من عالم اقتربت من كواليسه ذات يوم؟

أسئلة أدخلتني في حيرة شديدة لأسأل نفسي سؤال واضح ومحدد: ما الذي أصابني؟

حين صارحت أبي برغبتي في دراسة فن كتابة السيناريو السينمائي، بادرني بعبارته: "بقى بنت الشيخ عطية عايزة تدرس فن ومسخرة؟"، لأندهش وأردّ بجرأة: "مش الشيخ عطية ده اللي بيسمع أم كلثوم كل ليلة ويهتف من قلبه: الله يا ست؟"

سؤال فتح باباً بداخلي، لأتسلل منه إلى ذكرياتي وأعود لأكثر من عشرين عاماً، وأتذكّر إصراري على الدراسة بأكاديمية الفنون المصرية، بعد الانتهاء من دراستي الجامعية. أنا الفتاة الريفية، بنت شيخ الجامع، في قرية صغيرة بعيدة، لم يتجرّأ أحد من أبنائها على الاقتراب من عالم الفن. لكنني كنت قد أصبت بداء الكتابة منذ نعومة أظافري. عشقت غزل الحكايات وتفتح خيالي على صوت زوز نبيل يأتيني من راديو صغير، يستقر في فتحة بجدار طيني بسيط وهي تردد جملتها الخالدة: "بلغني أيها الملك السعيد ذو الرأي الرشيد أن ... ".

لأتوه في حكايات ألف ليلة وليلة، وأنتظر بشغف ولهفة مسلسلات الإذاعة التي ارتبطت بها أمي، وحرصت دوماً على سماعها قبل أن يعرف التليفزيون طريقه لدارنا في حدث تاريخي مميز، فتبدأ رحلتي مع برامج الأطفال، واليوم المفتوح، ومسلسل السابعة والربع مساء، وأفلام الأبيض والأسود؛ التي حلمت بسببها أن تتحول شخوص حكاياتي إلى أناس من لحم ودم على شاشة كبيرة أو صغيرة، لا يهم، فالمهم عندي أن يتوحّد معها الجمهور كما توحّدت أنا مع أبطالها.

أذكر أنني حينما صارحت أبي برغبتي في دراسة فن كتابة السيناريو السينمائي بأكاديمية الفنون، بعد انتهائي من دراسة الآثار المصرية بجامعة القاهرة بتفوّق؛ بادرني بعبارته التي لازلت أحفظها عن ظهر قلب: "بقى بنت الشيخ عطية عايزة تدرس فن ومسخرة؟"، لأندهش وأردّ بجرأة ووضوح دون تردد أو خوف: "مش الشيخ عطية ده اللي بيسمع أم كلثوم كل ليلة ويهتف من قلبه: الله يا ست؟".

ليصمت أبي قليلاً وترتسم على وجهه ابتسامة لازلت أذكرها جيداً قبل أن يردّد عبارته الأشهر: "غلبتيني يا بنت الكلب"، وهو ما اعتبرته موافقة ضمنيه على بداية رحلتي التي اقتربت فيها من مختلف الفنون، فدرست فنّ السيناريو والبالية والمسرح والموسيقا. عرفت خبايا المدارس الفنية التشكيلية المختلفة، وعرفت أقدامي طريق استديوهات التصوير والمسارح وقاعات الفن التشكيلي وحفلات دار الأوبرا المصرية.

لا أعرف شيئاً ولا أثق في شيء سوى أنني سأظل أحب ابنتي مهما أرادت، وسوف أظل درعاً واقياً لها حتى لو اختارت طريقاً يتعارض مع قناعاتي

زرت متاحف ومعارض، واستمعت لأساتذة الفن ونقاده. قرأت وكتبت مقالات نقدية، وحاورت وصادقت فنانين ومخرجين وكتاب. كتبت القصة والرواية واتقنت فن الحكي، فلماذا خفت وانقبض قلبي لجملة صغيرتي هكذا، وأنا التي تأسر قلبي جملة موسيقية عابرة، وتثير غيظي جملة أدبية أهداها الوحي لكاتب غيري، وتدمع عيناي لمشهد تمثيلي أبدع مؤديه لدرجة توحّد مشاعري معه. فما الذي أصابني بعد أن أصبحت أماً؟

هل هو خوفي على ابنتي من حياة صعبة ومجتمع لا يشبهها، أم أنه انتصار لتديّني؟ لكنني لم أنظر يوماً كغيري نظرة تحريم للفن، أنا التي تذوب عشقاً في تحية كاريوكا وسامية جمال، وقدّمت واجب العزاء في رحيل أحمد زكي، وبكيت بالدموع الساخنة وردة الجزائرية، وتدعو بالجنة لكل من وهبنا المتعة والضحكة ورقي الروح.

 لم أحرّم الفن يوماً، ولم أنظر له نظرة احتقار أو تعاملت مع صنّاعه بدونية. لم أقف حارساً على الجنة كغيري من الذين يدعون الإيمان، لأهبها لمن يتفق معي وأطرد منها من يختلف عني.

