يحاول سعيد تذكير ابنه ذي التسع سنوات بأن ينادي أمه بـ"ماما أو أمي"، بدل كلمة "آني" أي "الأم" بالتركية.
وليست "آني" هي اللفظة الوحيدة التي اعتاد الطفل لفظها بالتركية، بل أطلق على كثير من الأشياء في البيت ألفاظاً تركيةً وتحولت لكنته إلى لكنة تركية عند نطقه، بل تطور الأمر حتى أصبح الحوار بينه وبين شقيقه خليطاً بين مفردات عربيةً وتركيةً.
يقول سعيد البيطار، وهو سوري مقيم في إسطنبول التركية منذ 6 سنوات، "إن طفله ينسى مع الوقت الكثير من المفردات العربية، ويجد صعوبةً في التهجئة برغم تركيز والدته على تعليمه اللغة العربية كونها غير موجودة ضمن المناهج الدراسية التركية".
كانت الكتابة والقراءة بالعربية، التحدي الأكبر لسعيد في تعليم ابنه، لكن المشكلة اليوم تفاقمت، إذ صار الحديث والكلام المحكي عبارةً عن مزيج من اللغتين برغم أنه يتعمد وضع التلفاز على قنوات الأطفال "سبيس تون" الناطقة بالعربية.
ما بين 65 إلى 70% من الأطفال السوريين في سن الدراسة تلقوا تعليمهم في تركيا
"استطاعت زوجتي تحفيظ طفلي العديد من سور القرآن الكريم القصيرة والأحاديث النبوية الشريفة، لكن يبدو أن لا مفرّ من ازدياد الخلط بين مفردات اللغتين كون المنطقة التي نسكن فيها ليس فيها الكثير من السكان العرب من جهة، وطبيعة ولدي في الاختلاط الزائد عن حده واللعب بكرة القدم في الحديقة مع أطفال الجيران الأتراك من جهة أخرى"، يضيف سعيد لرصيف22.
مبادئ القراءة والكتابة فقط
لا يختلف حال سعيد عن حال أيمن حجازي المقيم في غازي عينتاب جنوب تركيا، إذ لا يخفي الأخير قلقه من ضعف إتقان أطفاله للّغة العربية، فاللغة المحكية عندهم جيدة، لكن المعاناة تكمن في القراءة والكتابة بالفصحى.
"سجلت طفلَيّ الاثنين في مراكز تدرّس اللغة العربية، لكن ذلك على حساب راحتهما في العطلة الرسمية كون المركز يفتح في العطل الأسبوعية، وكونهما لا يتلقيان مبادئ القراءة والكتابة العربية في المدرسة التركية، فهذا بالنسبة إليهم علم غريب غير متداول في المدرسة وغير مقبول نوعاً ما"، يروي حجازي.
وبرغم احتواء غازي عينتاب التركية أكثر من 460 ألف سوري، إلا أن ذلك أثّر بشكل كبير على تعلّم أبناء حجازي اللغة العربية، فالتعلم مقتصر فقط على المبادئ والتهجئة وفك الحرف ضمن المراكز فقط.
يشير حجازي إلى أن أولاده بعيدون كل البعد عن باقي أساسيات اللغة من قراءة الشعر أو تفسير المفردات البسيطة أو تصحيح الإملاء أو تمييز الأفعال: "عندما كنا في الصف الأول كنا نحفظ عن ظهر قلب أنشودة 'ماما ماما يا أنغاما'، وكم كنا نتمنى أن تكون هناك مدارس عربية خاصة تضاف إليها اللغة التركية لكن القانون التركي يمنع ذلك، وربّ الأسرة محاصر بالمراكز الخاصة التي تعلّم المبادئ فقط، فضلاً عن أن غالبيتها مكلفة مادياً".
مع إغلاق الحكومة التركية مراكز التعليم السورية المؤقتة في عام 2016، وإجبارها الطلاب على الانتقال إلى مدارسها الحكومية وتنفيذها سياسة دمج اللاجئين السوريين، تراجعت اللغة العربية بين الأطفال السوريين، إذ بدا التتريك واضحاً، لا سيما مع انعدام حصص اللغة العربية، فضلاً عن رغبة الأهالي والأطفال المتزايدة في تعلم التركية هرباً من حالات التنمّر وارتفاع الخطاب العنصري الذي ازداد بشكل ملاحظ في الآونة الأخيرة.
