ليس يوماً اعتيادياً. الشارع تحوّل وفقد كُل ما كان عليه. المقاهي باتت متناثرةً في شارع الحمرا في بيروت؛ كيفما نظرت هناك محالٌ مقفلة عُلّقت عليها ورقة "للإيجار"، لمن استطاع إليه سبيلاً. لكنّ هذا التغيّر النافر عن البارات المزدحمة ليلاً والموسيقى الصّاخبة، لم يغيّر من أمرها في المكان.
"هم" أطفال شارع الحمرا. الناس يطلقون عليهم "أطفال الشوارع". حوّلهم الشارع إلى ظلال. ظلالهم انصهرت فيه حتى ظنّ روّاد المكان أنّهم كيان واحد. يلعنهم صاحب الحانوت عند الزاوية لإزعاجهم زبائنه، وربما يعلّق عليهم -لا على جشعه- خيبته لخسارة صفقة أخرى. هكذا نحن، نبحث دائماً عن "علّيقة" لخيباتنا.
على الطرف الآخر، شاب يمرّ مسرعاً بجانب الظلّ الصغير. لم يرَ العنق الممدودة، وهو يركض، كحالنا جميعاً. لا يدري لماذا يخطو مسرعاً على نغمات ما يسمع في عالم هاتفه الذكيّ، وعبر سمّاعتيه الذكيّتين. انساب الظلّ الصغير وتسلّق حافة الصرّاف الآليّ. بدأ يضغط على المفاتيح، وبفرح؛ تلقّف الورقة من الفم الدقيق للصرّاف.
من خلف، سألته عمّا يفعل، فاستدار وأجاب بجدّية: "عم جيب مثاري". هكذا تعرّفت على سهيل، ابن الخمسة أعوام. وانضمّت إلينا رفيقته منتهى، أو كما يناديها رفاقها "سلّولة". سلّولة، 9 أعوام، تبيع الكمامات برفقة أمها وثلاثة من أشقائها. ترتدي زيّ قراصنة على شكل فستان، بالأحمر والأبيض والأسود، وبنطال جينز. "بيتنا حلو كتير، ونظيف"، بحماسة تخبرني سلّولة عن منزلها في منطقة الأوزاعي في بيروت، وهو مكون من غرفتين تأويان تسعة أنفس.
عالم موازٍ
ودّعتهما ومشيت في عالم موازٍ، شارع موازٍ، مضرّج بدمع، وعرق، وتبغ المارّين، وأحلام العابرين. التواصل مع هؤلاء الصغار تحدٍّ غريب، ليس لأنهم يرفضون الحديث. أبداً. لكنهم بانصهارهم مع المكان أمسوا مثله، إمّا ساكنين بشكل مريب، أو صاخبين، فتفقد القدرة على التمييز بين العناصر.
في الطريق، التقيت بها، آية (16 عاماً)، الطفلة الشائخة. بابتسامة قبلت الحديث معي، وبقيت واقفةً بعيداً، وحذرةً. شابكةً السبابتين أمام بطنها، كانت تؤرجح يديها تارةً إلى أمام وتارةً إلى خلف. لفتت انتباهي آثار الجروح المتشابكة على معصمها الأيسر. طلبت الإذن لتصويرها، فعلّقت: "هذا نتيجة ما مررت به في هذه الحياة".
أخبرتني بالقليل عنها. لكنه كان كافياً لأعود في اليوم التالي باحثةً عنها في الأحياء والشوارع الفرعية، حتى وجدتها. "أنا من أول ما خلقت بالشارع"، تحكي لي آية، و"إمي كانت تاخدني بحضنها، وأوّل ما صرت إمشي وواعية، فلتوني لحالي". آية من اللاذقية في سوريا، هي وإخوتها الثمانية وأهلها جميعاً من معدومي الجنسيّة، أو مكتومي القيد. بعبارة أخرى، غير موجودين.