أعتزّ دوماً بحجابي وأحبه، لكنني لم أجعله يوماً حاجزاً بيني وبين تذوق الفن وجماله. أضع حدوداً لتعاملاتي، لكنني أبداً لم أكن معقدة أو عدوانية، فماذا حدث لي؟ هل أحمل بداخلي، كغيري من المصريين، إزدواجية طالما حاربتها؟

أذكر أنني ذات يوم حاورت الراحل محمود رضا، مؤسس فرقة "رضا للفنون الشعبية"، وأول راقص عرفته المسارح المصرية وشاشة السينما. يومها جلست في شقة عتيقة بمنطقة وسط البلد وأنا منبهرة بكل جزء فيها، فهناك كانت تجري الفرقة بروفاتها في سنوات مجدها.

صارحته حينها بعفوية: "تعرف حضرتك إني كان نفسي أكون موجودة وقت تأسيسك للفرقة، أكيد كنت هاكون واحدة من أفرادها. أنا بأحب الرقص جداً وكتير كنت بأقلد بطلتها فريدة فهمي في رقصاتها"، فنظر لي بدهشة غمرت ملامحه وهو يعلق على حجابي، وردّد: "غريب إني بأسمع الكلام ده من بنت محجبة".

هل هو خوفي على ابنتي من حياة صعبة ومجتمع لا يشبهها، أم أنه انتصار لتديّني؟ أنا التي تذوب عشقاً في تحية كاريوكا وسامية جمال، وقدّمت واجب العزاء في رحيل أحمد زكي، وبكيت بالدموع الساخنة وردة الجزائرية

فضحكت وقلت بعفوية: "هذه نقرة وتلك نقرة أخرى"،  لتتعالى ضحكاته ويحكي لي أنه حينما فكر في تأسيس فرقة استعراضية تقدم رقصات من التراث المصري الصعيدي والفلاحي والشعبي، بشباب وبنات من مصر، وجد في البداية صعوبة شديدة في إقناع من حوله بفكرته، فأغلب العائلات المصرية لم تكن لتسمح لأبنائها بالرقص حتى لو كان رقصاً شعبياً على مسارح محترمة وليس في النوادي الليلية.

وأضاف: "ذات ظهيرة كنت استقل تاكسياً وفتح السائق حواراً معي، وعندما سألني عن وظيفتي أجبت باعتزاز: رقّاص، فاتسعت عيني السائق وفاه من فرط دهشته".

ضحك الراحل محمود رضا وهو يتذكر تفاصيل المشهد ويقول في حواره معي الذي نشر في 2005: "وجدتها مناسبة لأعرف رأيه في تاسيس الفرقة، وأخبرته أنني أبحث عن فتيات لتدريبهن وما اذا كان يعرف إحداهن، فرد قائلاً: حتى لو أعرف، لن أوافق على رقصها حتى لو كان استعراضيا كما تقول. فسألته: في أفراح عيلتك بتجيبوا مين يحي الفرح؟ فرد: رقاصة طبعاً. فأضفت: وبتتفرّج عليها وانت منبهر ومعجب صح؟ فرد مجيباً بحماس: طبعاً. فقلت متعجباً: سبحان الله و مع ذلك ما تحبش بنتك أو أختك تشتغل رقاصة؟".

شعرت فجأة أنني أصبحت مثل هذا السائق. أبدي إعجابي ومحبتي بالفن طالما كان بعيداً عني، لكن حينما يلمس ثوبي، أستنكره وأرفضه وأعلن اعتراضي عليه.

أسأل نفسي: هل وافق أبي على دراستي للفن لأنها كانت دراسة فقط؟ ماذا لو كنت صارحته ذات يوم برغبتي في الرقص الاستعراضي مثلاً، كما صارحت محمود رضا في لحظة ودّ متبادلة، هل كان سيوافق أم كان سيتبرّأ مني كما تبرّأت عائلة سناء جميل منها ذات يوم؟ أم أن تمسّكي بحجابي وبثقافتي الدينية واعتزازي بأصلي وعاداتي الريفية، رغم سنوات طويلة عشتها بالعاصمة، هو من شفع لي عنده ودفعه لمنحي تأشيرة الدخول؟

أسئلة أوصلتني لغيرها: ماذا لو كبرت طفلتي ورفضت ارتداء الحجاب، أو تأكد بداخلها رغبتها في ممارسة الفن تمثيلاً أو غناء أو رقصاً؟

حقا لا أجد إجابة بداخلى الآن، ولا أعرف سوى انقباضة بقلبي لا أنكرها من مجرد التخيل، ولا أعرف إن كانت تلك الانقباضة بسبب ازدواجية دفينة بداخلي كشفتها الأمومة، أم أنه الخوف الفعلي عليها من حياة صعبة اختبرتها في رحلة بحثي عن فرصة لدخول عالم الفن ككاتبة سيناريو، لكنني لم أتحمّلها؛ فآثرت التنازل عن حلمي.

لا أعرف شيئاً ولا أثق في شيء سوى أنني سأظل أحب ابنتي مهما أرادت، وسوف أظل درعاً واقياً لها حتى لو اختارت طريقاً يتعارض مع قناعاتي.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

بالوصول إلى الذين لا يتفقون/ ن معنا، تكمن قوّتنا الفعليّة

مبدأ التحرر من الأفكار التقليدية، يرتكز على إشراك الجميع في عملية صنع التغيير. وما من طريقةٍ أفضل لنشر هذه القيم غير أن نُظهر للناس كيف بإمكان الاحترام والتسامح والحرية والانفتاح، تحسين حياتهم/ نّ.

من هنا ينبثق رصيف22، من منبع المهمّات الصعبة وعدم المساومة على قيمنا.

Website by WhiteBeard