في كانون الثاني/ يناير الفائت، صرح الأمين العام لاتحاد المعلمين في تركيا، لطيف سلفي، بأن ما بين 65 إلى 70% من الأطفال السوريين في سن الدراسة تلقوا تعليمهم في تركيا، منبّهاً إلى أن توفير التعليم فقط للأطفال اللاجئين، لا يحلّ مسألة التعليم بشكل كامل.
واعترف سلفي، بأن الأطفال السوريين يواجهون اختلافات ثقافيةً ولغويةً، وحالات من التنمر بين الطلاب، تعززها التجمعات التي يبنيها الطلاب السوريون في ما بينهم، مضيفاً أن التجمعات بين الطلاب تعطل الانسجام في المدارس، وأن الإداريين والمعلمين لديهم مسؤوليات مهمة في هذا الخصوص.
ذوبان مبالغ فيه
تعمل ريما العبد، مدرّسة مناهج تركية في ولاية عينتاب، وتلاحظ خلال تدريسها الأطفال السوريين في تركيا جهلهم الكبير في لغتهم العربية، فحسب حديثها إلى رصيف22، عدد كبير من أبناء الجيل الجديد الذين وإن حافظوا على اللغة المحكية يجهلون في الغالب قراءة العربية وكتابتها.
لا يمكن تجاهل دور الأهل في الحفاظ على اللغة العربية، أيضاً لا يمكن تجاهل الواقع وقرارات الدمج التي أضاعت العربية، وهروب الأطفال من التمييز والمضايقات عبر تعلم التركية
وتحاول العبد استخدام العربية إلى جانب التركية في الكتابة والشرح للأطفال، إلا أنها فوجئت بأن عدداً من الأهالي السوريين رفضوا هذا الأمر وطلبوا أن يكون التعليم والقراءة والمحادثة بالتركية فقط.
تقول العبد "إن هؤلاء الأطفال اليوم لم يعودوا يعانون من صعوبة اللغة التركية التي يجيدونها أكثر من ذويهم، وأكثر من العربية الأم بفارق واسع جداً"، مشيرةً إلى أن "المسؤولية تتوزّع بين الأهل والحكومة التركية، ففي حين لا يمكن تجاهل دور الأهل في الحفاظ على اللغة العربية، أيضاً لا يمكن تجاهل الواقع وقرارات الدمج التي أضاعت العربية، وهروب الأطفال من التمييز والمضايقات عبر تعلم التركية".
ولا يمكن إنكار وجود شريحة من الأهالي الذين ينظرون إلى العربية على أنها لغة قاصرة أو صعبة أو قديمة لم تعد تواكب العصر الحديث، إذ إن كثيرين منهم يتفاخرون بأنّ أولادهم أتقنوا التركية في عمر صغير، فضلاً عن الذوبان المبالغ فيه من الأهالي في المجتمع التركي، خاصةً أولئك الذين حصلوا على الجنسية التركية. من جهة أخرى، فإن الوضع المعيشي المتردي لمعظم العائلات السورية ساهم في توجه أطفالها إلى سوق العمل التركي، والانخراط في ثقافته.
يشير تقرير أعدّته إدارة الهجرة والتعليم في وزارة التربية التركية للعام الدراسي 2021-2022، إلى أن نحو ثلث الأطفال السوريين لا يذهبون إلى المدارس، أي ما يعادل 393 ألفاً و547 طفلاً، معللاً عدم التحاق السوريين بالمدارس، بتفضيلهم الإسهام في ميزانية الأسرة بسبب القصور الاقتصادي الذي تعانيه الأسر السورية.
وبالنسبة للعبد، برغم كل الظروف التي تحيط بالسوريين في تركيا، هي لا تعفي الأهل من مسؤولية جهل أولادهم بلغتهم الأم، فالدروس الإلكترونية من بُعد موجودة لمن لا قدرة مالية لديه على التسجيل في معاهد خاصة أو مدارس تدرّس العربية.