"أنا إذا حدا موّتني ما حدا بيعمل شي"؛ تقول آية بحرقة وهي تسرد المرّات الكثيرة التي تعرّضت فيها للضرب من قبل مجهولين في الشارع من دون أيّ تدخل من أحد لنجدتها. لم تكن الجلسة مع آية حوار تقصٍّ، كانت الكلمات تخرج منها تلقائياً. زُوّجت آية في عمر الـ14، ودام زواجها عشرين يوماً قبل أن تهرب. بصعوبة وافق والداها على الطلاق، وعادت إلى الشارع، فزوجها السابق كان يريد إجبارها على العمل كـ"حَجيّة"، كما يطلق على راقصات اللّيل.
وجودها وعائلتها في لبنان قديم، فهم من زمن ما قبل الحرب، يأتون إلى بيروت "تهريب" للعمل سبعة أشهر، ويسافرون عائدين إلى منزلهم في اللاذقية. هنا وهناك وأينما حطت رحالهم، العمل هو نفسه، في الشارع. "لإيمت حنضل هيك؟"، تسأل آية.
ثمّ تكمل: "مرّة واحد بالشارع بكّاني". بلهفة سألتها عمّا فعل، ظنّاً منّي أنه قد وجّه إليها إهانةً ما، لكنها أكملت موضحةً: "قال لي، مش حرام بنت متلك تكون هون، ليش ما بتشتغلي"، توقفت قليلاً عن الكلام، ثم نطقت الجملة التي أبكتها في ذاك اليوم: "بالآخر قال لي: بس أنا بعرف إنو ما ذنبك".
قضاء وقدر؟
شرحت آية طبيعة حياتهم كـ"نوَر"، حيث النساء مسؤولات عن إحضار المال للرجال، الذين بدورهم لا يقومون بأيّ دور. "بيتنا بسوريا من تعبنا أنا وأخواتي، ونحنا هون عم نتعب لنزوّج إخواني الشباب، ونحنا ما إلنا شي، أوّل واحد بيجي بيلحشونا وبيجوزونا". دوّامة لا تنتهي، فعاجلاً أم آجلاً ستتزوّج من أحد أقربائها، وستكمل عملها في الشارع، وسترزق أطفالاً ليعملوا معها في الشارع أيضاً وهكذا "ما بتخلص، ما رح تخلص".
بيتنا بسوريا من تعبنا أنا وأخواتي، ونحنا هون عم نتعب لنزوّج إخواني الشباب، ونحنا ما إلنا شي، أوّل واحد بيجي بيلحشونا وبيجوزونا
حصلت آية على عروض عدة لعمل حقيقيّ، من بينها عاملة تنظيف وموظفة صندوق في إحدى الشركات في سوريا، لكنّ والدها رفض السماح لها بالعمل، قائلاً إنّ "الشغل عيب للبنت". تستهجن جواب والدها قائلةً: "والشحادة مو عيب؟ هاد اللي نحنا فيه شو؟". وردةٌ في حقل من شوك. تحاول الصمود بنقائها: "كتير بخاف عحالي"، تقول وهي تخبرني عن قساوة الشارع والخوف الذي يعتريها في ظلماته الموحشة.
قالت بيأس يغمره أمل مخنوق، إنها تنسى، أو تُنسي نفسها ما بها، لتحيا. أحياناً، كلّما استطاعت انتزاع عزلة لنفسها، تجلس وحيدةً، تبكي لتفرغ بعضاً من حسرتها. تعزّي نفسها بكلام "إيجابيّ": "بقول لحالي، أنا مش هيك، أنا قويّة، أنا منّي متلن".
أحد أصحاب المحال قال عند سؤاله عن حالهم وهؤلاء الأطفال: "الشارع يُعلّم كل شي"، في إشارة منه إلى الانحلال الأخلاقيّ والشتائم التي يلقيها الأولاد على مسامعه. نعم، يعلّم كل شيء، حتى الحكمة. "سألت أبي لم لا نعمل ونكسب المال مثل بقيّة الخلق؟ فأجابني: هيك الله خلقنا"، و"هل هذا صحيح؟"، جمدت عيناي تحدقان في عينيها العسليتين، السؤال موجّه إلي، لكني لم أستطع الإجابة.
