"في طفولتي كنت مقتنعاً بأن المطاف ينتهي على القمر بكل شيء يُفقد على الأرض، ومع ذلك فإن رواد الفضاء لم يجدوا هناك أحلاماً ضائعةً ولا وعوداً كاذبةً ولا آمالاً محطمةً". (إدواردو غاليانو)
إن لم تكن هناك أشياء على القمر، فأين هي؟...
تتحطم الأحلام في المجتمعات العربية من داخل المنزل، من رب الأسرة نفسه عندما يحاول فرض أفكاره ومعتقداته وآرائه على أطفاله بالقوة والترهيب.
من المنزل العربي التقليدي تبدأ حكاية أغلق عقلك، ولا تتجرأ على التفكير.
إنه صيف 2005، كنا خمسة مشاغبين في الحي، نلعب بكرةٍ اشتريناها من بقالة العم "أبو مروان"، وكنا نجتمع دوماً ونتساءل في ما بيننا: كيف سنصبح في المستقبل؟ دائماً كان جوابي المعتاد أمام رفاقي في الحي أني سأصبح طبيباً معروفاً، فهذه رغبة أمي الجامحة.
كنت أخاف دائماً من حلمي، ومن أن يشتمني رفاقي، فمجتمعنا الذكوري دائماً ما يطلق الأحكام من دون هوادة.
تتحطم الأحلام في المجتمعات العربية من داخل المنزل، من رب الأسرة نفسه عندما يحاول فرض أفكاره ومعتقداته وآرائه على أطفاله بالقوة والترهيب. من المنزل العربي التقليدي تبدأ حكاية أغلق عقلك، ولا تتجرأ على التفكير
أعود الى البيت بإنجازات طفل صغير متعب، وأستلقي على فراشي الدافئ، وأفكر في رغبتي وحلمي بأن أصبح مصمماً للأزياء. لكن دائماً عندما كنت أتحلى بالشجاعة وأخبر والديّ، أُقمَعُ بالجملة الأبوية المستعملة دائماً: "إي لأنو رح تطعميك خبز"، أو "شو بدن يقولوا عنا الناس ورفقاتنا... أنت بدك تكسر من مكانة عيلتنا المثقفة؟".
كنت أهرب دائماً إلى فراشي ويعتري وجهي البؤس والحزن وأذهب باكياً إلى أحلامي الضائعة، فأنا طفل أخاف دوماً من وضع مسؤوليات كبيرة على عاتقي. كانت أمي دائماً تقول لجاراتها: "ابني رح يصير طبيب معروف، أي لكان خليها بكرا تطق أم أحمد، نحنا منخلف دكاترة مو كهربجية".
ما هو ذنبي في هذه البلاد، لئلا أستطيع أن أحلم؟ أم اعتدنا على قلة الأشياء من حولنا؟
أما أبي فيسترسل في حديثه الدائم عني في المضافات أمام رجال الحي، بأن ابنه الطبيب المستقبلي سوف يكون طبيب الفقراء وسيعالج كل أبناء الحي من دون مقابل، فنحن في محافظة السويداء شعارنا الكرم والنخوة، ومضافات الأحياء تُعدّ مدارس للأجيال المتعاقبة.
ما هو ذنبي في هذه البلاد، لئلا أستطيع أن أحلم؟ أم اعتدنا على قلة الأشياء من حولنا؟
لم يجد الأهل أحلامهم الضائعة، فقرروا أن يفرضوها على أبنائهم بلغة الجموح والتسلط.
أصبحت أكره المستشفيات، فرائحتها تذكّرني بأحلام أبي وأمي. أصبحت أخاف من الطبيب، وثمة شيء واحد فقط يعجبني فيه، هو بدلته البيضاء المطرزة على جانبيه بشكل انسيابي وكأنها لوحة مرسومة بيديّ بيكاسو.
في تلك المرحلة من عمري، حلمت بتحقيق شيء من فضاء شخصيتي وحاولت وسعيت جاهداً لتحقيقه بالرغم من سلطة والديّ، ولكن للأسف لم يتحقق ذلك، لذلك توقفت عن رسم أحلام أخرى لفترة كبيرة وشعرت بالبؤس والحيرة والخوف، ولكن الحياة تأخذنا دائماً في موجات عالية تنقلنا من الأعلى إلى الأسفل بطرفة عين. كثيراً ما نظن أن الأشياء التي طالما حلمنا بها لن تتحقق. تتراكم الأحلام الجديدة وتبقى الأحلام الأولى عالقةً دائماً كما هي في ذاكرتنا.
لم يعد لدي الجرأة على أن أحلم في وطني. بيوتنا أصبحت هشةً، وأوطاننا تُقمَع وحرياتنا تغيب مع الريح. كيف لي أن أحلم بمجتمع خالٍ من الهشاشة النفسية، وكل يوم تُسلَبُ منا الطفولة، ونتحمل أعباءً ومسؤولياتٍ أكبر من أحلامنا الطفولية.
لم يعد لدي الجرأة على أن أحلم في وطني. بيوتنا أصبحت هشةً، وأوطاننا تُقمَع وحرياتنا تغيب مع الريح. كيف لي أن أحلم بمجتمع خالٍ من الهشاشة النفسية، وكل يوم تُسلَبُ منا الطفولة، ونتحمل أعباءً ومسؤولياتٍ أكبر من أحلامنا الطفولية
قبل الخلود إلى النوم، يراودني السؤال: إن لم تكن هذه الأحلام موجودةً على القمر، فأين هي إذاً؟ حينها أذكر دوماً جواب إدواردو غاليانو: "… هي قوةٌ في داخلنا. إن قوة الإنسان وإدراكه يظهران من خلال أصعب اللحظات التي يمر بها في حياته، ومنها تكون الانطلاقة الحقيقية والمنعرجة في اتجاه نيل أسمى المراتب والعلو في ذاته وحياته".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...