تداخل اللغات
شرعت حياة المصري، وهي أمّ لطفلين وفتاتين، في تسجيل أولادها في دورات تحفيظ القرآن الكريم، بعد أن لاحظت تداخل كلمات تركية وعربية في كلامهم، لعلهم يكتسبون مفردات عربيةً فصيحةً.
تقول المصري (44 عاماً)، وتعيش في أورفا على الحدود الجنوبية لتركيا، لرصيف22: "اشترطت عليهم في البيت أن نتحدث كلنا باللغة العربية، وأن نتابع معاً مسلسل 'كان ياما كان' (مسلسل قصصي يستهدف الأطفال بلغة فصيحة)، وقد وجدتُ أن استعمالهم للكلمات التركية لم يعد كما كان، إلا أننا عدنا إلى المشكلة نفسها بعد الزلزال، إذ اضطررنا إلى المبيت عند أقربائنا في إسطنبول قرابة الشهر، ثم تركنا الحي الذي كنا نقيم فيه وإلى الآن لم أجد دورات جديدةً في الحي الجديد الذي انتقلنا إليه، بالإضافة إلى فتور همتي بسبب انشغالي في أكثر الأحيان بواجباتي المنزلية".
من جهة أخرى، ترى المصري أن الاندماج لا يجب أن يكون حكراً على السوريين فقط، بل على المجتمع التركي أيضاً ألا يبقى متعصباً للغته، وأن يطّلع على الثقافة العربية ولغتها، لأن ذلك سيفتح لهم أبواباً للاتصال مع الشرق الأوسط والاطلاع على علوم العرب، خاصةً في مجال الأدب والشعر، ما يعني أن ذلك يتطلب إدخال العربية في المناهج التركية.
اللغة العربية موجودة في المدارس الرسمية الفرنسية كدروس اختيارية معتمدة منذ العام 1977
في المقابل، لا بد من الإشارة إلى أن اللغة العربية موجودة في المدارس الرسمية الفرنسية كدروس اختيارية معتمدة منذ العام 1977.
اللغة هوية وثقافة
في حديثه إلى رصيف22، يرى المختص النفسي بسام الحوراني، أن اللغة جزء من الهوية والثقافة والعادات، فإذا لم يتعلم الطالب لغته الأم فقد يخسر لغة التواصل والتعبير مع الأسرة، ويخسر فهم الهوية الثقافية الخاصة به، وهذا يؤدي إلى الانطواء والانعزال عن الأسرة الحقيقية.
وأضاف الحوراني أنه مع عدم التركيز على اللغة الأم يصبح من الطبيعي التركيز على لغة بديلة للتواصل مع المحيط فلا توجد وسيلة إلا تلك البديلة، وتالياً سيساعد ذلك على التكيف والاندماج بشكل أوسع مع المجتمع المضيف، وفهم أكبر لثقافته، لكن ذلك لا يعني أنه حقق مكاسب حقيقيةً باعتبار أنه لم يتعلم اللغة الأم.
وحسب الحوراني، فإن البعد الثقافي المتعلق بالأسرة سيتأثر، لأن اللغة ليست وسيلة تواصل فقط، بل وسيلة نقل ثقافة الأسرة وعاداتها وتعاليمها وقواعدها، وستنتج عنه قيود متعلقة بالتعليم وفرص العمل.
ورأى الحوراني أنه يمكن تحقيق توازن ما، بين تعليم اللغات للطفل واللغة الأم، وذلك عبر الاعتماد على التعليم ثنائي اللغة، والتركيز في المدرسة على التواصل بلغة المجتمع المضيف، وفي البيت على اللغة الأصلية، ثم تسجيل الأطفال في مراكز تُعنى بتعليم العربية وتحفيظ القرآن الكريم وزيادة فرص التواصل والتفاعل مع الطفل في البيت باللغة الأم، بالإضافة إلى تشجيع المطالبة بمعلمين ثنائيي اللغة، وتعويد الطفل على القراءة التشاركية للقصص والنشاطات التعليمية الممتعة لتشجيعه على فكرة تقبل التدريب اللغوي.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...