عند سؤالها عمّا تتمنّى في هذه الحياة، أجابت: "لا أتمنى مالاً، ولا سيارات ولا بيتاً ولا ثياباً. بتمنّى بس نمشي الناس تحترمنا، تشوفنا، وتحترمنا". آية، وعليا، وإيمان، وسهيل، وسلّولة، ويوسف، وصقر، وأسعد، وغيرهم كثر، أطفال فقدوا الطفولة قبل امتلاكها.
سبات رسميّ مزمن
أين دور الدولة؟ سؤال بديهيّ. لكن الدولة غائبة هنا أيضاً. ليست مفاجأةً طبعاً. في العام 2001، تمّ إنشاء وحدة مكافحة عمالة الأطفال في وزارة العمل اللبنانية. غاية الوحدة هي التنسيق بين البرنامج الدولي للقضاء على عمالة الأطفال (IPEC) ومنظمة العمل الدولية والمجلس الأعلى للطفولة. لكن الحال هو الحال. لا بل أسوأ.
أعداد الأطفال العاملين بشكل عام، والعاملين في الشارع بشكل خاص، في تزايد، كما أكّدت مسؤولة الحماية لمنطقة بيروت وجبل لبنان إسراء رعد، في جمعية طفل الحرب (War Child Holland) والتي لم تشهد أيّ تعاون من قبل وزارات الدولة خلال السنوات الأربع من عملها هذا، إلّا في تزويدهم ببعض البيانات التي تحتاجها برامج الجمعيّة الداعمة للعائلات الأكثر فقراً.
يشكل الأطفال من الجنسيّة السوريّة نحو 89% من مجموع الأطفال العاملين ضمن بيروت وجبل لبنان
الجمعيات الأهلية والإنسانية تضافر جهودها للعمل على تحسين الوضع المعيشي والنفسي والتعليمي للأطفال العاملين في الشارع، بأمل انتشال، ولو نسبة صغيرة منهم، من هذا المستنقع، وحمايتهم من كل أشكال الاستغلال، من خلال برامج تعليمية، وجلسات دعم نفسيّ، وحلقات توعية للأطفال وذويهم.
تُعبّر إسراء عن صعوبة التواصل مع الأولاد أوّلاً، وذويهم ثانياً. فالأطفال في معظمهم، في الجلسات التوعوية التي تنظمها الجمعيّة، يدافعون عن الأسلوب العنيف والضرب الذي يمارسه أهلهم بحقهم، وارثين عنهم فكرة "أن الأهل يحق لهم هذا لتربيتهم بالشكل الصحيح".
أمّا في ما يتعلّق بأهالي هؤلاء الصغار، فالمهمّة تغدو أكثر صعوبةً. فهم يربّون كما تربّوا. يعاقبون كما عوقبوا. متمسكون بنقل "الإرث" لأجيال وأجيال قادمة. وحتى عند تقديم الجمعيات العروض لهم بالتكفل بتعليم أطفالهم وتنشأتهم لإنقاذ ما تبقى من طفولتهم المغتصبة، فمعظمهم يرفض. والسبب، أنّ هؤلاء الصغار هم رأسمالهم.
في آخر دراسة أجرتها اليونيسيف في العام 2015، وبناءً على طلب من وزارة العمل اللبنانيّة، وغطّت 18 قضاءً، أظهرت أنّ ثلثي الأطفال في شوارع لبنان هم من الذكور. كما هي الحال حالياً حسب إحصاءات جمعيّة طفل الحرب. حسب بيانات الجمعيّة نفسها، يشكل الأطفال من الجنسيّة السوريّة نحو 89% من مجموع الأطفال العاملين ضمن بيروت وجبل لبنان.
أمّا بخصوص وجود شبكات منظمة تقوم بتوظيف عدد كبير من هؤلاء وتوزيعهم على المناطق، فالجمعيات حالها حال الجميع، تسمع الكثير عنها، لكن ليست هناك أدلّة ملموسة، وإن توافرت الأدلّة، فدور الجمعيّات وقدرتها على التدخل محدودان جداً.
أيّام محفورة على أجساد رقيقة
تتعدد الأسباب التي تدفع بالبعض للّجوء إلى الشارع والتسوّل، منها الثقافة المتوارثة وأسلوب العيش، كحال آية ومن ينتمي إلى "النّوَر"، ومنهم بسبب العوز وقلّة الحيلة، والحروب والتهجير والنزوح، وبعضهم ربما بدافع الكسل. الأسباب كثيرة والنتيجة واحدة: طاقات مهدورة ومستقبلٌ بائس.
بالنسبة إلى الجمعيات، توضح إسراء، أنّ الواجب الفرديّ يحتّم عليهم عدم تشجيع الأطفال على العمل في الشارع، لذا فالقاعدة الذهبيّة هي "ألّا نعطيهم المال وألّا نشتري منهم أيّ شيء". وفي الوقت نفسه، تُعبّر إسراء عن الدوّامة التي تقع هي نفسها فيها، فهي تعرف أن معظمهم مرغمون على هذا العمل وهناك من ينتظرهم آخر اليوم لحصاد الغلّة والعصا بيده.
هذا ما أخبرتني به آية، شاكرةً الله على إحدى مزايا والديها: "الحمد لله إنو أهلي (وضمّت السبابة والإبهام أمام عينها اليمنى) شويّ مناح"، (مع تشديدها على "شويّ")، وهذا لأنهم لا يضربونها هي أو أخواتها في حال عودتهنّ إلى المنزل من دون المبلغ المطلوب، كما يحدث مع معظم رفاقها من الأطفال في الشارع.
عاجلاً أم آجلاً ستتزوّج آية من أحد أقربائها، وستكمل عملها في الشارع، وسترزق أطفالاً ليعملوا في الشارع وهكذا "ما بتخلص، ما رح تخلص"
خلال الجلسات اليوميّة، تصف إسراء الحالة النفسية للأطفال: "جميعهم تقريباً يعانون من قلق مزمن وخوف وانعدام مفهوم الأمان. كل يوم نواجه حالات لأطفال تدمي القلب، وتكاد لا تُنسى"، تقول وهي تسترجع مشهد طفلة في الحادية عشرة من عمرها، تصرخ باكيةً، ورافضةً الخروج من المدرسة للصعود إلى الباص، "صارت تبكي وتقول: أنا ما عندي بيت روح عليه، عندي حبس بنضرب فيه"، وفي اللّحظة نفسها كشفت الطفلة عن بطنها ليشاهد الجميع آثار أيّامها محفورةً على جسدها الرقيق.
عند سؤالها عما تطمح إليه الجمعيّة في ظلّ كل التحديّات والمعوقات الثقافية والاقتصادية وغياب الدعم الرسمي، تقول إسراء: "إذا استطعنا إنقاذ 10 إلى 20 طفلاً وطفلةً في كلّ مشروع فهو إنجازٌ بالنسبة لنا".
أحياناً نقف عاجزين، مجتمعاً وأفراداً، خاصةً أمام ظاهرة متجذّرة كعمالة الأطفال في الشارع والتسوّل. لكننا على الأقل، قادرون على رؤيتهم، إن أمعنّا النظر في الهوامش. وبإمكاننا الكفّ عن الهرب من النظر في عيونهم البريئة، ونحن نقول لهم: "الله يعطيك".
بعض الأحلام الصغيرة للأطفال
سهيل (5 سنوات): أن أشتري "بسيكلاتة".
عليا (8 سنوات) : أن أصبح دكتورةً لمعالجة أخي الذي لا يستطيع المشي.
سلّولة (9 سنوات): أن ألعب، وأن آكل طبق أرز ولحم.
أسعد (11 سنةً): ألا نحتاج إلى أحد، وألا يهددنا أحد بطردنا من المنزل، وأن أمتلك هاتفاً.
سارة (13 سنةً): أن أصبح شرطيةً لمنع الناس من فعل ما هو "عيب".
إيمان (13 سنةً): أن أعمل معلّمةً.
آية (16 سنةً): أن نمشي مثل الناس.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ 3 ساعات??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 23 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون